الصحافة

اللامركزية الإدارية والبحث عن النظّارات الضائعة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في لبنان مشكلة يفتعلها بعضهم، بهدوء أحياناً، وبصخب أحياناً أخرى، أو يتبناها آخرون بوصفها شعاراً دارجاً، هي مشكلة استكمال وثيقة الوفاق الوطني بتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة. ولعل آخر ذلك ما جاء على لسان الرئيس نبيه برّي الذي دعا إلى اللامركزية الإدارية واستبعد المالية، والأستاذ وليد جنبلاط الذي استبعد الفدرالية وكل دعوات التقسيم، ورأى العلاج في اللامركزية الإدارية والإنماء المتوازن وتطبيق الطائف، يعني على الأرجح تطبيق الدستور الذي أسيء تطبيقه. وقبل برّي وجنبلاط وجدنا سيادة البطريرك الراعي يردد كلاماً شبيهاً بهذا، ويكاد يكرره في كل مناسبة، فضلاً عن عدد من الساسة والإعلاميين.

مشاريع لامركزية
وفي عهد الرئيس ميشال سليمان، أصدر رئيس الوزراء سنة 2012 قراراً بتأليف لجنة برئاسة الوزير زياد بارود مهمتها وضع قانون للامركزية الإدارية، غير أن هذه اللجنة لم تحاول تطبيق نص وثيقة الوفاق بأمانة بل بدت تنحو نحو الفدرالية. فقد رَمى مشروعها الذي أنجزته سنة 2014 إلى استحداث مجالس منتخبة بالكامل، تتمتع باستقلال إداري ومالي وتزوَّد بالواردات اللازمة، ولا تخضع إلا لرقابة لاحقة محدودة جداً، على أن تعدّ البلديات وحدات لامركزية أساسية لا تمس صلاحياتها ولا أموالها، وعلى أن تُحدّ المساحة اللامركزية بالقضاء، لأن له شرعية تاريخية وقدرة على تأمين الحاجات التنموية؛ واقترح المشروع استحداث صندوق لامركزي "يحل محل الصندوق البلدي المستقل، ويكون أعضاء مجلسه منتخبين، ويعمل وفقاً لقواعد منهجية ولمعايير توزيع (...) موضوعية تراعي ضرورة الإنماء المتوازن وتحفيز النمو المحليّ".

وقد زعم بعضهم أن البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية قد دعا سنة 1975 إلى اللامركزية الإدارية، والحق أن هذا البرنامج لم يأت على ذكر اللامركزية قط، وإن كان قد اقترح بايجاز ما يشبه اللامركزية وليس هو هي، والظاهر أن مؤتمر الطائف قد تأثر باقتراحه ذاك وأدرج قريباً منه في وثيقة الوفاق الوطني. فقد اقترح هذا البرنامج:

إنشاء مجالس تمثيلية إقليمية في المحافظات والأقضية منتخبة لأربع سنوات يكون من صلاحياتها إقرار الموازنات المحلية وتنفيذها بواسطة لجنة دورية يعاونها المحافظ أو القائم مقامه في عملها هذا، وتتمثل في هذه المجالس الهيئات والجمعيات والنقابات العمالية والمهنية والتعاونية والبلدية والثقافية والمعنوية. ويكون لهذه المجالس حق الرقابة على المؤسسات العامة في القضاء أو المحافظة.

إعادة النظر بأوضاع البلديات بإتجاه وضع قانون جديد لانتخابها وفق قاعدة التمثيل النسبي، وتعديل نظام الوصاية عليها بإتجاه تعزيز صلاحياتها وتوفير الحد المطلوب لها من الإستقلال للقيام بدورها كهيئات تمثيلية محلية.

فلما عقد مؤتمر الطائف سنة 1989 جاء في إصلاحاته ما سمي اللامركزية الإدارية الموسعة، وهي تسمية سياسية تسووية خِلْو من معنى، تقع بين اللامركزية الكاملة التي يطالب بها فريق طائفي معروف، وبين استقلال المجالس المحلية المنتخبة في العمل، مع تعزيز صلاحيات البلديات بوصفها هيئات تمثيلية، على ما دعا إليه الفريق الآخر عبر برنامجه المرحلي. وقد جاء في نص وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن المؤتمر المشار إليه، تحت عنوان اللامركزية الإدارية، أن الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية، وأن من المطلوب:

اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دونه) من طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمام، تأميناً للمشاركة المحلية.

اعتماد خطة إنمائية موحدة قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز البلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانيات المالية اللازمة.

فثمة توكيد وتشديد على وحدة الدولة وعلى سلطتها المركزية، ولئن كانت المجالس القضائية منتخبة فهي تظل تحت رئاسة القائم مقام، وليس تحت رقابته فحسب؛ كما أن تعزيز البلديات والمجالس بالقدرات المالية الضرورية ليس نتاج استقلالها المالي، بل هو من منح الدولة المالية وتنفيذ لخطتها الإنمائية الموحدة؛ زد على ذلك أن وثيقة الوفاق اقترحت انتخاب المجالس الموحدة، ولم تقترح انتخاب البلديات. وكل ذلك ليس من اللامركزية بشيء، وهو دون ما طالب به البرنامج المرحلي، فالدعوة إليه ليس دعوة إلى اللامركزية. وكيف يكون قِران بين السلطة المركزية القوية وبين اللامركزية الموسعة؟ وهل يجتمع النقيضان؟

الدولة تطبق ما سمّته لامركزية
ومع هذا فإن الدولة لم تهمل ذلك المطلب، بل طبقته من خلال قانون البلديات الذي صدر سنة 1997، أي بعد انتهاء مؤتمر الطائف بنحو سبع سنين، والذي جرى تعديله عدة مرات كان آخرها سنة 2001 بما يتجاوز نص الوثيقة نفسه، ويقارب نص البرنامج المرحلي، مع تفاصيل كثيرة هامة تجعل للمجالس البلدية شخصية قانونية مستقلة وفاعلة، من غير الخروج عن وحدة الدولة، ومع البقاء في منزلة وسطى بين المركزية واللامركزية، فلا تستجاب دعوة الطامحين إلى الاتحادية، ولا تبقى الدولة مقيدة بالمركزية القوية التي نصت عليها وثيقة الوفاق، وفي ذلك تطور نوعي ينبغي أن يرضي  ظاهرياً كل الأطراف.

ولقد كان في تطبيق نص الوثيقة في هذا الشأن من طريق قانون البلديات حكمةٌ، لأنه جنّب التعديل الدستوري، ودون التعديل شوك القتاد. ويشتمل هذا القانون على مئة وأربعين مادة، يعنينا منها هنا أن البلدية دائرة انتخابية واحدة، وتتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، ويُنتخب أعضاء مجلسها بالطريقة التي ينتخب فيها النواب، وفي موعد يقرره وزير الداخلية، فيتولى هذا المجلس السلطة التقريرية، ويتناسب عدد أعضائه مع عدد سكان القرية، ويمكن الطعن بصحة انتخابه لدى مجلس شُورى الدولة، ويصدر المحافظ قراراً بقبول استقالة أي من أعضائه، ويعتبر العضو مستقيلاً إذا تخلف عن حضور أربع جلسات بغير عذر شرعي، ويجتمع المجلس بدعوة من رئيسه أو من المحافظ أو من القائم مقامه أو من أكثرية الأعضاء، ويرأس الجلسات رئيس البلدية أو عند غيابه نائبُه وإلا فأكبر الأعضاء سناً، وللمحافظ أو القائم مقامه أن يحضر جلسات المجلس لكن من غير أن يصوت. ويكون من اختصاص المجلس كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة في النطاق البلدي، ويكون لقراراته صفة الإلزام، ولاسيما ما يتصل بالموازنة العامة والقروض والنزول عن بعض العائدات للدولة وفرض الرسوم وتعيين شروط الصفقات وشروط بيع الأملاك البلدية، والبرامج العامة للطرق والتجميل والحدائق والأسواق والمتنزهات وتسمية الشوارع، الخ. وتعد قراراته نافذة باستثناء تلك التي تقتضي صراحةً تصديق سلطة الرقابة الإدارية، أي وزير الداخلية أو المحافظ أو القائم مقامه، وتخضع بلديات مراكز المحافظات لرقابة مجلس الخدمة المدنية. وللبلدية أن تنشئ ما تحتاج إليه من الوحدات الإدارية والمالية والفنية، ومن الشرطة والحرس والإطفاء والإسعاف، وتتكون ماليتها من الرسوم البلدية وما تستوفيه الدولة لحسابها ومن حاصلات أملاكها والقروض والمساعدات والهبات والغرامات والوصايا، ويساعدها على تطوير أدائها ونظامها عدد من الموظفين الذين ينتدبهم وزير الداخلية.

تجاوز لامركزية الطائف إلى ما فوقها
واضح أن هذا القانون يستجيب لما سمي تجوّزاً باللامركزية الإدارية في وثيقة الوفاق الوطني، وفيه تطوير له بما لا يكاد يحتمل المزيد. لكن حين يعلن زياد بارود بعد ذلك بسبع عشرة سنة وأكثر من ذلك، بأن مشروع لجنته يعتمد اللامركزية فعلاً لا قولاً، فذلك يعني أنه كان يدرك أن ما ورد في وثيقة الوفاق ليس لامركزية بالمعنى الدقيق للمصطلح، وأن مهمة لجنته، وفق ما أوحت به تصريحاته، هي إقحام اللامركزية الحقيقية على النظام اللبناني، أي تغييره، وتجاوز وثيقة الوفاق الوطني والدستور، لأن السلطة المركزية القوية لا تنسجم مع اللامركزية الحقيقية، على ما بيناه آنفاً. ولئن التزم بارود القضاء مساحة لمشروعه، فذلك في أغلب الظن مجرد خطوة على طريق اللامركزية الشاملة التي لا تكون إلا في دولة اتحادية، ولا يكون لبنان اتحادياً إلا بتكلّف تقسيم لا شبيه له في العالم كله، لافتقاره إلى شرط تعدد الدول أو تعدد اللغات الناشئة عن تعدد الأصول القومية.

النتيجة
لا حاجة إذن إلى ما زُعم استكمالاً للطائف، والباحث عما سمّته وثيقة الوفاق الوطني لامركزية في لبنان كالباحث عن نظاراتيه وهما فوق عينيه، سواء كان بحثه ناجماً عن سهو أو عن تكلف السهو لحاجة في نفسه. ونذكّر مَن تراوده أحلام تقسيمية أن اللامركزية الشاملة اللصيقة حكماً بالنظام الاتحادي ليست دائماً مخرجاً من الأزمات، بل ربما كانت مدخلاً إلى ما هو شر منها؛ فالفساد في الدولة المركزية لا يزول من طريق الانتقال إلى الدولة اللامركزية، وأن نتائج تطبيق اللامركزية في ألمانيا مثلاً غيره في روسيا؛ ويجب ألا يغيب عن بالنا تاريخ الحروب اللبنانية بين الإخوة سواء في داخل المعسكر المسيحي أو في داخل المعسكر الإسلامي، ولا المجازر التي ارتكبت أثناءها، والتي لا تزال العداوات الناشئة عنها ماثلة أمام الأعين حتى اليوم، والتي أفضت إلى فساد فوق فساد، وانهيار فوق انهيار، الأمر الذي لا يشجع على استقلال المناطق اللبنانية بعضها عن بعض واتخاذ الطائفية ذريعة لذلك.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا