محليات

البرلمان اللبناني: القبائل بمواجهة المؤسسات

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لطالما شكّلتْ "طريقة شغل" البرلمان اللبناني، دعوة صريحة أو مكتومة لإعادة النظر بالعقد الاجتماعي الذي من المفترض أنه يؤسس لحسن سير العلاقات بين مكونات الجغرافيا اللبنانية، بيد أن البرلمان الحالي ولا سيما مع فصول انتخاب رئيس للجمهورية، يشكّل في كل مظاهره ذروة هذه الدعوة الملحة. فنحن مع هذا المجلس لسنا بصدد الحد الأدنى من العمل المؤسساتي المتعارف عليه في كل الدول الحديثة، ذلك أنّ ثمة قبَلية لا تني تستشرس بين مكونات هذا البرلمان الخالي الوفاض.
 

يخبرنا أهل الأنثروبولوجيا وناسها أنّ الشخص في إحدى قبائل غينيا الجديدة، يستعمل كلمة navaalyara لدى الإفصاح عن انتمائه، والكلمة تعني "مَنْ هم مثلي"...
 

إنّ الذاكرة المتحيزة للحروب والتخندق في ولاءات "مَنْ هم مثلي" والإنجرار خلف رأس القبيلة، ترسم حدود العلاقات بين مكونات المجالس النيابية في لبنان تاريخياً، وقد بلغ هذا الأمر مع هذا البرلمان نقطة اللاعودة. فنحن مع هذا البرلمان إزاء ما يشبه الخلية الحزبية في هذا الزاورب من زواريب الحروب اللبنانية المتعاقبة أو ذاك... نعم، نحن مع برلمان نبيه بري الأخير إزاء ميليشياوية تأبى الخروج من تلك الزواريب والخنادق والمتاريس الصلبة المتينة والمعتمة.
 

لا يجافي المرء الصواب إذا ما قال إنّ البرلمان الذي يرأسه برّي منذ ثلاثة عقود يقوم بجملته على إعادة ترميم ذاكرة الحرب الأهلية في لبنان والتي ما انفكّتْ تندلع بين قبائل هذا البلد، على كلّ حال أنّى لفتيان الحروب وشبيبتها والذين قد شاخوا فوق كراسي السلطة منذ ما بعد اتفاق الطائف، أنّى لهم أن يعيدوا للوطن بعامة شبابه؟!! بل ليحسب المرء أنّ هؤلاء يستبطنون رغبة عميقة لا قرار لها في اصطحاب هذا الوطن معهم إلى القبور إلى ما تحت التراب، هذا إذا لم نرد أن نتكلم عن التوريث المشين كما شهدنا فصوله مؤخراً.
 

لا يتعلق الأمر في هذه المادة بتحميل المسؤولية لهذا الفريق أو ذاك، ذلك أن انصهار القبائل في مؤسسة سياسية حديثة دونه الكثير من العقبات كما لاحظ الأمر علماء الاجتماع والسياسة (بيار كلاستر، مجتمع اللادولة)... فالإنصهار في هذا النمط من المجتمعات، أي مجتمعات اللادولة، لا يتمّ إلا على قاعدة ال navaalyara (مَنْ هم مثلي)، ولا غضاضة في هذا السياق من اقتباس هذا النص من "بيت بمنازل كثيرة" للمؤرخ اللبناني كمال الصليبي، الذي يقول: "تبقى العشائرية آخر الأمر، ومهما كان الستار أو القناع الذي تختبىء خلفة، أساساً سياسياً ضعيفاً لبناء مجتمع حديث قابل للديمومة. ولم يكن لبنان الكبير في الواقع... أكثر من تمثال من النحاس المذهّب اللماع ينظر إليه من حوله بدهشة وإعجاب والتمثال يقف على رجلين من خزف".
 

والنافل أنّ قدميّ هذا التمثال قد تحطّمتْ وأن نظرات الدهشة التي كانت تحدّق في هذا التمثال تاريخياً قد استُبدلتْ بنظرات التأفف والملل واللامبالاة حيال المشاكل التي لا نهاية لها بين القبائل المتناحرة. فغاية نشاط ناس هذه القبائل عبر ممثليهم في البرلمان يقوم على اقتناص الفرص – كصيادين مهرة – أو على التعطيل وبالجملة يقوم هذا النشاط بكله على إرجاء هذا اللبنان على الدوم إلى وقت آخر يبدو أن أوانه لم يحن بعد.
 

يجوز في هذا السياق استبدال عبارة "اقتناص الفرص" بكلمات أخرى مثل "الديمقراطية التوافقية"، "طاولة الحوار"، "الأعراف السائدة"، "قوى الأمر الواقع" وإلى آخر ما يحفل به معجم مجلس القبائل هذا من مصطلحات تخالف كل سرديات الحد الأدنى من الدولة الحديثة. ثمة ما يدفع للقول إنّ البرلمان اللبناني هو بمثابة السردية المضادة لكل آليات التشريع التي شاعت تاريخياً.
 

قد تستبدّ الحيرة بالمتابع لدى سماعه هذا المحلّل السياسي أو ذاك وهو يقتفي أثر المصطلح الحديث في العلوم السياسية، أثناء مقاربته للواقع اللبناني ولعمل البرلمان الذي يرأسه نبيه برّي بشكل خاص. يحسب المرء أن ثمة اغتراب هائل بين هذا المحلل، الذي قد يكون طيّب النيّة، وواقع الحال الذي يقوم على "عدّة شغل" جلّ أدواتها لا أساس لها في الدستور، وإن كانت تنهل عميقاً من ثقافتنا الشعبية..."وما تقول فوق ليصير بالمكيول" على كل حال.


على المستوى الشخصي أجدني أقرب إلى معجم آخر، إذا ما أردتّ يوماً التفضّي لمعاينة "الحالة اللبنانية"، معجم شفاف قد تفي عباراته شرح حال هذا البلد، مثل "ثقافة الشعوب الأصلية"، "مجتمع القبائل"، "مجتمعات القرابة" kin-based society وصولاً إلى مصطلح "المصاهرة" مثل الحالة العَو- جبرانية وإلى آخر ما يمدّنا به الدرس الأنثروبولوجي، الذي يعنى بمعاينة بشر ما قبل الدولة الذين "يستمرون في البقاء مجموعة من العشائر البدائية المتناحرة..." إذا ما أردنا أن نستظل العين الثاقبة لكمال الصليبي مجدداً.


قد لا يكون الحس القبَلي على نفس المستوى تاريخياً بين جملة المجموعات اللبنانية بيد أن "مجتمع اللادولة" لا يني يسوّغ التوغل في الروح القبَلية عند هذه المجموعة أو تلك وللغلبة والسلطان وفائض القوة هنا الدور الأبرز.


كتب مارتن لوثر كينغ يقول إنّ الحرب هي إزميل سيىء لنحت الغد. قد تلبّي هذه العبارة الحاجة لوصف هذا البلد ولوصف برلمانه الأخير والذي هو أقرب إلى خط تماس منه إلى مكان للتشريع وسنّ القوانين. لا حدود فاصلة كما يشي عمل هذا البرلمان البائد بين ماضي حروب القبائل اللبنانية ومستقبلها، أما الحاضر فلا يتجاوز أن يكون وجهاً حائراً يوزّع نظراته بين الأمس والغد بخوف وحذرٍ وذعر دائم.
 

ربما البرلمان الذي نحن في حاجة إليه هو ذلك الذي يسعى لتوليد علاقة أخرى مع الماضي، برلمان يجيد فكفكة الهويات المتخيّلة والتي يبدو أنها تشكّل الأفق الأول والأخير لكل من قبائل هذا البلد الطائفية.
 

يخبرنا موريس غودلييه في كتابه "القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدول" أنّ الكلمة الإنكليزية Tribe، مشتقة من كلمة Tribus اللاتينية، وهي المعادل اللاتيني لكلمة phule اليونانية والتي من معانيها "الورقة" وصولاً إلى اشتقاقات أخرى تفيد معاني "التوليد" و"الإستنبات"...
 

إن هذا السرد المضاد الذي يمارسه البرلمان اللبناني لأي ضرب من ضروب المعاصرة ربما يستوجب أن تستولد القبائل اللبنانية رؤى أخرى حيال علاقاتها ببعضها البعض، أو ربما هو يستوجب أن تستنبت هذه القبائل شروطاً أخرى لكيفية وجودها في العالم، وإلا سنبقى في هذا البلد المسكين مجرد ورقة تفاوض بين القوى الكبرى وصولاً ربما لأن نتحوّل إلى ورقة نعوة.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا