مصرف لبنان والتغيير المنشود
ليس تفصيلاً ألا تتمكن الأطراف الممسكة بالقرار السياسي والاقتصادي اللبناني من التجديد او التمديد لرموزها في مراكز القرار، ذلك أن ما يحصل اليوم هو مؤشر على تحولات ومتغيرات في قواعد التعاطي مع الشأن العام. وقد فرضت هذه المتغيرات نفسها على المشهد النقدي والاقتصادي مع خروج الحاكم السابق من حاكمية مصرف لبنان، بعدما تبلورت ملامحها بدايةً من خلال المشهد الأمني والسياسي مع خروج المدير العام السابق من المديرية العامة للأمن العام، والرهان اليوم ان يشمل التغيير كل موقع من مواقع المسؤولية في الدولة وأجهزتها.
وفي تولي النائب الأول لحاكم مصرف لبنان المسؤولية على رأس السلطة النقدية، إنفاذاً للمادة 25 من قانون النقد والتسليف، مُقدمة لتغيير لا بد منه في السياسة النقدية التي اعتمدها الحاكم السابق منذ ثلاثين سنة ونيف، تاريخ تربعه على حاكمية مصرف لبنان. سيما وأن "الحاكم الجديد" سبق واظهر مع بقية نواب الحاكم عدم الموافقة على السياسات النقدية السابقة، وأعلنوا عزمهم على وقف تمويل الدولة بالإضافة الى وقف العمل في منصة صيرفة.
وفي الوقت الذي لم تتبلور فيه بعد ملامح السياسة النقدية التي يعتزم "الحاكم الجديد" تنفيذها، خاصة وأن العبرة في التطبيق لا في العناوين البراقة والنصوص العامة والغامضة، ترتفع الأصوات المشككة بصحة الخيارات التي طرحها، واعتبار دوره امتداداً للسياسات النقدية السابقة. علماً أن المواقف المعلنة لنواب الحاكم تنم عن تمايز جوهري في مقاربتهم للسياسة النقدية الواجب اتباعها، وتدل على تمسكهم بتطبيق أحكام قانون النقد والتسليف.
وكانت السياسة النقدية التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان السابق، على امتداد فترة ولايته، حافزاً للحكومات المتعاقبة على التوسع في نفقاتها العامة. هذه النفقات التي كان يتم تمويلها بشكل رئيسي من خلال سندات خزينة يصدرها مصرف لبنان، بصفته مصرف الدولة، ويكتتب فيها أفراداً ومؤسسات محلياً وحتى دولياً. وذلك من دون التفات المعنيين الى الكلفة المرتفعة التي يرتبها الدين العام، والتي أدت الى عجز الدولة عن خدمة دينها الذي كان يكبر سنة بعد سنة ككرة الثلج.
وبالغ مصرف لبنان في استخدم سعر الفائدة لاستقطاب الودائع لتمويل القطاع العام على حساب التوظيفات الاستثمارية، الامر الذي شجع المصارف على التمادي في المخاطرة التي ضغطت بدورها على استقرار العملة الوطنية. في الوقت الذي كان يتم فيه تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي من دون غيره من العملات الصعبة، الامر الذي تسبب بزيادة منسوب انكشاف الليرة اللبنانية مقابل باقي العملات الرئيسية.
وصولاً الى الهندسات المالية التي هدف من خلالها مصرف لبنان الاستحواذ على الدولار الأميركي من الأسواق المحلية، والتي رتبت بدورها التزامات ضخمة على مصرف لبنان تجاه المصارف. ولم تكن تجربة منصة صيرفة التي ابتكرها الحاكم المنتهية ولايته اقل كلفة من سياساته النقدية السابقة، فهي استنزفت ما تبقى من احتياطي لمصرف لبنان من العملات الاجنبية من ناحية، وتسببت بزيادة الدين العام على الدولة لا سيما منه بالعملات الأجنبية من ناحيةٍ ثانية.
في المقابل، إن وضع حد للسياسات النقدية السابقة هو المعبر الى أي تغيير منشود، سيما وأن جوهر الازمة يكمن في تصاعد دور السياسات النقدية لمصرف لبنان على حساب السياسات المالية، لا بل أضحت الأخيرة تابعة للسياسات النقدية بدل أن تكون الموجه لها. ذلك أن تقاعس السلطة المالية عن تحديد السياسات المالية المناسبة لا تعوضه السياسات النقدية، فتعاون السلطات وتكاملها يبدأ بعد قيام كل سلطة بمسؤولياتها.
انطلاقا مما تقدم، تُشكل العناوين التي أطلقها "الحاكم الجديد" في مؤتمره الصحافي عشية انتهاء ولاية الحاكم السابق منطلقاً مناسباً لإعادة النظر بالسياسة النقدية السابقة، لا سيما منها تعويم وتحرير وتوحيد سعر الصرف. ذلك أن كلفة تحقيق استقرار سعر صرف الليرة منذ ارتفاعه في العام 1992، فاقت مردودها الاقتصادي لافتقارها للمرونة التي تتطلبها دينامية الأسواق النقدية والمالية في ظل تنامي عجز الموازنة العامة وميزان المدفوعات.
وبدلاً من ربط الليرة اللبنانية بسلة من العملات الاجنبية الرئيسية، تم ربطها بالدولار الأميركي وتثبيت سعرها بالنسبة اليه. الامر الذي عرّض الليرة للآثار التضخمية التي واجهها الدولار الأميركي، وخفَّض من القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية المُعدة للتصدير.
حيث شكل سعر الصرف عائقاً امام نمو القطاعات الاقتصادية لا سيما الإنتاجية منها، ما يجعل من تحرير سعر صرف الليرة تدبير لا بد منه يُساهم في زيادة مناعة العملة والاقتصاد الوطنيين.
اما توحيد سعر صرف الليرة فلا مفر منه بعدما لم يعد يقتصر تعدد اسعار الصرف على السعر الرسمي والسعر السائد في السوق الموازية، بل ساهم في تعدده بعض تعاميم مصرف لبنان التي اعتمد كلٍ منها سعر رسمي يختلف من تعميم لآخر. الامر الذي ساهم في تسهيل المضاربة على العملة الوطنية من خلال الفارق بين سعر صيرفة وسعر السوق الموازية من جهة، وتسبب بانعدام العدالة في التعامل مع المودعين والأطراف الاقتصاديين الذين تكبدوا خسائر فادحة مقابل حصولهم على جزءٍ يسير من ودائعهم بالعملات الأجنبية من جهة ثانية.
الامر الذي يتطلب العمل على توحيد سعر الصرف الذي أعاق النشاط الاقتصادي وأربك المعاملات المالية، وفتح الباب واسعاً أمام قلة قليلة للتلاعب والانتفاع غير المشروع على حساب استقرار العملة الوطنية، وكبّد القطاعَات الاقتصادية على اختلافها خسائر كبيرة. وكمقدمة لتوحيد سعر الصرف لا بد من تخلي مصرف لبنان عن الأسعار المتعددة التي اوجدها من خلال تعاميمه، ليُصار في مرحلة لاحقة الى تعويمه ليعبر عن سعر السوق الحقيقية.
أما السعر الذي يجب اعتماده فهو السعر الذي يتكون جراء حركة عرض وطلب العملات الأجنبية في السوق الحقيقية التي يلتقي فيها "تلقائياً" من هم بحاجة للقطع الأجنبي بمن يطلب العملة الوطنية. وهو الامر الذي لم يتمكن القيمون على منصة صيرفة من تحقيقه وتحرير المبادلات فيها، ما جعلها سوقاً مصطنعة يُحدد مصرف لبنان سعر الصرف فيها من دون أن يتمكن من أن يعكسه على السوق الحقيقية.
والى جانب تحرير وتعويم وتوحيد سعر الصرف الذي أعلن "الحاكم الجديد" العمل على تحقيقه، أعلن عزمه أيضاً على وقف تمويل الدولة الا بموجب قانون يُقره المجلس النيابي لتمويل او إقراض الحكومة حاجتها من الدولار الأميركي لدفع رواتب موظفي القطاع العام والأجهزة العسكرية والمتقاعدين بالإضافة الى تأمين الادوية المستعصية وغيرها من التزامات الدولة، سيما وأن هذا التمويل كان يتم باستخدام الاحتياطي الالزامي أي باستخدام أموال المودعين.
وتمويل الدولة من الاحتياطي الالزامي ينطوي على إشكالية سواء تم بموجب قانون يُشَّرع مد يد مصرف لبنان على ما تبقى من أموال المودعين، او استمر على غرار ما كان يحصل حتى عشية انتهاء ولاية الحاكم السابق من دون نص قانوني. وتكمن الإشكالية في أن تمويل الدولة سيؤدي الى تبديد أموال المودعين، سواء تم بموجب نصٍ قانوني او باجتهاد خاص يُفسر أحكام قانون النقد والتسليف. الامر الذي يفرض على حكومة تصريف الاعمال، صرف النظر عن استخدام الاحتياطي الالزامي والبحث عن مصادر تمويل بديلة ومستدامة.
والمخاوف التي تُطلقها حكومة تصريف الاعمال من عدم قدرتها على تأمين رواتب القطاع العام والمتقاعدين بالإضافة الى الادوية المستعصية إذا أوقف مصرف لبنان تمويل الدولة، يتعارض مع ما أعلنه "الحاكم الجديد" في مؤتمره الصحافي، أن عائدات الدولة الشهرية من الرسوم والضرائب تفوق الــ 20 تريليون ليرة لبنانية أي ما يُساوي تقريباً حاجتها لتمويل هذه النفقات. الامر الذي يُشكل فرصة للقيمين على المالية العامة لتغيير مقاربتهم في تمويل الدولة من خلال تفعيل جباية العائدات المستحقة، وتبسيط معاملات الدفع وتطويرها.
وتوقف مصرف لبنان عن تمويل الدولة إلا وفق أحكام قانون النقد والتسليف او بموجب قانون يُقره المجلس النيابي لهذه الغاية، يُزيل عن كاهل القيّمين على مصرف لبنان المسؤولية القانونية عن التصرف بالاحتياطي الالزامي، إلا أنه لا يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية تجاه المودعين وودائعهم. وكان من الأفضل لو أن "الحاكم الجديد" اكتفى بإعلانه التوقف عن تمويل الدولة، عوض دعوتها لاستصدار قانون من المجلس النيابي يتيح لها الاقتراض من مصرف لبنان.
ويؤخذ على "الحاكم الجديد" عدم تطرقه لا من قريب ولا من بعيد، الى مسألة أموال المودعين في القطاع المصرفي ورؤيته لجهة إعادة تكوين الودائع، خاصة وأن تمويل الدولة يتم من خلال مصرف لبنان الذي استقطب هذه الودائع عن طريق سعر الفائدة والخصم وإعادة الخصم. وبعد أن تمكن الحاكم السابق من تعويم المصارف والحؤول دون إفلاسها، حان موعد المحافظة على حقوق المودعين وتمكينهم من استعادتها خلال مهلة واقعية وبنسبٍ عادلة.
في المقابل، إن خروج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية يتطلب جهوداً من السلطات المعنية لا سيما السلطتين المالية والنقدية لكبح انزلاق الأوضاع الى مزيد من التدهور، والعمل على تحقيق الاصلاحات السابق ذكرها. سيما وان الوقت مؤاتٍ للمباشرة بهذه الجهود نظراً لما توفره عودة المغتربين اللبنانيين الى ربوع لبنان من تدفقات بالعملة الصعبة، والتي تُساهم الى حدٍ بعيد في توازن العرض والطلب على العملة الصعبة وبالتالي على الاستقرار الاقتصادي عامةً واستقرار سعر الصرف بشكلٍ خاص.
وعلى الرغم من الحال التي آل اليها مصرف لبنان، يبقى مصرف الدولة ومصرف المصارف بكل ما تعنيه هذه الصفات من مسؤولياتٍ مطالبٌ بالقيام بموجباتها وتحمل تبعاتها. والاستقلالية التي يتمتع بها مصرف لبنان، وامتلاكه الأدوات النقدية لتوجيه السوق النقدية بالإضافة الى السلطة المادية والمعنوية لتنظيم وتوجيه القطاع المصرفي، تُتيح "للحاكم الجديد" بالتحرك ضمن هامش واسع للمساهمة في حل الازمة وتداعياتها.
بقلم - العميد المتقاعد غازي محمود
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|