مشروع موازنة 2023: ضريبة تطال الميت
"تشقيع مليارات"، ربما هو الوصف الأكثر تعبيراً الذي يمكن إسقاطه على مشروع قانون موازنة 2024 العتيدة، وذلك بعد الاطلاع على أبواب الإيرادات والإنفاق فيها، وكيفية توزع الحِمل الضريبي الجديد المدولر، مباشرة
ومواربة، على غالبية الخدمات والمستوردات بما فيها ضريبة على الجثامين المغتربة القادمة إلى أرض الوطن.
موازنة كان لها وفق منتظريها، أن تواكب في بنودها ومندرجاتها وجدواها الاقتصادية والمالية والنقدية مسيرة الإنقاذ والخلاص من "راوح مكانك"، ولكن أتى مشروعها ليواكب الانهيار بالمزيد من الإنفاق المساعد له، ورفع قيمة
الرسوم والضرائب العائقة للنمو، وليحمي الضغوط على النقد الوطني من خلال دولرة بعض العائدات الضريبية، وموازاة بعضها الآخر المدفوعة بالليرة، بسعر صرف الدولار.
يبدو أن سياسة "شراء الوقت" لا تزال ثقافة راسخة لدى السلطة، فيما الإقدام على بناء مسار تصحيحي جدي في سياسة استيفاء المال العام وإنفاقه لا يزال أمراً غير وارد لدى الحكومة والمعنيين فيها، إذ من بين أبواب الموازنة
الكثيرة والمتعددة، وبرغم الظروف الحالية السيئة، لم يرد في المشروع مثلاً، بنداً لإلغاء الإعفاءات الاستثنائية التي تتيحها القوانين، للمسؤولين السياسيين على مختلف مواقعهم، والقضاة، وموظفي الفئات الأولى، والجمعيات الدينية
والاجتماعية والسياحية، التي يعرف القاصي والداني، أنها أحد أكبر ثاني أبواب الهدر المالي بعد التهريب على الحدود، والتهرّب الضريبي، والاستغلال لمنافع شخصية وانتخابية وسياسية.
وأكثر... فإن مشروع الموازنة يتجاوز كل التوقعات الأدبية بمحاولته تمرير "ضريبة على النعوش المحتوية على جثة بشرية"، وفق ما يقول المحامي المقيم في فرنسا رشاد قبيسي الذي أشار إلى أن وزارة المال رأت أن الجثة
البشرية هي "منتج مستورد"، وهو تعريف لم يرد في أي من قوانين العالم من جهة، ثم إنه يمسّ بنحو غير مقبول "كرامة الإنسان المتوفى" وكرامة عائلته من جهة ثانية. وسأل: "هل لجهابذة الوزارة أن يخبرونا ما إن كان هذا المنتج
قابلاً للاستهلاك أو التدوير أو إعادة البيع؟ إلى ذلك رأت الوزارة أن الجثة لها "أثر بيئي" يقتضي أن تكون محلّاً لضريبة بيئية، ويسأل: "هل جثة اللبناني القادمة من الخارج مختلفة عن جثة اللبناني المتوفى في لبنان؟ ولماذا لم
يذهب الجهابذة في غيّهم إلى فرض ضريبة على كل لبناني متوفى في لبنان أيضاً؟ هذه الرغبة برأيه في "نهب" جيوب اللبنانيين، تظهر أيضاً عندما حددت نسبة الضريبة بـ2 بالألف من قيمة "المنتج". فعن أي قيمة يتحدثون، هل
ستحدد هذه القيمة بقيمة النعش أم بقيمة ثروة المتوفى؟ ولماذا لم يذهب المتفلسفون إلى فرض ضريبة مقطوعة حتى يظهروا بمظهر المهني العارف لكيفية فرض الضرائب؟".
موازنات ما قبل الأزمة كانت تتضمّن مؤشرات اقتصادية أساسية مثل قيمة الناتج المحلي الإجمالي ومعدل التضخم المالي، وبناءً على ذلك يمكن احتساب مؤشرات مالية أيضاً مثل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي ونسبة عجز
الموازنة إلى الناتج المحلي ونسبة الإيرادات والنفقات إلى الناتج المحلي، وهي مؤشرات أساسية في فهم الوضع المالي واقتراح السياسات والإجراءات التي تتناسب مع هذا الوضع المالي. وهذه من أهم أهداف الموازنة، وفق ما يقول
الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية الدكتور أيمن عمر، فهي "ليست عبارة عن أرقام وتقديرات فحسب، بل عبارة عن سياسات وإجراءات لتحقيق أهداف مالية واقتصادية واجتماعية يُعبّر عنها عبر هذه الأرقام. وتالياً من
الواضح أن الموازنة بمجملها تسعى إلى تحقيق هدف مالي واحد وهو تنويع وزيادة الموارد المالية للخزينة العامة بغضّ النظر عن الآثار السلبية لهذا الهدف المالي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي وما قد يشكله من انهيارات في المجالات كافة".
في الفصل الثالث المرتبط بالتعديلات الضريبية ووفق المادة 20 منه، تمت زيادة الضريبة على القيمة المضافة لتصبح 12% ما يعني أن هذه الضريبة زادت بنسبة 9%. هذه الضريبة، وفق ما يقول عمر وإن كانت ستزيد موارد
الخزينة بطريقة شبه مضمونة "لكن في المقابل ستزيد الأعباء على المستهلكين وخصوصاً أن الطبقة الفقيرة هي من يتحمل العبء الأكبر من هذه الضريبة نسبةً إلى مداخيلها المنخفضة لأن هذه الزيادة ستطال فواتير الكهرباء
والانترنت وجميع الخدمات العامة، وكذلك ستزداد فاتورة الاستيراد وتالياً سيحمّل المستوردون عبئها للمستهلكين وستنعكس زيادة في أسعار السلع".
في الفصل الثالث أيضاً وتحديداً في المادة 21 منه، تم ابتداع رسوم جديدة وهي: "استحداث رسم بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة" توزع كالآتي: 50% لموظفي المديرية العامة أو المديرية التي قدمت الخدمة، 5%
لموظفي الهيئات الرقابية، 10% لموظفي الإدارات التي لم تقدم الخدمة، 15% لصندوق تعاضد موظفي الإدارات العامة، و20% للخزينة العامة. وهذا برأي عمر "أمر مثير للسخرية، ويمكن اعتباره شرعنة للفساد والرشى في
الإدارات العامة ومخالف لكل خطط الإصلاح المرجوّة، لأن الأصل في خدمات الإدارات العامة أن تكون سريعة تلبي حاجات المواطنين وتحل مشاكلهم بالسرعة المطلوبة، فبدل إقرار خطة حكومة إلكترونية والبدء بتنفيذها، نجد
الموازنة العامة تكرّس مفهوم المردود المالي للموظفين مقابل أي معاملة يقومون بها، ولا أحد هنا يستطيع التحكم بالموظف في تمييزه بين المعاملات المستعجلة وغيرها فتفتح له المجال أن يتقاضى رسوماً عن كل المعاملات سواء
كانت طارئة ومستعجلة أم لا. وكأنها جائزة ترضية لهم لكمّ أفواههم وإسكاتهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة عبر زيادة رواتبهم، ويظهر ذلك عبر توزيع هذه الرسوم حتى على الموظفين الذين لم يبذلوا جهداً في تنفيذ المعاملة.
بالإضافة إلى ذلك تصبح الخدمة العامة حكراً فقط على من يستطيع دفع ثمنها، وينتفي بذلك أهم مبدأ قامت عليه الإدارات العامة وهي أن خدماتها للجميع دون تمييز".
من جهته، يعتبر قبيسي أن "هذا الأمر هو تكريس لعادات سيّئة أصابت الإدارة العامة من زمن طويل، لكن المشرع يحاول أن يدخل ما كان يدخل في جيبة الموظف "كرشوة" إلى "رسم" يدخل في "الخزينة العامة". وسأل "هل سيدفع
المواطن رشوة ورسماً إضافيين أم سيقوم التفتيش الإداري بعمله القانوني؟" ويرى أن "استحداث رسم كهذا يفترض "المكننة المعلوماتية" للإدارة العامة من جهة، وجهازاً إدارياً و"لوجستياً" مدرباً على العمل المجدي والسريع، فيما
الجميع يعلم أن القطاع الإداري اللبناني يعاني من ترهّل وشيخوخة مستدامتين".
إلى ذلك، لم توضح الموازنة مقدار سعر الصرف الذي على أساسه احتُسبت الإيرادات والنفقات، ويستنج عمر أنه "إذا كان سعر الصرف هو سعر منصة صيرفة، فإن ذلك سيؤدي إلى مشكلات عدة، منها إذا تغيّر سعر منصّة
صيرفة وخصوصاً صعوداً فإن كل ما بنيت على أساسه أرقام الموازنة تصبح خاطئة، وما بُني على الخطأ ستؤدّي إلى نتائج خاطئة. ثانيها: إذا نفذ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري وعده بوقف العمل بمنصة صيرفة، فما
هو سعر الصرف الرسمي الجديد؟ وعلى أي أساس سيُحتسب؟ وتالياً تصبح تقديرات أرقام الموازنة بمجملها خاطئة".
المادة 23 أشارت إلى استيفاء الرسوم بالليرة اللبنانية، واستثنت منها بعض الرسوم، منها على سبيل المثال: حصة الدولة اللبنانية من قطاع استخراج النفط ومشتقاته بالعملة الأجنبية ومن إيرادات كازينو لبنان التي يحققها بالعملات
الأجنبية. ورأى عمر في ذلك جانباً إيجابياً، إذ تحصل الدولة حينها ومن مواردها الخاصة على عملات أجنبية دون اللجوء إلى بيع سندات الخزينة أو من الاقتراض من منظمات أو دول ما، وما يرتب عليها من دين وفوائد، بيد أنه
اعتبر أن ثمة 3 أنواع من الرسوم وفق هذه المادة من الممكن أن يكون لها تداعيات سلبية داخلية وهي استيفاء الرسوم التالية بالعملات الأجنبية وهي: الرسوم الجمركية، رسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد، والرسوم التي تستوفيها
مؤسسة كهرباء لبنان، الأمر الذي سينعكس ارتفاعاً في أسعار السلع، وإرهاق المواطنين بدفع فاتورة الكهرباء بالدولار.
وتطرق عمر إلى المادة 23، إذ ثمة فقرة فيها تعتبر فضفاضة تجعلها قابلة للتفسير والتأويل، وهي أن "البدلات عن كل أنواع الخدمات التي تقدمها الدولة عبر مختلف مؤسساتها تُدفع بالليرة اللبنانية، ولكن إذا اقتضت الضرورة
معادلة الليرة اللبنانية بأي عملة أجنبية بالنسبة لبدلات بعض الخدمات فيكون ذلك إلزامياً وفقاً للتسعيرة التي يحددها مصرف لبنان". وبما أننا في أزمة والضرورة هنا واقعة، يعني أن جميع خدمات إدارات العامة من الممكن أن تسعر بما يتناسب مع سعر الصرف وتغيّراته.
"النهار"- سلوى بعلبكي
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|