إقتصاد

قمّة مجموعة العشرين وخلاصاتها: البراغماتيّة في ذروتها

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

قبل نحو ثلاثة أسابيع، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على طاولة قمّة "بريكس"، في لحظة اعتبرها بعض البسطاء انقلابًا ثوريًا جامحًا على "الأحاديّة القطبيّة" التي تحكم العالم. ثم كثرت الأحلام: عملة موحّدة، أو على الأقل نظام مدفوعات يعتمد على العملات المحليّة، للاستغناء عن الدولار كعملة تداول عالميّة. وتعزيز "بنك التنمية الجديد"، لينافس ثنائي اتفاقيّة "بريتون وودز"، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثم خلصت القمة لدعوة ستّة دول من عالم الجنوب للانضمام إلى المجموعة، ومنها السعوديّة والإمارات. رأى البعض مشهدًا مثيرًا هنا: أن يستكمل بن سلمان انعطافة بلاده "شرقًا"، وأن تنضم براميل النفط الخليجيّة إلى القطب المناهض للغرب. وكم ستكون الصورة أجمل لو استكمل مصالحته مع إيران، المدعوّة بدورها إلى "بريكس"؟

لكن مهلًا.. مودي ليس غيفارا، والسعوديّة ليست كوبا. في غضون ثلاثة أسابيع، وعلى هامش قمّة العشرين، كان مودي وبن سلمان على طاولة واحدة مع الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين، ومجموعة من الزعماء الأوروبيين. هناك، وبرعاية أميركيّة، قاد الزعيمان، إلى جانب الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان، أكبر انقلاب تجاري على مشروع طريق الحرير الصيني، بتوقيعهما على اتفاق الممر الاقتصادي، الذي سيربط الهند بأوروبا، مرورًا بالإمارات والسعوديّة والأردن وإسرائيل. والتأمّل في خريطة المشروع، يكفي ليفهم المرء أنّها فكرة من النوع الذي يصيب الكثير من العصافير بحجر واحد.

أهداف كثيرة في مشروع واحد
تفهم الإدارة الأميركيّة أنّ الدور الذي تتجه الهند إلى لعبه كقطب صناعي ضخم، في منطقة جنوب آسيا، يضعها على تماس وتناقض مباشر مع الدور الذي تلعبه الصين. وتفهم أكثر أنّ هناك ما يمكن أن تفعله بإتقان، لصياغة مشاريع تضع المصالح الهنديّة وجهًا لوجه أمام المصالح الصينيّة، بدل أن تتكامل مصالحهما. هناك، يصبح كل الكلام عن تكتّل اقتصادي يجمع الطرفين مجرّد أفكار تصعب ترجمتها، طالما أن التكتّلات تُبنى على أساس المصالح المشتركة، لا المتناقضة والمتنافسة.

هذا ما حققته إدارة بايدن في المشروع الجديد الذي تدعمه: أن تتحوّل الهند إلى نقطة الربط الأولى لخطوط إمداد التجارة ومصادر الطاقة وبيانات الإنترنت، في منطقة جنوب آسيا، بدل أن تلعب الصين هذا الدور، كما هو الحال في مشروع "طريق الحرير" الصيني. ومشروع من هذا النوع، سيثير شهيّة الكثير من الدول التي تدور في فلك المصالح الغربيّة في شرق وجنوب آسيا، والتي تبحث أساسًا عن الأدوات التي تسمح بالتخفيف من وطأة اعتمادها على الصين كشريك تجاري، وبتقليص هيمنة الصين نفسها على خطوط الإمداد التجاريّة في المنطقة.

استفادة الهند من هذا الدور، المنافس للدور الصيني، لن تقتصر على تسهيل طرق التصدير منها إلى السوق الأوروبي، بل ستشمل تدفّق مصادر الطاقة إليها من منطقة الخليج، عبر استثمارات كبيرة في البنية التحتيّة. وهنا، تحقق الإدارة الأميركيّة بهذا المشروع هدفًا آخر، وهو تقليص اعتماد الهند على روسيا كمصدر للنفط الرخيص، بعدما تزايد حجم شحنات النفط المتجهة من روسيا إلى الهند في أعقاب الحرب الأوكرانيّة، وفرض العقوبات الغربيّة على روسيا.

على المقلب الآخر، ستتحوّل السعوديّة والإمارات إلى حلقتي ربط ضمن المشروع، الذي من شأنه التحوّل إلى الممر الاقتصادي الأكثر أهميّة بين أوروبا وجنوب وشرق آسيا. وهنا، ستتحقق العديد من الأهداف بالنسبة للولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، وأوّلها تقليص اعتماد السعوديّة والإمارات على الاتفاقيّات مع الصين، في مجال البنية التحتيّة، مقابل دمج البنية التحتيّة الخليجيّة في مشروع يدور في فلك المصالح الغربيّة. وبما أنّ بن سلمان يفهم جيدًا لغة المصالح الاقتصاديّة، فسيكون من شأن هذا المسار الحد من استدارة النظام السعودي باتجاه الشرق كشريك اقتصادي، وتحديدًا نحو الصين.

الأهم هنا هو التالي: من شأن الاتفاق تطويق قدرة إيران على لعب دور حلقة الربط التجاريّة ما بين شرق وجنوب آسيا، والغرب، وهو دور تسعى إيران بالفعل إلى لعبه من خلال مجموعة من الاستثمارات في البنية التحتيّة. وفي الوقت نفسه، سيسمح الاتفاق بتعزيز تقاطعات المصالح الاقتصاديّة التي تربط النظام السعودي بإسرائيل، ما سيسرّع من وتيرة مسار التطبيع بين الطرفين، الذي تعمل عليه بشكل حثيث إدارة بايدن حاليًا.

في إسرائيل، احتفل نتنياهو بهذا الاتفاق، بوصفه انتصارًا جديدًا للدبلوماسيّة الإسرائيليّة في معركة تطبيع علاقتها بالمحيط العربي. وبالنسبة لأوروبا ونتيناهو، سيتكامل المشروع مع الجهد الهادف إلى ربط حقول الغاز الإسرائيليّة بالسوق الأوروبيّة، وهو ما من شأنه تخفيض كلفة تصدير الغاز الإسرائيلي من جهة، وتعزيز أمن الطاقة الأوروبي من جهة.

المتضرّرون كثر
ككل مشروع استراتيجي من هذا النوع، يحمل المشروع أخبارًا سيّئة للكثير من الأطراف المعنيّة برسم خطوط إمداد الطاقة والسلع في منطقة الشرق الأوسط.

الإعلان عن المشروع، فسّر سريعًا تغيّب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمّة مجموعة العشرين، بعدما أثار غيابه الكثير من التكهّنات مع انطلاق أعمال القمّة. فأغلب الظن أنّ شي عرف مبكرًا أن براغماتيّة السياسة الخارجيّة الهنديّة ستنقلب سريعًا على مشروعه الخاص، بفكرة تحمل بصمات غربيّة واضحة، وبأهداف لا تتماثل مطلقًا مع شعارات الابتعاد عن دائرة نفوذ "القطب الواحد"، التي حملتها قمّة "بريكس" الأخيرة.

بالنسبة إلى أردوغان، سيمثّل المشروع طعنة للفكرة التي سعى لتسويقها بمعاونة الرئيس الروسي فلاديمير فوتين، والتي تقوم على تحويل تركيا إلى مركز لإعادة تصدير مصادر الطاقة باتجاه أوروبا. الفكرة التركيّة كانت تقوم أساسًا على تجميع غاز شرق المتوسّط –ومن بينه الإسرائيلي- في تركيا، بدلًا من خلق ممر اقتصادي مباشر يربط السوق الإسرائيلي بأوروبا، كما ينص المشروع الجديد. أمّا الأهم، فهو أنّ الممر الاقتصادي الجديد، الذي يتخطّى تركيا، يضرب أبرز مسارات "طريق الحرير"، التي تمر بالأراضي التركيّة في طريقها من الصين إلى أوروبا، وهو ما كان يفترض أن يحوّل تركيا إلى عقدة تجاريّة دوليّة مهمّة.

ربما لهذا السبب اختار أرودغان أن يعيد النقاش حول عضويّة السويد في حلف الناتو، رافضًا ربطها بصفقة شراء طائرات "أف 16" الأميركيّة، بعدما وعد سابقًا بإحالة بروتوكول الانضمام للبرلمان التركي وتذليل العوائق أمام هذه العضويّة. كعادته، يمسك أردوغان بأوراق قليلة، ويبتزّ الغرب طالبًا الكثير، ما يدفعه إلى التعنّت عند التفاوض على الملفّات التي يملك تأثيرًا فيها. في نهاية الأمر، سيحاول أردوغان تحصيل ما يمكن تحصيله في كل هذه الملفّات، تمامًا كما فعل مودي وبن سلمان، من دون القفز إلى الضفّة الأخرى بعيدًا عن المصالح الغربيّة. فهو يعلم جيّدًا أن طموحات ومصالح دولته الصناعيّة، لا يمكن أن تتحقّق بعيدًا عن استثمارات الغرب وأسواقه الاستهلاكيّة.

قائمة المتضرّرين من المشروع، تطول لتشمل مصر، بالنظر إلى أثر الممر المتوقّع في تخفيف الطلب على خدمات قناة السويس. كما تشمل دول مثل إيران والعراق وباكستان، التي ضخّت استثمارات وازنة في مشاريع البنية التحتيّة، للتحوّل إلى ممرّات تجاريّة على طريق دول جنوب وشرق آسيا. إلا أنّ جميع هذه الدول مازالت تنتظر وضوح الصورة، لفهم حجم المشروع ونطاقه وقدرته الاستيعابه.

في خلاصة الأمر، ما جرى على هامش قمّة مجموعة العشرين يعطي نموذجًا عن البراغماتيّة الفاقعة، التي باتت تحكم السياسات الخارجيّة للدول المؤثّرة على الساحة التجاريّة العالميّة. وهذا المشهد لا ينفي اتجاه العالم بالفعل نحو تأثير أكبر لدول الجنوب، كما لا ينفي إمكانيّة تحقّق هدف التعدديّة القطبيّة. بل وعلى العكس تمامًا، من الواضح أن مشروع الممر الاقتصادي سيزيد بالفعل من التأثير التجاري لدول كالهند والسعوديّة والإمارات. إلا أنّ هذه التعدديّة القطبيّة لن تتحقّق بتشكيل تكتّلات اقتصاديّة غير منسجمة، كما راهن البعض عند انعقاد قمّة "بريكس" الأخيرة، بل عبر بحث الدول عن مصالحها الاستراتيجيّة في صفقات وتقاطعات متباينة في كل ملف.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا