البؤر غير الشرعيّة تجتاح الشقق السكنيّة غير المأهولة!
وسط الضجيج السياسي والوعود التي تتكرر مع كل حكومة جديدة، يغرق لبنان في أزماته البيئية التي باتت جزءاً من المشهد اليومي. الأزمة لم تعد مقتصرة على مكبات النفايات المنتشرة في كل زاوية، بل تفاقمت إلى حد تحوّل الأبنية غير المكتملة إلى مستودعات للنفايات والبلاستيك، وكأن البلاد تعيش حالة دائمة من الطوارئ البيئية دون حلول مستدامة.
وسط كل ما ذكر، أصبح المشهد اليومي في العديد من المناطق اللبنانية لا يقتصر عند أكوام النفايات المكدّسة في الشوارع أو المطامر غير الشرعية التي تنفث سمومها في الهواء والتربة والمياه، بل أضحى أكثر تعقيداً مع ظهور بؤر عشوائية جديدة داخل الأحياء السكنية، حيث تتجمّع غالونات المياه البلاستيكية وغيرها من المخلفات في شقق غير مكتملة البناء، في مشهد يجسّد انهيار مفهوم الإدارة البيئية تماماً. هذه الأبنية، التي كان يُفترض أن تتحول إلى مساكن تؤوي العائلات، باتت مدافن غير رسمية تضاف إلى سلسلة الانهيارات التي تضرب البنية البيئية والاجتماعية في لبنان.
وفي ظل هذا الواقع، تُطرح أسئلة كثيرة حول المسؤولية والغياب التام لخطط المعالجة. فمن المفترض أن يكون الفرز من المصدر جزءاً من أي سياسة بيئية سليمة، لكن في لبنان، يأخذ التصنيف شكلًا آخر، حيث يُترك للأطفال والمحتاجين مهمة التقاط البلاستيك والكرتون والزجاج من النفايات، بدلا من أن يكون هناك نظام مؤسسي يفرض إعادة التدوير وفق آليات واضحة. هذا الفشل لا ينحصر في غياب الرؤية، بل يتعداه إلى انعدام الإرادة السياسية تماما.
الجدير بالذكر ان الحكومات المتعاقبة لطالما كانت تطرح خططاً بيئية في بياناتها الوزارية، لكنها تبقى مجرد شعارات خاوية لا تنعكس على الأرض. فبدلًا من البحث عن حلول حقيقية لإنهاء أزمة النفايات، نرى تمديدا للمفارغ غير الشرعية، وإدارة فوضوية تدفع بالمجتمع إلى البحث عن حلول فردية، فيتحوّل التقسيم إلى عملية تتم بين الأنقاض وفي الزوايا المهملة، في ظل افتقاد أي استراتيجية جدية لإدارة الفضلات بشكل مستدام.
الى جانب كل ما تقدم، فان الخطر الأكبر، يكمن في الأثر البيئي والصحي لتراكم البلاستيك في المناطق السكنية، حيث تتحلل هذه المواد ببطء، مطلقة مواد سامة في الهواء والتربة، ناهيك بأنها تشكل بيئة خصبة للقوارض والحشرات التي تنقل الأمراض. ومع غياب أي مشاريع واضحة للحد من استخدام البلاستيك أو إعادة تدويره بشكل فعال، تبقى البيئة في لبنان رهينة الإهمال الرسمي، والمواطن الحلقة الأضعف الذي يدفع الثمن على شكل تلوث وأمراض وبيئة غير صالحة للعيش.
في نهاية المطاف، لا يمكن الحديث عن أي نهضة بيئية في لبنان ما دامت إدارة النفايات تُترجم بفوضى المكبات والبؤر العشوائية، وبالتالي تفتقر التصورات الرسمية إلى آليات تنفيذية واضحة. لذا يبدأ العلاج الناجع والفعّال من إرادة سياسية حقيقية تضع البيئة ضمن أولوياتها، بعيداً عن منطق الترقيع الذي لا يزيد الأزمة إلا تفاقماً.
العبوات البلاستيكية: قنبلة موقوتة تهدد الصحة والبيئة في لبنان
في السنوات الأخيرة، أصبح تلوث البيئة بالبلاستيك من أخطر التحديات البيئية في العالم، ولبنان ليس استثناءً، بل ربما يشهد واحدة من أسوأ الحالات بسبب سوء إدارة النفايات وغياب السياسات الفعالة. وقد حذّرت دراسات عالمية عديدة من تأثير التلوث البلاستيكي، لا سيما في قطاعي المياه والغذاء، حيث أظهرت أبحاث أن جزيئات البلاستيك متناهية الصغر (الميكروبلاستيك) صارت موجودة في مياه الشرب وحتى في الهواء الذي نستنشقه. في بلد مثل لبنان، حيث يُستهلك البلاستيك بكميات هائلة من المياه المعبأة بسبب ضعف الثقة بمياه الدولة، تتحول العبوات البلاستيكية إلى أزمة بيئية مستفحلة، خصوصاً في ظل غياب خطط واضحة لإعادة تدويرها أو الحد من استخدامها.
من بؤر تجميع إلى مكبات وحرق عشوائي
في ضوء ما تقدم، رصدت عدسة "الديار" مشاهد صادمة في مناطق عديدة، حيث تتكدّس أطنان من عبوات المياه البلاستيكية في أماكن غير مخصصة، مما يحوّل المساكن قيد الانشاء وتلك المهجورة إلى مكبات غير رسمية للنفايات. في الأشرفية، تحديدا قرب كرم الزيتون، ظهرت بؤر تجمع فيها عبوات مياه بلاستيكية فارغة بكميات ضخمة، ما يعكس حجم الأزمة التي باتت تفرض نفسها وسط العشوائية البيئية. الأمر يتجاوز التجميع إلى ممارسات أكثر خطورة، إذ لوحظ في بعض المواقع، مثل مداخل برج حمود، قيام بعض الأشخاص بحرق البلاستيك، ما يؤدي إلى تصاعد دخان أسود كثيف يحتوي على مركّبات سامة مثل الديوكسين والفورمالديهايد، وهما من أخطر الملوثات المسببة للأمراض السرطانية وأمراض الجهاز التنفسي. ورغم قرب هذه البؤر من مواقع شرطة البلدية، فان هذه الظاهرة لا تزال مستمرة دون أي إجراءات رادعة.
وفي مناطق أخرى مثل النبعة والبسطا، لم يعد المشهد يقتصرعلى تجميع البلاستيك، بل صار يشمل تشغيل أطفال في عمليات جمع وفرز العبوات البلاستيكية، في استغلال واضح لحاجة الفقراء، وسط غياب الرقابة من الجهات المختصة. هؤلاء الأطفال يتنقلون بين النفايات، معرضين أنفسهم لأمراض متعددة بسبب ملامسة النفايات غير المعالجة واستنشاق الغازات السامة المنبعثة من عمليات الحرق العشوائية.
البيان الوزاري مر مرور الكرام على مشاكل البيئة
من جهته، يرى رئيس جمعية الأرض – لبنان، بول أبي راشد، في حديث لـ "الديار"، أن البيان الوزاري للحكومة الجديدة جاء خجولًا في ما يتعلق بالملفات البيئية، رغم كونها أساسية للاقتصاد والصحة والسياحة والاستدامة. وكنا نتوقع أن يشدد البيان الوزاري على تطبيق القوانين البيئية".
ويشير إلى أن "البيان لم يتطرق إلى المبادئ الأساسية للمرحلة المقبلة، مثل حماية الشاطئ، وقمم جبال لبنان، والغابات، والوديان، والمناطق الحساسة بيئياً. كما أنه لم يأتِ على ذكر القضايا البيئية التي أثارت الشارع اللبناني، مثل أزمة النفايات، والسدود، والمقالع، ولم يلمّح إلى التعديات على الأملاك العامة البحرية والنهرية، أو على المشاعات العامة، ولم يتناول مكافحة مصادر التلوث وانبعاث غازات الدفيئة، "وكأننا نعيش في بلد نظيف وبعيد عن الفساد البيئي والجرائم البيئية التي تُرتكب ضد الأجيال القادمة، على حدّ تعبير ابي راشد".
ويوضح أن "البيان الوزاري اقتصر على التطرق إلى موضوع الردميات والمساحات الخضراء المتضررة من الحرب، متجاهلًا المشاكل البيئية الأخرى التي تستوجب حلولًا عاجلة".
وعن ظاهرة انتشار تجميع البلاستيك بين المنازل، يعلق بالقول: "يجب توجيه هذا السؤال إلى الوزارة، لكن برأيي، ينبغي منع هذه الحالة، وعلى البلديات أن تُلزم بإنشاء مراكز فرز تتابع هذه العملية".
ويعتبر أن "البيان الوزاري كان يجب أن يتحدث عن تطبيق القانون 80/2018 ومرسوم الفرز من المصدر 5605/2019، الذي يمنح البلديات صلاحية إنشاء مراكز للفرز والترحيل، مشددا على ضرورة الالتزام بهذه القوانين لضمان إدارة بيئية سليمة للنفايات".
التهديدات الصحية والبيئية للبلاستيك
وفي سياق متصل بالأضرار البيئية الناتجة من اللدائن فانه "بحسب دراسات علمية، لا يقتصر اذى هذه المواد على تشويه المشهد البيئي، بل يمتد ليصل إلى صحة الإنسان. المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع البلاستيك، مثل الفثالات و"البيسفينول A"، يمكن أن تتسرّب إلى المياه أو الأغذية، ما يؤدي إلى اضطرابات هرمونية وأمراض مزمنة. كما أن الجزيئات البلاستيكية الدقيقة الناجمة عن تحلل هذه المواد تتسلل إلى سلاسل الغذاء، حيث بيّنت أبحاث وجودها في الأسماك والملح وحتى في دم الإنسان، ما يجعلها تهديداً صحياً غير مرئي لكنه مستمر.
بين غياب الخطط واستمرار الأزمة: البيئة المحلية في مهب الأولويات!
في خضم هذه المعطيات والتوثيقات التي تضعها "الديار" بين يدي الجهات المعنية، وفي حين تتفاخر الحكومات المتعاقبة ببرامج بيئية لم تُنفّذ، يبقى الواقع على الأرض أكثر تعقيدا. اذ لا وجود لمخططات واقعية للحد من استهلاك البلاستيك أو لإطلاق مشاريع جادة لإعادة الرسكلة، ما يترك المواطن أمام خيارين: إما التعايش مع التلوث أو محاولة الحد منه بوسائل فردية غير كافية. ومع استمرار تجاهل هذه المعضلة، يصبح السؤال: إلى متى سيبقى لبنان غارقاً في نفاياته؟ وإلى متى ستظل صحة المواطنين رهينة الإهمال والفساد؟
في الخلاصة، لا يمكن فصل التدهور البيئي عن انتشار الأمراض في لبنان، حيث يشكّل التلوث عاملاً رئيسياً في ارتفاع معدلات السرطان والأمراض التنفسية. وقد أكد متخصصون في أمراض الدم والأورام لـ "الديار" أن التعرض المستمر للملوثات، لا سيما الناتجة من حرق البلاستيك، يفاقم المخاطر الصحية. ورغم ذلك، لم تولِ الحكومات المتعاقبة الملف البيئي الأهمية اللازمة، إذ غابت المعالجات الجدية عن السياسات الرسمية، حتى ان البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام تجاهل العديد من القضايا البيئية الملحّة، والتي ترتبط مباشرة بالصحة العامة.
ندى عبد الرزاق - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|