لماذا لعبت إيران ورقة البحر الأحمر؟
لعبت إيران ورقة استراتيجيّة كبيرة بفرضها تهديداً عسكرياً مباشراً للملاحة الدولية في البحر الأحمر الذي تمرّ عبره 12% من حركة التجارة العالمية المحمولة بحراً، من حيث الحجم، ونحو 30% من حركة الحاويات العالمية.
لا سابق لهذا التحرّك في تاريخ المنطقة منذ أن قرّر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إغلاق خليج العقبة قبل أيام من نكسة عام 1967. لكنّ ردّ الفعل الأميركي يعطي صورة عن مدى ضعف إدارة جو بايدن، وافتقاره إلى الثقة بقيادته.
حجم الورقة الاستراتيجيّة التي تستخدمها إيران أكبر من أن يوضع في سياق دعم "حماس" في مواجهتها للهجوم الإسرائيلي، وليس أدلّ على ذلك من أنّ نطاق الاستهدافات للسفن التجارية وناقلات النفط أوسع بكثير من النطاق العملياتي المعلن من جانب الحوثيين، والمعرّف بأنّه استهداف للسفن التي تبحر إلى الموانئ الإسرائيلية أو منها حصراً.
استهداف لا علاقة له بإسرائيل
كان المثال الأخير على ذلك استهداف ناقلة الموادّ الكيمياوية "سوان أتلانتيك"، وهي مملوكة لشركة نرويجية ويتمّ تشغيلها من قبل شركة في سنغافورة، وكانت تنقل شحنة من فرنسا إلى شرق آسيا، وليست لديها أيّة صلة بإسرائيل، لا بالملكية ولا بالبضائع التي تنقلها. والأمر نفسه يسري على سفينة Platinum III المملوكة لشركة MSC السويسرية، والتي تعرّضت لأوّل هجوم بحريّ بصاروخ باليستي على الإطلاق، فيما كانت تحمل العلم الليبيري.
استهدف الحوثيون حتى الآن 12 سفينة وناقلة، وما زالوا يحتجزون سفينة "إم في غالاكسي ليدر"، بطاقمها البالغ 25 شخصاً، ولا يُعرف كم من هذه الهجمات فيه "مبرّر" إسرائيلي. والأكثر دلالة هو اتّساع النطاق الجغرافي للهجمات، إذ إنّه لا يقتصر على بضعة أميال مقابل شمال اليمن، كما كان معتاداً أثناء عملية "إعادة الأمل"، بل سُجّل أكثر من هجوم في نقاط تبعد مئات الكيلومترات في بحر العرب جنوباً وخليج العقبة شمالاً، وهو ما يشي بأنّ الرسالة الإيرانية الموجّهة للأميركيين مفادها أنّها قادرة على تعطيل الملاحة من بحر العرب إلى البحر الأحمر بصواريخ يصل مداها إلى 800 كيلومتر، تماماً كما أرسلت من قبل رسائل تبيّن قدرتها على تعطيل الملاحة في مضيق هرمز.
البعد الاقتصاديّ
الملاحظة الأوضح أنّ التأثيرات الاقتصادية تتجاوز إسرائيل. فقد أعلنت أربع من أكبر خمس شركات شحن بحري في العالم وقف عمليات الشحن عبر البحر الأحمر، وتحويل مسار شحناتها حول رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارّة الإفريقية. وهذه الشركات تستأثر بنحو 53% من حركة شحن الحاويات عالمياً. وحين تعلن توقّفها فلا بدّ أن تتبعها الشركات الأصغر حجماً.
وامتدّت التأثيرات إلى تجارة النفط والمشتقّات البترولية والغاز، التي تدار من شركات متخصّصة مختلفة تماماً عن شركات تجارة الحاويات. فقد أعلنت اثنتان من كبريات شركات المتاجرة البترولية وقف عمليّاتهما في البحر الأحمر، وهما BP البريطانية و"أكوينور" النرويجية. وأثّر ذلك بشكل فوري على أسعار النفط والغاز، التي تشهد ارتفاعاً قويّاً منذ نهاية الأسبوع الماضي.
مثل هذه التأثيرات يمكن أن تؤذي الاقتصاد العالمي، والأوروبي تحديداً، بشكل كبير، إذ إنّها تجدّد مشاكل سلاسل الإمداد التي برزت خلال جائحة كورونا ثمّ خلال الحرب الأوكرانية، وتؤدّي إلى رفع أسعار السلع نتيجة زيادة تكاليف الشحن وقفزة أسعار التأمين على عمليات الشحن بنسبة 200%، وهو ما يعيد مشكلة التضخّم إلى الواجهة، بعدما بذلت البنوك المركزية جهوداً مضنية لاحتوائها منذ مطلع 2022.
في البعد الإقليمي، تواجه مصر التبعات الكبرى للأزمة أكثر من إسرائيل نفسها، لأنّ تحويل مسارات الشحن يضرب النشاط في قناة السويس بشكل مباشر. حتى الآن، تمّ تحويل مسار 55 سفينة، وهو رقم تعتبره مصر ضئيلاً بالمقارنة مع حجم الحركة التي فاقت 2,100 سفينة منذ أن بدأت الهجمات الحوثية في 19 تشرين الثاني الماضي. لكنّ الانعكاسات يمكن أن تظهر بشكل أكبر في الأيام المقبلة، في ظلّ البيانات التي تشير إلى تضاؤل حركة دخول السفن إلى البحر الأحمر والخروج بنسبة 35% يومَي السبت والأحد الماضيين، وفقاً لوكالة بلومبرغ.
عودة الأميركيّين المتأخّرة
تدفع فداحة التأثيرات الاقتصادية الأميركيين إلى التحرّك، لكنّ البعد الجيوسياسي للمسألة أكثر تعقيداً، وهو يضع إدارة بايدن أمام فواتير الفشل الكامل للخطوط العامّة للسياسة الخارجية التي أتت بها مطلع عام 2021.
ردّت واشنطن على الهجمات الحوثية بتحريك سفنها الحربية لإسقاط المسيّرات، وإعلان تشكيل قوّة متعدّدة الجنسيات لحماية التجارة في البحر الأحمر، تضمّ بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا. ليس خالياً من الدلالات أن تخلو قائمة الدول المنضمّة من السعودية والإمارات ومصر.
لا ينسى الأميركيون أنّ أوّل تهديد من الحوثيين بقطع طريق الملاحة في البحر الأحمر يعود إلى عام 2018. وقد حاولت الميليشيات بالفعل بعد ذلك التهديد استهداف ناقلة نفط سعودية في نيسان من ذلك العام، غير أنّ التحالف العربي أفشل الهجوم. وكرّر الحوثيون محاولاتهم في تموز من ذلك العام، فهاجموا ناقلتَي نفط سعوديّتين، وكان يمكن للهجوم لو أنّه نجح أن يتسبّب في كارثة بيئية لا سابق لها.
لكن حين كان التحالف العربي يواجه ذلك التحدّي، اتّخذ بايدن في أيّامه الأولى في البيت الأبيض، في شباط 2021، قراراً بوقف العمليات العسكرية السعودية في اليمن، بما في ذلك بيع الأسلحة والمعدّات. وبادر في الشهر نفسه إلى إلغاء تصنيف جماعة الحوثيين كمنظّمة إرهابية، وأعفى الكثير من التعاملات معها من العقوبات، تحت عنوان تسهيل وصول الموادّ الإغاثية إلى اليمن. كانت واشنطن تتعامل مع التهديد الحوثي حينها كمشكلة سعودية أو خليجية، ليست معنيّة بها.
شقّت السعودية بعد ذلك طريقها بنفسها، وواجهت ضغوطاً أميركية شديدة، وحقّق التحالف العربي مكتسبات مهمّة على الأرض في محيط مأرب وشبوة، مهّدت لوقف إطلاق النار في نيسان 2022، وانطلاق مسار التفاوض السياسي بين أطراف الصراع في اليمن، وصولاً إلى زيارة وفد من الحوثيين للرياض في أيلول الماضي.
استحالة "الحماية العسكريّة"
هذه الأيام تزدحم مطارات المنطقة بجدول زيارات المسؤولين الأميركيين. يحطّ وزير الدفاع لويد أوستن في إسرائيل ثمّ في البحرين، فيما يجول مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في العواصم الخليجية. ويتّصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن بنظيره السعودي مندّداً بالهجمات الحوثية.
مأزق واشنطن أنّ تحرّكها العسكري غير واضح في نطاقه وأهدافه. فهل تريد القضاء على التهديد الحوثي؟ أم تعمد إلى ضربات موضعية لردع الحوثيين؟ أم هذا التحرّك هو استعراض قوّة يتزامن مع إرسال الرسائل إلى إيران لفتح قنوات التفاوض؟ أم هو خفارة ساحلية لمرافقة السفن وحمايتها من الهجمات وحسب؟
حتى الآن، يجري الحديث عن مرافقة سفن حربية للسفن التجارية وناقلات النفط والغاز المسال خلال مرورها في منطقة الخطر على نحو ما كان يجري في فترة نشاط مجموعات القرصنة قبالة السواحل الصومالية في العقد الماضي. إلا أنّ هذا الخيار مكلفٌ جداً ويتطلّب انتشاراً عسكرياً كبيراً لمواكبة العدد الهائل من السفن الذي يعبر البحر الأحمر في الاتجاهين. وعلى أيّ حال لا يمكن ضمان نجاح الحماية بالكامل، ولا يمكن إقناع شركات الشحن بإرسال طواقمها إلى منطقة عمليات عسكرية.
نقيض استراتيجية الانسحاب من الشرق الأوسط
إلا أنّ الذهاب أبعد من ذلك لقصف الحوثيين في البرّ اليمنيّ هو بالضبط نقيض ما تريده إدارة بايدن منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض. فهذه الإدارة كانت تراهن استراتيجيّاً على الانسحاب من الشرق الأوسط واحتواء إيران بسياسة دفع الأثمان لها مقابل حسن السلوك. وآخر تلك الأثمان صفقة الإفراج عن خمسة رهائن أميركيين مقابل تحرير ستة مليارات دولار كانت محتجزة في كوريا الجنوبية، ثمّ غضّ النظر عن زيادة صادرات النفط الإيرانية مقابل الالتزام غير المعلن بسقف (فضفاض) لعمليات تخصيب اليورانيوم.
يأتي المسؤولون الأميركيون إلى المنطقة هذه الأيام لحشد الدعم خلف قيادتهم العسكرية المتردّدة، من دون أن تكون لديهم استراتيجية واضحة يمكن لأحد الركون إليها. فحتى حين أتوا بحاملتَي طائرات لدعم إسرائيل في حربها على "حماس"، كانت رسالة المسؤولين الأميركيين بأنّ الهدف ردع إيران وميليشياتها عن توسيع نطاق الحرب. وقد قرأت طهران ذلك بأنّه رسالة ضعف وتردّد أكثر منه رسالة استعداد للحرب والمواجهة.
في سنته الأخيرة في البيت الأبيض، ينقلب بايدن على سياسته الخارجية، ويعود للانخراط العسكري في الشرق الأوسط، لكن من دون أن يحظى بالكثير من الثقة بما يريده وما أن يستطيع أن يفعله.
عبادة اللدن - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|