دخان أبيض رئاسي و3 مرشحين بعد قائد الجيش وسفير سابق لدى الفاتيكان
حين قررتُ أن أحبّ بيروت
"درج": مناهل السهوي - كاتبة وصحفية سورية
“سأحب بيروت”، قرار اتخذته بداية العام مع انتقالي إلى منزلي الجديد، حب المدن قرار نتخذه في لحظة قوة أو ضعف، وأنا اتخذته في مزيج من اللحظتين، بكامل ضعفي بعد رحيلي عن دمشق وكامل قوتي لدخول حب جديد لمدينة قد تخذلني الدروب والمستقبل فيها.
بين حب بيروت ودمشق عامان وبضعة أشهر، بين حب بيروت ودمشق شوارعٌ وبارات ومقاهٍ، بين حب المدينتين ذكريات جديدة مع رجل هنا وذكريات مضت هناك، ضحكة هنا وعشر هناك، وما زلتُ فتاة تحاول الوقوع في حب بيروت من دون خدوش وجراح، وما زلتُ أخرج من حب دمشق بكثير من الجروح والألم من دون ندم، من قال إن حب المدن ليس قاسياً!
منذ انتقالي إلى منزلي الجديد بداية العام، بدأت علاقتي ببيروت تتغيّر، تنقلت خلال السنتين الماضيتين بين نحو أربعة منازل، بين الأشرفية وفرن الشباك ومار مخايل، لكن هذا المنزل كان كما الدخول إلى قلب بيروت، إنه بيت بيروتي قديم ببنائه وأثاثه ورائحته، هل أعرف رائحة بيروت القديمة؟ لا، لكن أظن أن منزلي الجديد أخبرني بها.
أعيش علاقة جديدة مع بيروت منذ انتقالي إلى منزلي الجديد، ذي الشرفات الصغيرة المطلّة على شارع صغير مملوء بالحياة والناس، أقف على الشرفة، وبينما أدخن سيجارة وأشعر بالبرد يلسع جلدي، أفكر بشرفات دمشق، التي لم أختبرها جيداً، إذ إن غالبية المنازل التي سكنتها إما كانت بيوتاً دمشقية قديمة وهي لا تمتلك شرفات بطبيعة الحال، وإما منازل في أحياء ضيقة، حيث الشرفات لا معنى لها، فهي تطل على حائط قريب أو غرفة مقابلة، أو في منزل أرضي. للشرفات في بيروت معنى جديد، بخاصة في حي قديم، كأنها تعلّمك التواصل مجدداً مع الناس والغيم والهواء والغسيل المنشور، هل بدأت أحبّ بيروت حين وقفت على شرفة منزلي البيروتي القديم؟
أراقب أثاث المنزل القديم الـvintage، اللواحات المعلّقة على كل الجدران، الثريات القديمة والبراقة والبلاط السميك، أبتسم للمنزل، أشرب القهوة في فنجان “الشفة”، ذلك الذي تُشرب به القهوة العربية والذي يحمل طبعات مميزة باللون الأخضر والأزرق، ثم أحب بيروت لأن فيها مكاناً كهذا، أستطيع الجلوس على شرفته وتنفّس هواء بيروت كأنها المدينة الوحيدة التي أعرف.
لا نقع في حب المدن بمعناها الواسع بل نقع في حب تفاصيلها، شوارعها، أثاث منازلها وفنجان “الشفة”، ولسبب ما أعتقد أن فنجان الشفة ذاك، والذي يقال إنه صناعة صينية بالأصل، هو سبب بداية علاقتي مع بيروت، أمر غريب لكنه يحدث، كلّ القصص الكبيرة تبدأ بروابط عجيبة، كما علاقتي بمنزلي الأخير في دمشق. إذ بدأت علاقتي به منذ اكتشفت أني أستطيع مراقبة الشارع من ثقب فيه، راقبت الناس وهم ينتظرون دورهم في طابور الغاز، أو أولئك المنتظرين دورهم لاستلام حصصهم من الأرز والسكر، وفي بعض الأحيان كان يتكئ عجوز على باب منزلي فلا يبان من الثقب سوى ظهر الرجل.
أحببت دمشق من ثقب الباب وبدأت أحب بيروت من شرفة صغيرة، اختلاف وجهات النظر جليّ في علاقتي مع المدن، ويمكن القول إن علاقتي بدمشق “توكسك”، وهي كلمة أتقنتها جيداً بعد انتقالي إلى بيروت، واضطراري لسماع عشرات الكلمات الإنكليزية من حولي كل يوم، عكس دمشق التي لا نعرف فيها سوى العربية، وإن مرّت كلمة أعجمية في يومنا، لن تكون أكثر من “ميرسي أو ثانكيو”. أعتقد أن جزءاً من حبنا لدمشق هو غياب الكلام الأجنبي، وكأن هذه المدينة لا يمكن التواصل معها سوى بالعربية وبلهجات محلية تقوّي علاقة الزوار مع المكان.
وأقول إن العلاقة بدمشق “توكسيك”، إذ أفكر بعد سنوات، ما الذي كان يدفعني الى القفز وسط حفرة تركتها قذيفة هاون؟ عادةٌ اكتسبتها خلال سنوات الحرب، كلما مررت بجانب حفرة تركتها قذيفة أقفز وسطها وأتابع المشي. ففي دمشق، لا يتم إصلاح أي خراب، إذ بقيت الحفر في الشوارع والحارات والزواريب الضيقة. الحرب هنا جزء أصيل من المشي في المدينة، أمرٌ يشبه بيروت، أول منزل سكنته في بيروت كان مقابلاً لحائط مملوء بآثار الرصاص، ستجد في بيروت الكثير من هذه الأبنية التي تركها الرصاص مفرغة وحزينة، حتى الحائط المقابل لمنزلي الجديد يحوي بعض ثقوب الرصاص، ستقفز روحي داخلها وتخرج لأحب المدينة أكثر.
“سأحب بيروت”، قرار اتخذته بداية العام مع انتقالي إلى منزلي الجديد، حب المدن قرار نتخذه في لحظة قوة أو ضعف، وأنا اتخذته في مزيج من اللحظتين، بكامل ضعفي بعد رحيلي عن دمشق وكامل قوتي لدخول حب جديد لمدينة قد تخذلني الدروب والمستقبل فيها.
سأصورّ بيروت من وجهة نظري، سألتقط الكثير من الصور والفيديوات، يعزّ عليّ أني لم ألتقط ما يكفي منها في دمشق، وكلما شاهدت “ريل” جديداً لحارة أو منطقة في دمشق أشعر بغصّة، كيف كنت غارقة في المكان الى الحد الذي نسيت فيه لتصوير تماماً وكأني كنت جزءاً من صورةٍ يلتقطها أحدهم. لقد تحولت إلى جزء من صورة دمشق، وبين أن أكون المصوّرة وجزءاً من الصورة اكتشفت كم أحببت دمشق وكم أردت أن أغرق فيها. لذلك، عشت فيها قصة حب عاصفة، فكنت أغرق في حب رجل ومدينة معاً، كنت أحب مدينة كاملة في رجل واحد.
ولأن الحب الذي تكتشفه متأخراً يؤلم، تتذكر كم كانت الحياة هانئة على رغم قسوتها، فيغدو حبّ صريح لمدينة أخرى تحدياً، يا ليتني أحببت بيروت من دون أن أدرك ذلك. واليوم، سأمشي في مار مخايل والحمرا لأني لم أمشِ بما فيه الكفاية في دمشق. سأسهر لوقت متأخر في بيروت لأني كنت أخشى ذلك في الشام. ستكون بيروت كل ما كان ينقصني قبل عامين وبضعة أشهر، سأصنع من بيروت شاماً أخرى لأني لا أريد مغادرتها وأنا أجهلها، لن أبقى مختبئة بعيدة عن اللكنة اللبنانية “الدلوعة” كما يصفها السوريون والكلمات الإنكليزية التي أجهل الكثير منها. لكني أفهم المعنى في النهاية، المعاني التي لا تحتاج أن تفهم كل الكلمات، بل يكفي أن تلتقط بعضها حتى تصوغ العبارة في رأسك.
سأحبّ بيروت وأمشي في شوارعها وأزور مقاهيها وباراتها وأخرج في موعد، وسأثمل مع شاب وسيم، سأحبّ بيروت لأن حب المدن هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نتحمّل قسوة الرحيل والبعد عن البلاد والشوق إلى ما كنا عليه قبل سنوات
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|