الهاتف العميل والسيد الحبيب
حين قرر لبنان ترخيص استخدام الهاتف الخلوي، في العام 1992، اعتُبر يومها من قبل كثر، إن ما يقدم عليه هذا البلد خطوة متسرعة، بالرغم من أنه كان خطوة سباقة في الوطن العربي، وكان في البداية أشبه بمغامرة، لأنه لم يكن قد استُخدم أو جُرب في أغلب دول العالم الغربي.
في تلك الأثناء، شاعت أقاويل ومعلومات، تتحدث عن إمكانيات وفرص وقدرات التنصت على هذا الجهاز الصغير الغريب والجديد المنتشر بين الناس، بسرعة كالنار في الهشيم. ونتيجة لهذه الأقاويل والمخاوف، كُلف النائب اللواء سامي الخطيب يومها، والذي كان يرأس لجنة الدفاع الوطني والأمن البرلمانية، بالشروع في تحقيق لتحديد المخاطر الأمنية التي يرتبها استخدام الهاتف الخلوي، في موضوع التنصت ونقل المعلومات.. باعتبار أن الخطيب كان من أبرز ضباط مخابرات الشعبة الثانية سابقاً، وقد مارس هو نفسه التنصت في بعض الأحيان، من ضمن المهام الأمنية التي كان يتولاها في استخبارات الجيش اللبناني في العاصمة، حين لُقب بوالي بيروت، نسبة إلى نفوذه وخبرته وسيطرته الأمنية آنذاك.
في بداية التسعينات، احتاج التحقيق الذي تولاه اللواء الخطيب، إلى وقت ليس بقصير، لكي ينهي بحثه الذي عرض في اجتماع مغلق للجان النيابية يومها. وقد خلص اللواء الخطيب في ذلك الوقت إلى النتائج، التي تقول إن التنصت على الهاتف الخلوي يسير، لكنه بحاجة لبعض التقنيات المتطورة البسيطة، باعتبار أن الخلوي يلتقط ويبث إرساله عبر موجات الأثير، وهناك محطات إرسال متعددة موزعة لبث الموجات وإعادة توزيعها.
ومن ضمن الخلاصة التي قدمها اللواء الخطيب آنذاك، تبين أن جهاز الهاتف الخلوي هو جهاز تنصت نقال يحمله المواطن أو المستخدم بين يديه، وفي الإمكان اختراقه والتنصت على صاحبه، أو حامله، حتى لو وضع على الطاولة أثناء الحديث، إذا قرر المتعقب التنصت على حامله ليعرف ماذا يدور في الغرفة. وقد نصح التقرير الذي اُعد يومها النواب بفصل الهاتف عن بطاريته لكي يتم تعطيل عملية التنصت الممكنة، إذا ما كان جهاز الخلوي في الغرفة مثلاً أثناء نقاش أو حديث.
هذا التقرير أُعد يوم كان الخلوي في الجيل الأول، وكان أغلب المستخدمين في لبنان يحملون هاتف "أبو لمبة"، كما كان يقال، إذ يسهل فصل الهاتف عن بطاريته وفصله عن الإرسال والتشغيل.
منذ ذلك اليوم، تطورت التقنيات بشكل هائل، ودخل الخلوي في مرحلة الجيل الخامس مثلاً في أغلب الدول.
المفارقة، أن لبنان أول دولة في المنطقة، وربما بين دول العالم، استخدمت الخلوي باتت في آخر سلم التطور في هذا المجال، وفي آخر الدول المستخدمة لهذه التقنية من حيث الحداثة والمردود وجودة الاستخدام والإرسال.
الدولة، التي قطعت أشواطاً متقدمة إلى الأمام، في استخدام الهاتف الخلوي وتطوير برامج التنصت والتعقب والاختراق، هي إسرائيل جارة لبنان وعدوته، والتي نجحت في تطوير أحدث برامج الاختراق والتعقب للهواتف الخلوية في العالم، والقادرة على التجسس والتنصت والتصوير، حتى لو كان الهاتف في وضعية عدم التشغيل أو الاستعمال.
يعني، حتى لو كان الجهاز محمولاً باليد فقط، من دون استخدام أو إجراء محادثة، فإن بإمكان المُخترق استخدامه للتنصت والتتبع.
وقد عرفت البرامج التي طورتها شركة "إن إس أو غروب" (NSO Group) الإسرائيلية عبر التوصل إلى إنتاج برنامج التجسس الشهير، بيغاسوس (Pegasus)، التابع للشركة الإسرائيلية المذكورة. والمقصود به الحصان الأسطوري المجنح في الميثولوجيا الإغريقية، والذي يمكنه الوصول إلى جميع البيانات الموجودة على هاتف الشخص المُستخدم.
لم يعد خافياً أن البرنامج المذكور والمشار إليه، قد راج لدى دول كثيرة قمعية وتجسسية في المنطقة من حولنا وفي العالم، أقدمت على استخدامه، كوسيلة، لتعقب واختراق هواتف المشاهير والشخصيات المعارضة والنشطاء في السياسة، ومعرفة ماذا يخططون ويتحدثون وأين يذهبون ويتنقلون وماذا يفعلون.
مناسبة هذا الحديث، وهذه المعلومات، هو الكلام الذي صدر في خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الأخير، في يوم الجريح، والذي طلب فيه من عناصر حزب الله وسكان منطقة الجنوب الاستغناء في هذا الظرف عن هواتفهم الخلوية، لقطع الطريق على اختراقات العدو الاسرائيلي الأمنية.
الداعي لحديث السيد نصرالله، بطبيعة الحال، هو حجم الاختراق الذي تمثله إسرائيل مالكة تقنيات التجسس والتعقب الأحدث في العالم للهواتف الخلوية المحمولة، في هذه الأيام في صفوف سكان قرى الجنوب والمقاتلين من أعضاء حزب الله .
وقد قيل الكثير، ونُسج، حول أسباب نجاح إسرائيل في المدة الأخيرة في تعقب واغتيال عدد من المقاومين، بسبب تعقب واختراق هواتفهم الخلوية، وآخرهم القائد الحمساوي الفلسطيني صالح العاروري، في قلب الضاحية الجنوبية، الذي قيل إنه كان يستخدم أو من كان معه هاتفاً خلوياً، مما سهل على إسرائيل اصطياده، بعد التعرف إلى بصمة صوته، مما مكنهم من تحديد مكانه وتوجيه الصواريخ القاتلة إليه.
وقد شهد العالم، عمليات، اغتيال متعددة بسبب تتبع حاملي هواتف خلوية مُطاردين من قبل متعقبين لهم.
المفارقة الأولى، في هذا المجال، أن هذا الحديث يثار في الذكرى 19 لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعد أن أثبتت التحقيقات التي أجريت أن العنصر الأساسي الذي ساهم في كشف القتلة، هو عنصر تتبع الهواتف الخلوية للمجموعة التي نفذت جريمة الاغتيال، وقد اعتبرته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، دليلاً صلباً ودامغاً، استندت إليه في إدانتها للمجرمين الذين تابعوا وارتكبوا جريمة الاغتيال.
المفارقة الثانية، أن إحصاءات وتجارب عديدة أجريت أكثر من مرة وفي أكثر من دولة أثبتت أن كل محاولات فصل الإنسان الحديث، في القرن الحالي، عن هاتفه الخلوي قد فشلت. حتى أن البعض قد خُير بعض الرجال والنساء بين ترك الحبيب أو العشيق أو الهاتف الخلوي، فقرروا الاحتفاظ بهاتفهم بدلاً من الاحتفاظ بالحبيب أو المعشوق.
فهل سينجح الحبيب، السيد نصرالله، في حض الجنوبيين على ترك هواتفهم؟ والتخلص من العميل الملتصق بهم؟
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|