ميناء بايدن في غزّة: قوات أميركيّة في فلسطين؟
سنعرف يوماً حقيقة مستقبل إقامة ميناء عائم مقابل شواطئ غزّة. وما قيل إنّه سيكون مؤقّتاً، قد يؤسّس لتدخّل أميركي من نوع جديد داخل ملفّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كما داخل مشهد الشرق الأوسط برمّته. فهل يكون ميناء بايدن في غزّة مقدّمة لنزول قوّات أميركية برّيّة في غزّة؟ ومقدّمة لتدخّل أميركي – دولي عسكري مباشر في فلسطين؟
إذا ما كانت التفاصيل التقنيّة لبناء ميناء بايدن في غزّة تتدافع شحيحةً، فإنّ لكلّ جانب فنّيّ في بناء الميناء خريطة طريق سياسية في الشكل والمضمون. بدءاً من تفاصيل الرسوّ والبناء وانتهاء بآليّات توزيع المساعدات الإنسانية الموعودة. مع ما يتطلّبه ذلك من انتشار عسكري بحريّ قد يحتاج إلى آخر بريّ. وإلى مشهد دوليّ جديد يفرض سبلاً وأنماطاً وقواعد وشروطاً لانتشال قطاع غزّة من محنته.
لا نعرف الشيء الكثير عمّا دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى ارتكاب “محرّم” لم يُقترف منذ قيام دولة إسرائيل. ولطالما ردّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس عبارة “إحمونا” أمام منبر الأمم المتحدة. وطالب بوجود قوات دولية، أميركية بالذات، لتكون شاهدة على الأقلّ على ما يعانيه الفلسطينيون. غير أنّه في عرف قادة إسرائيل، من ديفيد بن غوريون إلى بنيامين نتنياهو وما بينهما… لا مكان لأيّ عيون دولية، حتى لو كانت أميركية، على فضاء إسرائيل السياسي والأمنيّ، دولة أو احتلالاً.
لم تقبل إسرائيل بما درج العرب والفلسطينيون على المطالبة به: “مؤتمر دولي للسلام”. رفضت المبدأ وذهبت زوراً إلى “مدريد” عام 1991. لم تحضر المؤتمر استجابة لنداء الدول بل مسايرة لرغبة واشنطن وحدها. فالأخيرة كانت تريد من خلال “مدريد” في 30 تشرين الأول من ذلك العام أن توحي للمنطقة بتحوّلات كبرى بعد أشهر على انتهاء حرب تحرير الكويت. وإذا لم تعترف إسرائيل إلا بالولايات المتحدة طرفاً خارجياً راعياً لمسائل الصراع. فإنّها حرصت في كلّ المناسبات على استبعاد فكرة أيّ وجود أميركي عسكري مباشر في ميادين ذلك الصراع.
ميناء… “اليوم التالي”
يعِدُ الأميركيون بإرسال ألف جندي إلى بحر غزّة للإشراف على مهمّة بناء ميناء بايدن في غزّة الذي سيعوم في بحرها غير بعيد عن برّها. يعدون أيضاً بألّا يكون للولايات المتحدة جنود على اليابسة. يفاجئ بايدن الكونغرس بقراره. وينتهز فرصة خطابه السنوي عن “حال الاتّحاد” للإعلان عن تحوّل دراماتيكي يزجّ بالجيش الأميركي بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. توافق إسرائيل على مضض وتحاول أن تدّعي استيعاب مزاج مستجدّ صادر عن واشنطن.
يتذكّر أصحاب الذاكرة في الولايات المتحدة أنّ قوات المارينز تدخّلت في عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان لإخلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982. بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف ذلك العام. يتذكّرون أنّ تلك القوات لملمت خيبتها بعد هجمات شُنّت عام 1983 أطاحت بمقرّ المارينز وبالسفارة الأميركية في بيروت. حينها كان اختفى العامل الفلسطيني وأطلّ العامل الإيراني. فآثر ريغان حينها سحب قوات بلاده، وإدارة الظهر للبنان، وإعادة تسليمه لوصاية دمشق، في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد.
لا شيء يوحي في قرار بناء ميناء بايدن في غزّة أنّ واشنطن ستذهب بعيداً في التدخّل في غزّة. غير أنّ وجود الميناء الأميركي يعني أنّ بنى تحتية أميركية ستكسر احتكار القرار. واستطراداً ستدلي بدلوها في تقرير مستقبل القطاع ومستقبل الصراع ومآلات “اليوم التالي”. وإذا ما ضاعت العواصم، العربية والإقليمية والدولية، في تعريف طبيعة ذلك “اليوم”… فالثابت أنّ معطى “الميناء” هو أوّل سمات إرادة أميركا وضع أوّل لبنة لهيكل ما زال مجهول المعالم.
لماذا استبعاد معبر رفح؟
ما نعرفه هو أنّ بسط الميناء سيستغرق 60 يوماً، وسط تصريح متشائم لبايدن استبعد فيه الاتفاق على هدنة قبل شهر رمضان. فإذا ما نجحت مفاوضات وقف إطلاق النار لمدّة 6 أسابيع… وإذا ما نجحت واشنطن في تمديد الهدنة وربّما جعلها نهائية… فإنّ إتمام إنشاء الميناء الأميركي سيصادف التوقيت الأمثل لإطلاق عملية دولية أممية لتوزيع المساعدات الإنسانية.
في القاهرة تساءل الرئيس عبد الفتّاح السيسي، عمّا كان يمنع تسهيل عبور المساعدات كمّاً ونوعاً وتدفّقاً من خلال معبر رفح المصري. وفي السؤال يطلّ استفسار بشأن العنوان السياسي لقرار أميركي استحداث لوجستيّات بإشراف ألف جندي أميركي بحراً.
وفق المتحدّث باسم البنتاغون فإنّ الرصيف البحري “يسمح لسفن الشحن بنقل البضائع إلى سفن أصغر لنقل وتفريغ البضائع عبر جسر مؤقّت لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة”. ستعمل واشنطن مع دول أخرى لتحديد من سيساعد في تشغيل الجسر وتوزيع المساعدات إلى غزة وفي غزّة. وتمّ تحديد قبرص كواحد من المواقع التي يمكن تحميل المساعدات فيها على السفن ثمّ نقلها إلى الرصيف العائم.
حدّد البنتاغون بالفعل عناصر من مشاة لواء النقل السابع من قاعدة لانغلي يوستيس المشتركة في فيرجينيا. ومهمّتها المساعدة في بناء الرصيف والجسر، الذي من المتوقّع أن يبلغ طوله 1,800 قدم ويتكوّن من مسارين. ولا يوجد تقدير لتكلفة هذا الجهد حتى الآن. وبمجرّد بناء ميناء بايدن في غزّة، وفق البنتاغون، يتوقّع أن توفّر الشحنات عبر الرصيف أكثر من مليونَي وجبة غذائية يومياً. وتوقّعت معلومات أخرى أنّ ميناء بايدن في غزّة سيكون قادراً على استقبال سفن كبيرة بها طعام وماء ودواء وملاجئ مؤقّتة.
إسرائيل قادرة على العرقلة… من قبرص
بعد ساعات من إعلان بايدن بات لغزّة ميناء وبات للميناء جسر. ثمّ تتدافع الأسئلة. تنقل جريدة “الغارديان” البريطانية عن مسؤولي منظمات إنسانية أنّ أمام الميناء تحدّيات كثيرة. أهمّها قدرة إسرائيل على عرقلة وصول هذه المساعدات. سواء من خلال مفتّشيها للمراقبة في ميناء لارنكا في قبرص أو من خلال سيطرتها العسكرية على القطاع. خصوصاً لجهة عدم وجود جنود أميركيين على الأرض.
من جهتهم يذكّر مسؤولو الإغاثة بانهيار الهياكل الإدارية والحكومية والعشائرية والأمنيّة في القطاع. وهو ما يشكّل عائقاً أمام توزيع المساعدات التي تتعرّض حالياً للفوضى والنهب. يضيفون أنّ الأمر خطير لدرجة تهديد نجاعة وفعّالية الميناء كما المساعدات التي تصل برّاً وجوّاً.
تنقل صحيفة “فايننشيل تايمز” البريطانية عن أحد كبار المسؤولين الأوروبيين أنّ المساعدات سيتمّ تسليمها من قبرص إلى المنصّة التي ستنشئها الولايات المتحدة. وأنّ واشنطن وضعت خطّة بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وقبرص والإمارات العربية المتحدة. والأمم المتحدة هي التي ستتولّى في نهاية المطاف إدارة إمدادات المساعدات إلى غزة.
تشير معلومات إلى أنّ الفكرة والتمويل عربيَّان. وأنّ البيت الأبيض تلقّف الأمر على خلفيّة تصاعد الخلاف مع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو. استقبلت نائبة الرئيس الأميركي كاميلا هاريس منافسه الداخلي بيني غانتس. ثمّ أعلن بايدن بعد أيام تحت قبّة الكونغرس قرار بناء ميناء بايدن في غزّة. وعلّقت وكالة “بلومبيرغ” أنّ الخطوة تشير إلى “تحوّل في استراتيجية الولايات المتحدة”.
أنواء الصراع.. لطالما دمّرت مرافىء
في هذا السياق تثير صحيفة “بوليتيكو” قضايا خبيثة. تقول إنّه يجب حماية المساعدات بمجرّد وصولها إلى الشاطئ. ويجب إدارة الحشود التي تصرخ للحصول على المساعدة. فمن سيتولّى ذلك؟
ستروج أسئلة كثيرة وتُثار قضايا بشأن آليّات عمل ميناء بايدن في غزّة. ذهب الرئيس الأميركي إلى المخاطرة بانخراط مباشر يعيد الولايات المتحدة بقوّة وربّما بفائض قوّة إلى الشرق الأوسط وإلى قلب ملفّ “قضية العرب” الأولى.
يأتي القرار منسجماً مع متطلّبات حملته الانتخابية التي تفقد زخم الجناح التقدّمي في حزبه. وتعاني من حرد الصوت المسلم. يأتي أيضاً متّسقاً مع تحوّلات أخرى سجّلتها إدارته منذ تفجّر حرب غزّة. إذ راحت تبشّر بدولة فلسطينية كمدخل بات شرطاً لاستمرار مسارات التطبيع العربي مع إسرائيل. بدا أنّ غزّة باتت مفترقاً للرئاسة يتطلّب “صفقة” تاريخية يحتاج رسوّها إلى ميناء..
يبقى أنّ أنواء الصراع الهائلة والتاريخية لطالما أغرقت سفناً ودمّرت مرافئ طموحة.
محمد قواص - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|