الدينونة في عالم اليوم المتغيّر
بقلم مازن عبّود
مع كل ما يجري في المنطقة، وبعضنا يدعي بانّه يحارب كفريضة طلبا ليوم الدينونة او الدين، صرت اسأل "أي دينونة تنتظرني انا هو الشقي؟". موضوع الدينونة بالنسبة اليّ يكتسي بعدا آخر.
الهدف الأساسي من اثارة موضوع الدينونة شعبيا ردع التصرف البشري لانتظام الحياة والتبادل، وهذا من مهمة الاديان. تصوّر مجتمعا بلا دينونة. تصوّر مجتمعا بدون موت. الدينونة الميزان الذي يعبر عن الحكم الإلهي. ميزان المصريين القدامى ورثه مخائيل رئيس الاجناد الملائكية. فالتوازن الروحي للراقد يشكل بوابته الى العالم الاخر. جدرانية مايكل انجلو في السيستين شابيل تظهر بتناقض تركيباتها اضطراب القوى الارضية العاجزة امام الديّان. المسيح مركزي ومحاط بالأبرار يكشف جراحه للناس. كل شيء يدور حوله. اهمية الجدرانية بأنها تجمع الحضارات القديمة الى المسيحية. الملفت بانّ القديسين يظهرون للمسيح صفاتهم غير متأكدين من خلاصهم ويطلبون اليه ادانة من لم يخدم قضيته، وهذا لا اتفق معه شخصيا. بطرس يقدم مفاتيح السماء الى الديّان، لانّ لا حاجة إليها بعد الآن. ما يرعبك هو مشهد الملعونين. مطهر دانتي لا يغيب عن المشهدية، الا انّ الأرثوذكسية لا تعترف بالمطهر. يبدو الملائكة كما في سفر الرؤيا على السحاب، وسبعة أبواق تنفخ. تظهر الكتب مفتوحة وفيها تسجل الاسماء. هناك كما في ايقونة الدينونة الشياطين تسحب الناس الى الاسفل والملائكة ترفعهم الى فوق.
في موازاة ذلك اتذكر ركن مدرسة الاسكندرية اوريجنس الذي اعتبر بانّ الخلاص للجميع. وما بينه وبين تعاليم الكنيسة مسافة. الخلاص عند الارثوذكس ليس بالأعمال بل بالمحبة. يتكلم أ.شميمان (1974) عن المحبة كمعيار للدينونة. فهي "ليست مجرد اهتمام إنساني بالعدالة المجردة والفقراء المجهولين، بل محبة ملموسة وشخصية للشخص البشري الذي يجعلني الله ألتقي به في حياتي". فالحب المسيحي ليس مرتبطا بالعرق والعائلة والاهتمامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بل انه يلف أي بشري. لذا، "الكنيسة مدعوة لفهم الاختلاف والحفاظ عليه، كي لا تصبح رسالتها الفريدة وكالة اجتماعية". عنده "الحب المسيحي استحالة محتملة لرؤية المسيح في اي رجل قرر الله في خطته الأبدية والغامضة، ادخاله في حياتك... كبداية لرفقة أبدية مع الله نفسه". حبّ يتجاوز المظهر، والرتبة، والاصل والقدرات الفكرية ليصل الى الكنز الفريد الذي لا يقدر بثمن (الروح). "فالحب مشاركة في المعرفة الإلهية وعطيتها". بالنسبة اليه كلّ "حب شخصيّ" لإنه اكتشاف "للشخص" في "الإنسان"، وللشخصي والفريد في المشترك والعام. إنه اكتشاف كل إنسان لما هو "محبوب" فيه، لما هو من الله.
يميّز شميمن الحبّ المسيحيّ عن "النشاط الاجتماعي". فالناشط الاجتماعي يضع المصلحة العامة فوق الشخصية. والمسيحي يرتكب خطيئة حين تتخلى عن اهتمامه بالشخص. النشاط الاجتماعي يركز على الرفاه العام المستقبلي اما المسيحي فيركز على الحاضر كوقت حاسم ووحيد للحب. للمسيحيين مسؤوليات تجاه العالم، لكنّ محبتهم أبعد من العالم. محبة تشكل شعاعا وظهور لملكوت الله الذي يتجاوز ويتغلب على قيود العالم. فدوافعها واهدافها واكتمالها في الله. المسيحي يعتبر بانّ الانتصارات الوحيدة الدائمة والمغيّرة في هذا العالم الكامن في الشر هي انتصارات المحبة. اما رسالة الكنيسة الحقيقية فتذكير الإنسان بالحب الشخصي وبملء العالم الخاطئ بالحب.
المتروبوليت أ.بلوم (1972) يعتبر الخوف من الدينونة دافعا الى الغفران. "فكلنا مسؤول عن بعضنا البعض". والمطلوب "ان نكون عظماء على مثال الله". "الدينونة ليست مجرد لحظة نواجه فيها خطر الإدانة. ففي فكرتها شيء عظيم وملهم". "احكامها ليست وفق معايير السلوك الإنساني واللياقة، بل وفق معايير المحبة التي هي ميزان الله". الحب عند بلوم ليس الحب العاطفي، بل المعاش والمنجز. "المهم مدى الحب في الاعمال". ويعتبر بأننا نواجه الدينونة إذا ما أدركنا مدى انسانيتنا الفعلية ومدى تعبير حياتنا عن الحبّ الجميل والمدرك والمبدع والسخي والمضحي.
فنحن ندان بحسب أ.كونياريس لعدم محبتنا للملك المتنكر في ثياب فقير ومحتاج ومعدم. فيكون استقبالنا له ليس لصلاحه بل لخوفنا ورهبتنا منه. انه يسألنا عن اشياء بسيطة كقطعة خبز، كوب ماء، كلمة، زيارة، ابتسامة... بتنا نفتقد الضيافة والبيوت المفتوحة في عالم اليوم. وستدان البشرية لانتفاء المحبة والضيافة. ما يطلبه الله منا ان لا نكون معدمين لدرجة العجز عن المحبة وتقديم اي شيء. وهذا ما يجعلنا مباركين او ملاعين فعلا بميزان الحب. مسكين من لا يجد في بيته كسرة خبز او ابريق مياه او ابتسامة يقدمها...
وتراني اردد مع انطونيوس البرية: "انا لا أخشى الديّان لأني اسعى ان احبه". جدتي الفقيرة كانت تستضيف الغرباء وتطعمهم لإنها كانت ترى فيهم الملك. لم تكن معدمة لدرجة العجز. كانت دوما تجد ما تعطيه. لم يمنعها فقرها من تقديم اشياء بسيطة لهم. اشعر بأننا صرنا في حالة عجز وفقر. كرم المتصوفين الفقراء في مناسك جبل آثوس اسرني. تشعر بصغرك حين ترى فقيرا يعطيك كل ما يملك. يتصرف تجاهك كأنك الملك القادم إليهم، فيلثم يدك ويسجد لك. اسرني ذلك أكثر من كل الحضارة والقلاع والايقونات والترتيل والكنائس. عالم اليوم فقير بسبب انتفاء الحب الحقيقي الذي بغيابه يحلّ الموت. مدعوون نحن الى مملكة الحب والمسؤولية والمشاركة في الخيرات. مدعوون الى المحبة والشفافية والكرم. مدعوون الى العظمة بعد ان صار الكبير صغيرا بحسب ايمان المسيحيين. الارثوذكسية المنفتحة اليوم ترى انّ الدينونة هي انتفاء الخلاص بالمحبة. وادوار الاديان تقديم المحبة اطباقا وجمع الناس وحل المشكلات لا صنعها.
عالمنا يحتاج محبة حقيقية لا للذات بل للآخر وضيافة. يحتاج محبة لا ادانة كي لا ندان. بعد الضيافة يتقلص في قرانا وبلداتنا ومدننا، وفي هذا موت لحضارتنا وللإنسانية ودينونة للبشري الذي لا يعرف ان يحب حتى قبل مجيء الديّان.
قد تأتي الصواريخ والحروب بالإبادة. وقد يأتي الذكاء الاصطناعي او الثورة البيولوجية بذلك. وقد تنهي الحضارة، فتحلّ الدينونة. لكنّ الديّان لن يدين حتما وفق ما اسمع من قصص بل وفق المحبة. فبالمحبة انتفاء للدينونة وهذا ما يحتاجه العالم اليوم فعلا. فلنعمل جميعا لذلك كي نحفظ حضارتنا ونواجهه بوجوه مضاءة...
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|