المجتمع

السوريون في لبنان: عن الخوف وقدرتنا على إنتاج ضحيّة جيدة!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

"درج":  مكسيم عثمان

لا يهدف هذا النص وحججه الى إبراز صورة مجتمعية رائعة وسليمة وآمنة للمجتمع اللبناني، لكنه يحاول التقاط مظاهر الألفة والمودة بوصفهما قابلين للقياس، ضمن ظاهرة النزوح السوري وتطوّر أبعادها وامتدادها الزمني.

تستطيع أن تعرف السوري في لبنان بسهولة، من قال إن الوجوه لا تُعبّر عن كل شيء أحياناً؟ هل يحتاج النازحون والهاربون من النظام السوري، إلى بطاقة هوية لكي تعرفونهم؟

لا، بسهولة يُعرفُ السوري الذي خرج من داره ووصل إلى لبنان. إذ لا يملك إلا خوفه ووجهه، لا داعي لرؤية الهوية التي يحملها أو الاستماع  إلى لهجته. هو يميل بوجهه الى الأسفل دوماً، ويَشعر دوماً بالانكسار، ويُحاول أن يكون نظيفاً على رغم رثاثة ثيابه، مقارنة بلباس سكان الأحياء التي يعمل فيها.

 تلتقي بالسوري الخائف على أبواب الأبنية الكُبرى، حيث يعمل كغيره “ناطوراً” للبناء، ويسكن غرفة صغيرة ملحقة. ويمكن أن تعرف السوري أحياناً  كونه أقل جرأة على إمساك الموبايل حين يقود دراجته الناريّة، تلك التي ينظّم الأمن العام اللبناني حواجز خاصة لـ”مصادرتها”.

حين يلتقي سوريان في لبنان أمامكم، تأملوا كيف يلقيان السلام على بعضهما، وكأنهما بعيدان عن الوطن آلاف الكيلومترات، وكأن سوريا بعيدة إلى الحد الذي يشكل فيه لقاء سوريين اثنين حدثاً، على رغم أن الحدود السوريّة لا يتجاوز بُعدها عن بيروت ساعتين في السيارة.

يمتلك السوري مظاهر سلوكية مختلفة، تراه في الأماكن الضيّقة داخل مطابخ المطاعم أو المحال الغذائية والمولات الكُبرى، يقف قرب برادات الأكشاك، هناك نقص في الأماكن التي يمكن أن تحتوي على “جسد السوري”.

غياب المكان هذا لا يعني أن السوري مُستعبد، هو يعمل باذلاً جهداً هائلاً، ويبدو على ملامحه انكسار خاص ونوعي، لكنه يعمل في لبنان. 

يفرح السوريّ في لُبنان لأنه يستطيع بمقدار أجره أن يأكل ويشرب، يستطيع أن ينظر حوله من دون ظلمة، فجهده الجسدي يخوّله الحصول على قوت يومه، وأن يُشكل ذاكرة رُهابية تختزن قلقاً هائلاً نتيجة بعده عن بلاده.

أين ذهب التعاطف؟

الوصول السوري إلى لبنان بدا عاطفياً في البداية، “كل” اللبنانيين تعاطفوا مع النازح السوري، وهم يشاهدون على التلفاز آلاف البراميل التي تُرمى على الأحياء المدنيّة، واقتحامَ الجيش السوري وحلفاءه المدن والمحافظات الثائرة.

شكّل النظام السوري وسلوكه التاريخي مع الشعب اللبناني قيمة عاطفية وتذكيرية لكل لبناني، يشاهد في أعين النازحين آلامهم وآلامه نفسها، تلك التي اختبرها سابقاً مع النظام السوري.

تشكّلت حميمية هائلة لا يُمكن نكرانها، ولا يُمكن إضفاؤها على الفعل السياسي فقط. استُقبل السوريون بداية على أكمل وجه، آلاف الشبان عَملوا ودفعوا بدل خدمتهم للجيش في لبنان، وآخرون عملوا وكان لبنان محطة سفرهم، لكن الوقت يفتّت أي قيمة عاطفية وألفة بين الناس، وسيكون لـ”الآخر” بُعد جديد لطالما هو “آخر”.

لا تكفي العاطفة والحميمية ليبقى السوري محط التعاطف، إذ لم يسقط النظام السوريّ، وانخلع “العالم” عن القضية السورية، وعن جوع النازحين وكوارث العالم كلّها التي تتكاثر. وطوال السنوات، لم ولن يكون لبنان ناجياً مما يحصل، فإفلاس البنوك وانفجار المرفأ والكورونا، ذلك كله جعل اللبنانيين وحيدين أيضاً في مواجهة النزوح والهروب السوري الذي لا يتوقف، وعاد السوري الى موضع “الآخر” الغريب، المُتّهم بالمسؤولية عن “كل” مصائب لبنان.

هل لبنان ملاذ أفضل من سوريا؟

مر وقت طويل منذ عام 2011، وتحوّل النزوح السوريّ إلى هرب من بلادٍ توقفت فيها الحرب، لكن الحياة فيها مستحيلة، بلاد يبلغ الحد الأعلى للأجور فيها سنوياً 200 دولار.

الشرط السابق جعل لبنان باباً للتحرر من العبودية لعصر لا يملك السوري فيه إلا جوعه وبحثه عن ملاذ أفضل. 

المفارقة، أنك تستطيع اختراق الحدود كلها إن عرفت شبيحاً واحداً، إذ يدلك على الطريق مع من يسمون في سوريا “شبيحة الحزب”، أي حزب الله، ذاك الذي  تفتّتت سردية المقاومة التي يتبناها في سوريا لتصبح سردية مُهربين، وإدارة لتجارة الكبتاغون وتهريب الدخان والقطع الأجنبي، وما المشكلة أن يكون البشر “قطعاً” للتهريب!

500 دولار أو ألف وأحياناً 300 دولار توصلك لبنان، لا حاجة بعد اليوم الى أمم متحدة، ولا الى أي منظمة أخرى، وصلنا إلى لبنان لننجو ونتنفّس. نراهن على فائض من كرامة اللبناني في أن يجعل الواحد منا يتمتع بالكهرباء والإنارة، بدل أن يفقدها كُلياً في سوريا.

 يتشارك اللبنانيون والسوريون تواصلاً يشعر فيه اللبناني بدهشة هائلة، يسأل اللبناني كيف يحتمل السوري أن تصله الكهرباء لساعتين خلال 24 ساعة؟ الإجابة دوماً تذهلهم كما تذهلهم إمكانية أولئك الهاربين في تدبّر أمورهم. 

اندفع السوريون في لبنان الى العمل، ففي سوريا المجاعة لا يمكن الخلاص منها بالعمل، فمهما بذل الفرد جهداً، لن يتجاوز دخله اليومي الدولارين، هذا إن عمل على مدار 20 ساعة، ما قد يجعلنا أمام مفارقة لا تنتهي، مفادها: لبنان ملاذ أفضل للسوري من بلده! 

الخوف من العضلات المريبة!

يخاف السوري من الأبدان ذات العضلات المفتولة بريبةٍ، فـ”الشخصية الجسمانية”، منذ وصول البعث إلى السلطة في سوريا، مُرعبة، خصوصاً  إن كان يرتدي صاحبها قميصاً أسود ويدفع لحيته لتحيط بوجهه. 

ليس موضوعنا هنا تاريخ الشبيحة وغيرهم، لكن مع مقتل القيادي في حزب “القوات اللبنانية” باسكال سليمان، انتهت مرحلة التعبيرات الكارهة للوجود السوري، لتتحول إلى”تعبيرات جسمانيّة”، أجساد مفتولة العضلات، تهدد وتندد وتستعرض القوّة، هي أبدان توحي بالنشاط والحركة، وبأن “حل المشكلة” السوريّة يكمن في الجسد والتهديد.

مشاهد الرعب التي نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أفرغت الأوكسجين من صدور السوريين، الذين لا يحتاجون أصلاً الى أي صدمة رعب جديدة تذكّرهم بما مروا فيه وما يعرفوه عن وطنهم الأم.

تغيّر سلوك السوريين، الألفة التي صنعها اللبناني لهم لا تُنسى، لكن كثيراً ما يتم التحريض عبر الخطاب الإعلامي واتهام السوريين بأنهم “تنظيم مُضمر”، يُستعاد في هذا الوجود الفلسطيني، بمقارنة لا يتم تركيبها ضمن معيار منطقي. 

السوري “أضحيّة” لخراب لبنان

“الأنا اللبنانية” التي تحتاج وحدتها من الصعب أن تتفهم هذا الوجود السوري كله، لكن هل درس اللبنانيون تصرّف السوريين عموماً، مخاوفهم وانكسارهم وذلهم والرعب الذي أضافوه لهم جراء رعب الفيديوهات التي انتشرت؟

لم تتكاثر مقاطع العنف، لكن أحد المقاطع التي انتشرت لشابين يضربان سورياً في الطريق شكّل صدمة لنا نحن السوريين. استسلام السوري ورعبه بدا درساً، إذ لم يجتمع أي سوري مع سوري آخر، لصدّ الضاربين أو حتى التكاثر عليهم لإيقافهم.

 كان السوري تحت الركل والضرب ينظر إليهما لتنتهي موجة العنف، يحدّق بشابين أصغر منه سناً، يحاولان تفتيت جسده بضربات سريعة. كان يمد جسده فوراً كطفل، يحاول ألا يرتعد أو أن يقاوم، ألا يُشعر ضاربيه أبداً بأنهم ظُلاّم، استحوذ نفسه كـ”خاطئ” وأنه يتلقى “عقاباً مناسباً”. 

أجساد الذين تعرضوا للعنف شكّلت “ضحية” جيدة لتفريغ الوهم بالخطر القائم، ضحايا الضرب السريع والعنيف، استطاعوا استحواذ دور الأضحية ولو جزئياً، وتفريغ العنف الذي يختزنه الكثيرون في جسد السوري.

ألفة جديدة!

ما يُسمى “أنا الجماعة الأعلى” لن يظهر أبداً في لبنان على المستوى السوري، إذ لن ينتظم النازحون في حزب أو أي جماعة للتأسيس لـ”دافعية دفاعية”، ولن يؤثروا على أي أحد عنفياً أو جماعياً  على رغم الحجم الكبير لأعدادهم.

 وفي الوقت ذاته، نأى عقل الجماعة اللبناني بنفسه عن العنف، أو حتى على الانخراط في دعاية طرد السوري، الحادثة شكلت ألفة ومودة جديدة، تقود الى فترات عصيبة في التفكير الجماعي، فالاستهجان اللبناني لضرب الناس في الشوارع يُشكل قيمة مضافة لسياق وعي الجماعات. 

الصيد في الماء العكر كان مُريباً، فالشماتة بمن استقبلوا اللاجئين رخيصة، الأصوات التي تلت الدعوات لطرد السوريين بالشماتة بمستقبليهم إشارة خطيرة، ليس نحو السوريين، بل نحو الألفة والمودة وظاهرة الاجتماع الفطرية لدى اللبنانيين في احتواء السوريين، واستقبالهم وحمايتهم من عنف النظام ولو من دون أن يعوا ذلك. 

البحث عن صور الإلفة والودّ

لا يهدف هذا النص وحججه الى إبراز صورة مجتمعية رائعة وسليمة وآمنة للمجتمع اللبناني، لكنه يحاول التقاط مظاهر الألفة والمودة بوصفهما قابلين للقياس، ضمن ظاهرة النزوح السوري وتطوّر أبعادها وامتدادها الزمني.

 من الجيد أن يُصب الجهد السياسي نحو تخليص السوريين من ظاهرة نزوحهم عبر تفعيل آليات سياسية داخلية لضبط الحدود، ثم تذكير العالم بمصير السوريين المفتوح على الدمار مع بقاء النظام من دون أي رقيب أو ضغط.

لكن المُضحك أن نحاول أن نكون بأجسادنا أكثر تحفظاً، نخاف العتمة والشوارع التي قد يكرهنا فيها أحدٌ ما، أن نبادر لأن نعتذر ممن قد يضربنا لأننا هنا، أن نحاول أن نكون أضحية جيدة لنحمي بجسدنا آخرين، أن نضع صلباناً على رقابنا إن كنا مسيحيين، أو أن نُسلم حياتنا للقدر فقط حينما لا نملك رمزاً يخفف على اللبناني خوفه مِنا. 

أخيراً ،كل ما يُكتب لا يعني أن السوريين ملائكة، الكثير منهم خرجوا من مواقع اجتماعية واقتصادية سلبية، فيها من القهر والفقر والتعب ما يجعلهم أقرب الى الجاهزية السلبية، السرقة وعمليات مُريبة جُرمية.

 لكننا في غالبيتنا، لا نملك أنا عليا نوجهها ونشترك فيها مع أي أحد ليضر هذه البلاد الكريمة في مُطلقها، أوهام الكراهية تحتاج الى دراسة طويلة ومفصلة، نحن السوريين نخاف هنا، وفي الوقت ذاته لخوفنا صورة واحدة، استسلامنا الهائل أمام مُعنّفينا هنا أو في بلادنا التي خرجنا منها.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا