محليات

أيتام حسن نصرالله في سوريا

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لا تُقارن التعزية الباهتة التي أرسلها بشار الأسد إلى حزب الله وعائلة حسن نصرالله بالتعزية التي قدّمها الأخير في حزيران عام 2000 بوفاة حافظ الأسد. حينذاك ذهب نصرالله إلى القرداحة رفقة ثلة من مقاتلي الحزب، وقدّم هؤلاء عرضاً عسكرياً أمام الحضور من المعزِّين، فضلاً عن المشاهدين الذين تابعوا العرض على شاشة التلفزيون في سابقة غريبة من حيث الشكل والمضمون. لكنّ الرسالة كانت واضحة لمن يشاء قراءتها من السوريين؛ ما حدث من تدخل مبكر لقوات الحزب لصالح بشار الأسد، بعد اندلاع الثورة بوقت قصير، كان مكتوباً في ذلك العرض العسكري.

لم يستهجن معظم السوريين العرض العسكري في القرداحة، ومن المعلوم أن الافتراق الكبير بينهم حول شخصية نصرالله سيحدث بدءاً من عام 2011. والواقع أن السوريين بمعظمهم كانوا قليلي الانتباه إلى المكانة الذي راح يشغلها نصرالله منذ ذلك التاريخ، ففي العرض العسكري المُشار إليه قدّم نفسه حامياً للوريث، بما ينطوي عليه مفهوم الحماية من تراتبية تعني أنه بات الأقوى ضمن البلدين، حيث لم يكن زمن وصاية الأسد على لبنان قد انطوى بعد.

بالنسبة للسوريين الأكثر ولاء، يجوز القول إن نصرالله احتلّ لديهم مكانة حافظ الأسد، وأنه بالمعنى الرمزي هو وريثه لا الوريث الفعلي. نتحدث هنا عن الهالة التي كانت للأسد الأب لدى جمهور مؤيّديه، الهالة التي جعلت البعض منهم يقول أنه شاهد وجهه على القمر، بينما يكفي للسواد الأعظم من أيتامه أنه كان في مرتبة الأب. نتحدث هنا عن المعنى النفسي العميق لمفهوم الأب، وهو يتضمن الحماية والاحتواء، وتشتدّ الحاجة إليه لدى القصَّر، وليس من المصادفة رواجه وترويجه في المجتمعات القاصرة سياسياً.

في أحسن حالاته، لم يكن بشار الأسد ليملأ مكانة "الأب الراحل"، بينما كان نصرالله قد تقدّم بقوة ليكون قادراً على تلك المهمة، فعندما ذهب إلى القرداحة معزِّياً في حزيران 2000 لم يكن قد انقضى على انسحاب إسرائيل من الجنوب سوى أسابيع قليلة معدودة. كانت شعبية نصرالله في الأوج، عربياً لا سورياً فحسب، ولا شك في أنه أجاد تقديم نفسه من خلال الخطابات واللقاءات التلفزيونية في زمن الفضائيات، ليتسلل مبكراً في نفوس كثيرة إلى مرتبة الأب، من دون وعي أصحابها السوريين تحديداً لدوره التعويضي. إذ صادف وصول نصرالله إلى ذروة إنجازاته مع رحيل الأسد الأب. على الصعيد البصري، راحت صور نصرالله تنافس، من حيث الانتشار، صورَ عائلة الأسد التي ألِف السوريون رؤيتها على الجدران وزجاج السيارات.

لم تكن مكانة نصرالله الجديدة، بعد رحيل الأسد، مجازية فحسب. بل كان لها آثار صريحة مباشرة لدى العصَب المخابراتي، وهذا ما لا يعرفه عموم السوريين، ويعرفه الذين كانوا قريبين من أوساط ما سمّي "ربيع دمشق"، ومنهم على نحو أكثر تخصيصاً الذين اعتُقلوا أو اكتفت المخابرات باستدعائهم و"توبيخهم". لقد قيل في تلك السنوات لعشرات المعارضين، وعلى لسان ضباط مخابرات في أفرع مختلفة، أن حسن نصرالله هو خط أحمر، بل اقترب بعضهم من التصريح بأن انتقاد الأسد الابن مسموح في حين أن نصرالله خط أحمر.

بعد موت الأسد الأب، راحت أخطاء الابن في لبنان تتراكم لتصل إلى قرار دولي حازم ينص على خروجه من لبنان. وإذ لا يُعرف دور نصرالله في صناعة تلك السياسات، بدءاً من تاريخ موت الأب وصولاً إلى اغتيال الرئيس الحريري، فمن المؤكد والمعلن أنه بذل أقصى جهده لدعم سياسات الوريث من موقع الحامي. فنصرالله هو الذي تصدّى لخصوم الأسد في لبنان، وفي لفتة تذكّر بالعرض العسكري في القرداحة ودّع رستم غزالي (مع نهاية انسحاب قوات الأسد من لبنان) بإهدائه بارودة. أي أن نصرالله قدّم دعمه القوي والصريح للأسد الابن الذي راح يضعف آنذاك (في عام 2005)، وكان لهذا أهمية قصوى لمؤيدي الأسد في سوريا بسبب العواقب المنتظرة لانسحابه من لبنان واغتيال الرئيس الحريري، وأيضاً بسبب الأثر المعنوي لإسقاط صدام حسين من قبل القوات الأميركية في العراق.

في العام التالي، مع نهاية حرب تموز 2006، خرج بشار الأسد بخطاب شهير، تباهى فيه بانتصار نصرالله كما لم يفعل الأخير، الذي أبدى على نحو موارب أسفه بسبب اندلاع الحرب. في خطابه ذاك، وصف الأسد القادة العرب بأنهم "أشباه رجال"، والوصف بطبيعة الحال يأتي من المقارنة مع الرجال الذين خاضوا حرب تموز وعلى رأسهم نصرالله. يصحّ القول إن الأسد الابن كان حينها ينطق باسم تلك الفئة من مؤيديه التي عوّضها وجود نصرالله عن غياب الأسد الأب. وكان إعلان النصر مطلوباً لهذه الفئة أكثر مما يحتاجه نصرالله نفسه، المحكوم بحسابات لبنانية، بل تعدّاها ليكون لاعباً إقليمياً على أنقاض الوزن الإقليمي الذي كان لحكم الأسد.

السنوات الخمس التالية، حتى اندلاع ثورات الربيع العربي، كانت سنوات الدعم الذي قدّمه نصرالله لتعويم الأسد سوريّاً وإقليمياً. وكان حزب الله قد تقدّم لبنانياً ليملأ الفراغ الذي خلّفه انتهاء عهد وصاية الأسد، ورغم الاستسلام الداخلي لدور الحزب الجديد، فقد كان هناك إصرار منه على إبقاء نفوذ (ولو معنوي ترهيبي) للأسد في لبنان. بهذا المعنى صار شبح الأسد ورقة من الأوراق، ولم يعد هو اللاعب الممسك بأوراق اللعب كما كان أبوه من قبل. ويمكن القول، مجازيّاً، إن مكانة نصرالله تكرّست في موقع "الأب" صاحب القرار لدى الكثير من مؤيدي الأسد، وقسم منهم لن يخفي بعد اندلاع الثورة أن موالاته هي وفاء للأب الراحل، لا للوريث.

في بداية عام 2012 لم يعد الكلام عن مشاركة الحزب في قمع ثورة السوريين ضمن التكهنات، أو بين التكذيب والتصديق. ففي ذلك التوقيت صارت متاحة رؤية مقاتلي الحزب في بعض أحياء دمشق، مثلاً، وهم يضعون على أذرعهم شعارات "لبّيك يا زينب"، وبعد شهور قليلة سيبدأ الحزب في نشر نعوات مقاتليه "أثناء تأديتهم واجبهم الجهادي". بعض الذين رأوا في نصرالله أباً لهم كانت صدمتهم مضاعفة، فهُم فوجئوا بقتاله تحت شعارات طائفية فوق مفاجأة قتاله إلى جانب الأسد. الأمر كان مختلفاً بالنسبة لآخرين لم يزعجهم تراجع نصرالله عن مكانته العابرة للطوائف لدى عموم السوريين، إذ لطالما نظروا إليه كأبٍ منقذٍ في حال تعرّض حكم الأسد للخطر، أي كأب لهم على وجه الخصوص.

طرأت تغيرات عديدة خلال العقد السوري الأخير، ومنها ما يتعلّق بتدهور مكانة الأسد لدى مؤيديه، لكن لم يبرز أي مؤشّر على تراجع في مكانة نصرالله لدى هؤلاء، ومن المرجَّح بقوة أنه بقي محتفظاً لديهم بنوع من القداسة إلى جوار الأسد الأب. ورغم تعدد الذين أدّوا دور حماية الأسد، فمن المؤكّد أن شخصاً ما منهم لم ينافس نصرالله على مكانته، فقلّة قليلة عبّرت عن إعجاب مماثل ببوتين، وأقل بكثير منها أولئك الذين أبدوا الإعجاب بقاسم سليماني أو بخامنئي.

من المؤكد أيضاً أن كاريزما نصرالله أقوى لدى هؤلاء من حزب الله نفسه، وليس هناك بين الشخصيات العلنية للحزب مَن له حضور في وجدان السوريين المبجِّلين والممتنين لنصرالله. وبالعودة للمقارنة بينه وبين الوريث، لا شكّ في أن اغتيال نصرالله يُنذر بعدم وجود خطوط حمر أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية، ما يضع مصير الأسد مجدداً على الطاولة، وكأنه صار مكشوفاً باغتيال حاميه الأول.
ضمن القسمة السورية، الذين ثاروا على الأسد، وتخلصوا ضمناً من أبوّة أبيه، هم الذين في الوقت نفسه لم يعد نصرالله بالنسبة لهم رمزاً وأباً. أيتام نصرالله في سوريا، المفجوعون حقاً، هم أولئك الذين كان وجوده يمنحهم الاطمئنان والإحساس بالحماية، هم الذين وجدوا به السلوى في حزيران 2000، هم الذين لا سلوى لهم اليوم.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا