هل مِن محاسبة لِمن عطلوا الانتخابات لسنوات بتمسّكهم بالحوار؟
تخلّت أم لم تتخلَّ: النتيجة واحدة
أثار اغتيال السيد حسن نصرالله ومحدودية الردّ الإيراني الشكوك حول تخلّي إيران عن «حزب الله»، فيما كان يُفترض أن يكون المَسّ بشخص الأمين العام من الخطوط الحمر، وأن يكون الردّ في مستوى الاغتيال، فهل هذه الشكوك
في محلها؟
يسود انطباعٌ على نطاق واسع بأنّ إيران تخلّت عن «حزب الله» وتركته لمصيره وقدره في مواجهة قال عنها الرئيس الإيراني نفسه بأنّ «الحزب غير قادر منفرداً على مواجهة إسرائيل»، فهل هذا الانطباع في محله؟ وإذا كانت طهران تدرك حقيقة عدم قدرته على هذه المواجهة، فلماذا دفعته في اتجاهها؟ ولماذا لم تُخرِجه منها عندما لمست أنّ مواصلته الحرب ستؤدّي إلى تدميره، خصوصاً أنّ فرصة فصل جبهة الجنوب عن غزة كانت متاحة؟ ولماذا لم تبلِّغ تل أبيب مباشرةً أو مداورةً عن طريق واشنطن عندما صعّد الجيش الإسرائيلي في استهدافاته بدءاً من 17 أيلول، بأنّ استهداف السيد نصرالله سيؤدّي إلى حرب مباشرةً بين إيران وإسرائيل، خصوصاً أنّ رسالة من هذا النوع كانت كفيلة، ربما، بردع تل أبيب؟
ومعلومٌ أنّ وضع «حزب الله» بالنسبة إلى إيران يختلف عن وضع «حماس»، فالأخيرة ينطبق عليها وصف الحليف لطهران، باعتبار أنّها تنظيم سنّي لا شيعي، وتقاطعت مع إيران على الهدف نفسه ألا وهو رفض الحلول السلمية مع إسرائيل، ووفّرت لها طهران الدعم المالي والعسكري من أجل تأمين متطلّبات المواجهة، بالتالي الحاجة كانت متبادلة بين حاجة الحركة للدعم المالي والعسكري، وحاجة إيران لقوة فلسطينية لها الحيثية الشعبية التي تُضفي المشروعية على مشروعها في مواجهة إسرائيل، والمزايدة على الدول العربية والسنّية بورقة تستخدمها لمَدّ نفوذها في الشرق الأوسط.
أمّا «حزب الله» فنشأته بدأت في إيران، وتندرج في سياق نشر الثورة الإيرانية وتحديداً داخل البيئات الشيعية، وقد وجدت في لبنان الوضع المثالي ليكون الحزب أول فروع هذه الثورة التي كان يستحيل أن تجد بيئة حاضنة لها لولا الحرب اللبنانية أولاً، ولو لم تخرج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ثانياً، وينتمي الحزب دينياً وفكرياً وعقائدياً وسياسياً إلى إيران، ويُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من تركيبتها الدينية والعسكرية والأمنية.
وعلى الرغم من الاختلاف بين وضع «حماس» و«حزب الله» حيال إيران، إلّا أنّهما في مركب واحد ومشروع واحد ووضعهما سيتراجع كثيراً بعد الحرب عمّا كان عليه قبل هذه الحرب، وأي تراجع ينعكس تلقائياً على الدور الإيراني التوسعي الذي يستمد قوّته من أذرعه.
لكنّ التساؤلات الأكثر رواجاً في هذه المرحلة تكمن في الآتي: هل تخلّت إيران عن «حزب الله» ومقابل أي ثمن؟ وهل أصبح الحزب عقبة أمام سعي طهران إلى صفقة مع واشنطن فقرّرت التخلّي عنه؟ وهل قايضت إيران ورقة النووي بورقتَي الحزب والحركة؟ وهل مجرّد مصادفة أن يُقتَل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (20 أيار) إثر تحطُّم طائرته على مسافة أشهر من اغتيال السيد حسن نصرالله في مقرّه (27 أيلول)، أم ثمة ارتباط ما بالصراع على موقع الوَلِيّ الفقيه الذي بدأ الإعداد له، خصوصاً أنّ شخصية السيّد نصرالله تتفوّق على شخصية المرشد الحالي نفسه؟
وهل ما حصل منذ «طوفان الأقصى» كان مُخطّطاً له ليمنح التبرير لإيران للتخلّي عن أذرعها في سياق صفقة مع الولايات المتحدة، لأنّه يَصعُب عليها أن تَحُل هذه الأذرع، والخيار الوحيد أمامها إدخالها في معركة تؤدّي إلى ضرب قوتها وخسارتها؟
وهل يُعقل أنّه في الوقت الذي تتعرّض «حماس» و«حزب الله» إلى الإبادة، واصلت طهران مفاوضاتها في نيويورك وإغداقها عبارات الود على الولايات المتحدة من خلال وصف رئيسها مسعود بزشكيان الأميركيِّين بالأخوة، وتأكيده بأنّ إيران لا تسعى إلى المعركة مع أي طرف، وأنّه ليس لديه مشكلة بشأن الحوار مع الولايات المتحدة؟
وهل مِن عاقل يستطيع أن يشرح بأي منطق يصرِّح بزشكيان بأنّ «حزب الله» غير قادر على مواجهة إسرائيل في موقف ينعكس سلباً على معنويات الحزب، ومن ثم طالما أنّه عاجز لماذا أذنت له أو دفعته إلى هذه الحرب؟ ولماذا لم تحرِّك جيشها بعد أن بدأت إسرائيل حربها الواسعة أو من تاريخ تفجير أجهزة الاتصال في 17 أيلول الذي بدأ معه العَدّ العكسي لمواجهة الهدف منها ضرب قوة الحزب العسكرية؟ ولماذا اكتفت بضربة حفظ ماء وجه رداً على اغتيال نصرالله تشجِّع إسرائيل على المضي قدماً في حربها طالما أنّ ردودها محدودة وغير فعّالة؟
هذه الأسئلة هي جزء صغير من تساؤلات لدى الرأي العام لا تنتهي، والذي هو أقرب، بمعظمه، إلى السيناريو «المؤامراتي» لأنّه لا يستطيع أن يصدِّق أو يستوعب مثلاً أنّ طائرة رئيس إيراني يمكن أن تسقط بسبب الأحوال الجوية، وأنّ حزباً كان يهدِّد بإزالة إسرائيل، فإذا بالأخيرة تُزيل قوّته وتقضي على قيادته، وأنّ أمين عام حزب يحرِّك الشوارع الإسلامية وتحوّل إلى رمز استثنائي يمكن أن يُخرَق ويغتال بهذه السهولة على الرغم من معرفته بأنّ تل أبيب تريد اغتياله، وهناك من كشف مكان وجوده من حلقته الضيّقة جداً، وأصبح الانطباع العام أنّه مجرّد وجود شخصية إيرانية يعني أنّ المكان أصبح مكشوفاً، بالتالي يذهب تفكير الرأي العام تلقائياً إلى وجود مؤامرة وأنّ إيران تخلّت عن الحزب مقابل أوراق أخرى.
وأصحاب «العقل المؤامراتي» لا يأخذون في الاعتبار الأمور على ما هي عليه، أي على طبيعتها، إنّما يقيسون الهزيمة والانتصار من زاوية المؤامرة، فيما القياس الحقيقي له علاقة بميزان القوى وأخطاء القيادة في المواجهة والمفاوضات، ويتعاملون مع إيران وكأنّها قوة نووية يدها دائماً على الزناد، وهذا ليس صحيحاً كونها تتجنّب الحروب المباشرة منذ انتهاء حربها مع الرئيس صدام حسين، وتخوض حروبها بواسطة أذرعها لكَي لا تتلقّى الضربات داخل أراضيها، وبما يسمح لها التفاوض وتحسين أوراقها التفاوضية، وتلعب دائماً على حافة الهاوية ولم تسقط يوماً في هذه الهاوية كونها تريد التوسُّع لا الانتحار، وتزاوج بين التشدُّد والليونة وعندما تنحشر تخرج بفتاوى من قبَيل «التراجع التكتيكي أمام العدو».
لكنّ ما حصل مع عملية «طوفان الأقصى» قلبَ الطاولة رأساً على عقب في ظل عدم توقُّع مزدوج: عدم توقُّع الفعل الحمساوي، وعدم توقُّع ردّ الفعل الإسرائيلي.
فهل، مثلاً، اجتياح روسيا لأوكرانيا هو مؤامرة؟ وهل صمود كييف أمام موسكو مؤامرة؟ وهل أحداث 11 أيلول مؤامرة؟ وهل ردة الفعل الأميركية على هذه الأحداث مؤامرة؟ إذا كان يَصعُب تفسير بعض الأحداث فهذا لا يعني أنّ هناك مؤامرات، وما يجب أخذه في الاعتبار أنّ التاريخ متحرِّك وغير ثابت، وهذه الحركة الدائمة باتجاهات مختلفة لا بُدّ من أن تولِّد في هذه البقعة من العالم أو تلك تغييرات وتحوّلات، إذ من الصعب مع حركة الشعوب وتطوّرها أن تحافظ الدول كلّها على الستاتيكو نفسه إلّا في حال كانت هذه الدول تلبّي تطلّعات شعوبها.
فحركة مثل «حماس» لا تستطيع بتكوينها أن تطبِّع مع إسرائيل، وإلّا كانت اعترفت بدولة إسرائيل، وهذا ما يجعلها بين فترة وأخرى مضطرة إلى القيام بأعمال تذكيرية أو حروب محدودة تؤكّد من خلالها، على سبب أو علّة، وجودها، وهذا جزء من عقيدتها وتفكيرها وإيمانها ونهجها، وما ينطبق على الحركة ينسحب على «حزب الله».
وتقدِّم هذه التنظيمات نفسها ظاهرياً بأنّها حركات انتحارية متطرّفة ولا تحسب أي حساب، واستخدامها لهذا الأسلوب هدفه استقطاب الشارع. فيما هي في الحقيقة والواقع غير انتحارية، لكنّها من موقع الخصومة والعداء مضطرة إلى ترجمة تمَوضعها بعمليات عسكرية محسوبة، إنّما تخرج هذه العمليات في بعض الأحيان عن قدرتها على ضبطها على غرار حرب تموز التي لم يتوقّع فيها الحزب أن يؤدّي خطف جنود إسرائيليِّين إلى حرب واسعة، فأطلق عبارته الشهيرة «لو كنتُ أعلم».
وهناك في التاريخ أخطاء في التقدير والحسابات تذهب ضحيّتها دول وقيادات، فاجتياح صدام حسين للكويت قضى عليه، ولم يكن هناك من مؤامرة على صدام، إنّما هو أخطأ ودفع الثمن غالياً، وهذا تحديداً ما حصل في «طوفان الأقصى»، والخطأ في التخطيط للطوفان لم يكن حصراً على «حماس» كونه خرج من قدرتها على ضبط الهجوم، إنّما الخطأ الأساسي والأكبر كان على الجيش الإسرائيلي الذي لو كان في جهوزيّته العسكرية المعتادة أو كما يفترض أن يكون وفقاً للصورة التي كوّنها عن نفسه، لكانت عملية الحركة حققت ما حققته وبقِيَت ضمن حدود معيّنة، ولما تحوّل الردّ الإسرائيلي من ردّ كلاسيكي، كما جرت العادة، إلى ردّ من طبيعة وجودية.
والمقصود قوله، إنّ عملية «طوفان الأقصى» لم تكن مؤامرة إيرانية ضدّ «حماس»، إنّما خرجت عن سياقها وسقفها وضوابطها. وإعلان «حزب الله» الحرب في 8 تشرين الأول لم يكن مؤامرة إيرانية دفعته باتجاهها من أجل التخلُّص منه، ولو كانت في هذا الوارد لأمرته بالتوغُّل داخل إسرائيل بعد توغُّل «حماس»، لكنّه لم يجد أمامه سوى خيار الإسناد ضمن قواعد اشتباك محدّدة يحفظ من خلالها ماء وجهه، لأنّه لا يستطيع الوقوف على الحياد بعد عملية الحركة غير المسبوقة في تاريخ هذا الصراع. لكن على غرار ما «فلتت» مع «حماس» حصل الأمر نفسه مع الحزب الذي راحت تتوسّع الحرب معه ولم يفقه الخروج منها في الوقت المناسب، وهذا ما شكّل مقتلاً له، إذ كان باستطاعته أن يستفيد من انتهاء الحرب في غزة من دون إعلان رسمي والتجاوب مع المساعي الأميركية لترتيب الوضع بينه وبين إسرائيل، لكنّه تمسّك بعنوان غير موجود وشكّل مقتلاً له، ألا وهو ربط حربه بحرب غزة.
وخاض كل من «حماس» و«حزب الله» أكثر من حرب مع إسرائيل ولم تتدخّل إيران مباشرةً في الحرب، أي من خلال جيشها، وتدخّلها لا يتجاوز غالباً الدعم المالي والعسكري واللوجستي، فهي تتجنّب الحروب المباشرة، وهذا الدعم الذي توفّره لأذرعها مكّنها من السيطرة على خمس دول عربية، بالتالي هذا الدعم ليس تفصيلاً وتحكّمت من خلاله بمفاصل المنطقة، لكنّها لا تذهب أبعد من ذلك تجنّباً للانتحار، خصوصاً أنّها في وضع صعب للغاية، إن من جهة إسرائيل التي تخوض حرباً وجودية وتخشى إيران من أن تتواصل فصولاً ووصولاً إلى تحريض واشنطن على إسقاط نظامها، أو من جهة أميركا ومخاوفها من انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وهذا ما يفسِّر سعيها إلى تدوير الزوايا، أو من جهة وضعها الداخلي واتساع رقعة الرفض الشعبية لسياسة القيادة الإيرانية.
وما يجب أخذه في الاعتبار، أنّ استراتيجية إيران في المواجهة والتمدُّد والتوسُّع تعتمد على الأذرع، ولا تأثير لهذه الأذرع لولا إيران التي توفِّر لها الدعم المالي والعسكري والتسلحّي والتدريبي، فقوة «حزب الله» متأتية من إيران، ولولا الدعم الإيراني لكان مجرّد ميليشيا محلية، والمشكلة الفعلية في المنطقة ليست بسبب الأذرع، إنّما بسبب دور إيران، ومع معالجة المشكلة المركزية تعالج تلقائياً فروعها اللامركزية، والمعادلة هي كالتالي: الدور الإقليمي لإيران مرتبط بالأذرع، وفعالية الأذرع مرتبطة بإيران.
اوما يجب أخذه في الاعتبار أيضاً أنّ إيران، عُرفاً بسبب عقيدتها، هي دولة توسّعية تسعى إلى أن تكون امبراطورية، وهي بأمسّ الحاجة لأذرعها بهدف نشر ثورتها، وتخلّيها عن هذه الأذرع يعني تخلّيها عن دورها وثورتها وعقيدتها وعلّة وجودها، ولن تكون في هذا الوارد طوعاً، إنّما يمكن أن تُجبرها ظروف المواجهة العودة إلى داخل حدودها، وأي تراجع سيكون تحت وقع الحرب والنار كما يحصل اليوم وليس نتيجة صفقة مع إدارة أميركية راحلة، ومَن يُريد أساساً أن يبيع أو يقايض أوراقه، يبيع ويقايض مع إدارة أميركية جديدة وليس على أبواب انتخابات رئاسية أميركية.
وما حصل بالمختصر، أنّ «حماس» لم تتوقّع انهيار الدفاعات الإسرائيلية، و»حزب الله» ظَنّ أنّ بإمكانه السيطرة على قواعد الاشتباك، وإيران ليست في وارد التورُّط في حرب مباشرة مع إسرائيل، وهي بالكاد ردّت على استهداف قنصليّتها واغتيال نصرالله، وإسرائيل تريد استعادة قوة الردع التي فقدتها مع عملية الطوفان وتريد خوض آخر حروبها.
وفي هذا المشهد لا توجد مؤامرات، إنّما خطأ في التقدير والحسابات وردة الفعل، وهذا الخطأ أدّى إلى هذا الزلزال منذ الطوفان حتى اليوم، لكن هذا لا يبرِّر إطلاقاً «الحكمة» التي حاولت الظهور بها طهران بقول المرشد إنّ اغتيال نصرالله «لن يقودنا إلى التسرُّع والانفعال»، وهذه «الحكمة» تحديداً شجّعت إسرائيل على تدمير «حماس» و»حزب الله» واغتيال نصرالله، وهذا بالذات ما ولّد التساؤلات حول تخلّيها عن الحركة والحزب، خصوصاً أنّه كان بإمكانها بالحَدّ الأدنى أن تضع خطوطاً حمراً، وأن يكون ردّها على الاغتيال بمستوى هذا الاغتيال...
والثابت في كل هذه الصورة، أنّ تردّدات زلزال «طوفان الأقصى» لن تنتهي مفاعيلها سريعاً، والأكيد أنّ المنطقة أمام تحوّلات استراتيجية كبرى، والأمور في نهاية المطاف تُقاس بنتائجها.
وفي النتائج: لم يَعُد مُهِمّاً أولاً ما إذا كانت إيران تخلّت عن «حزب الله» أم لم تتخلَّ عنه، لأنّ النتيجة وحدها تتكلّم. ومن الثابت ثانياً أنّ الدور الإيراني الإقليمي سيبدأ بالانحسار التدريجي، ولن يكون باستطاعتها تعويض ما خسرته، لأنّ ميزان القوى الإقليمي سيمنعها من إحياء دورها. ومن الأكيد ثالثاً أنّ دور «حزب الله» سيبدأ بدوره بالانحسار، الأمر الذي سيؤدي إلى دخول لبنان في مرحلة جديدة يتوقّف على حُسن إدارتها العبور من لبنان الفوضى إلى لبنان الدولة للمرّة الأولى منذ سقوطها في 13 نيسان 1975.
شارل جبور -الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|