الصحافة

إسقاط تمثال سليماني في مارون الراس..لماذا التمثال وما هي معانيه؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

قبل نحو خمس سنوات عندما أعلن عن نصب تمثال لقائد فيلق القدس قاسم سليماني في بلدة مارون الراس على حدود جنوب لبنان، نشر موقع “أساس” مقالاً للإعلامي والكاتب السياسي نديم قطيش اعتبر فيه أنّ التمثال يحمل علامات الهشاشة والضعف أكثر مما يحمله من علامات القوّة والهيمنه التي هي دأب التماثيل والأنصبة والفن المعروض في الأماكن العامة.

 وفي مقابلة مؤخراً اعتبر قطيش أنّ إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس افتتح حقبة إيرانية في المنطقة وأنّ إسقاط تمثال قاسم سليماني بجرافة إسرائيلية في جنوب لبنان إنّما يفتتح مرحلة جديدة تحمل إمكانية إخراج إيران ونفوذها من المشرق العربي.

هنا إعادة‏ للمقال المذكور.

في ذكرى أربعين قائد فيلق القدس قاسم سليماني، أزيح الستار في بلدة مارون الراس الجنوبية، عن تمثال ضخم يمثّل الجنرال وهو يشير بسبابته نحو فلسطين.

هو العنصر الجديد الذي يضيفه حزب الله إلى مشهدية علاقات القوة والهيمنة واستعراضها في الحيّز العام. وإقرار آخر بالمكوّن الايراني الحاسم بين مكوّنات هويته. فليس من غير دلالة أن تمثالاً بهذا الحجم وفي هذا المكان لم يرفع لأيٍّ من قادة حزب الله، بل لراعيهم الايراني. كما ليس بسيطاً قول أمين عام حزب الله حسن نصرالله في مقابلة أحيت الذكرى أنه كان ليطلب من ملك الموت قبض روحه بدلاً عن روح سليماني. سبق التمثال أن منح حزب الله، عبر وصايته على بلدية الغبيري، طريق المطار الدولية اسم “جادة الإمام  الخميني”، التي للمفارقة توصلك بعدها الى “أوتوستراد حافظ الأسد”. وتسمية هذا الاخير أمارة على مراتب القوة السابقة وعلاقات الهيمنة التي سادت قبل أن ينتزع “الخمينيون” مركز الصدارة السياسية والأمنية من “الأسديين”.

لماذا التمثال وما هي معانيه؟

إذا كان القرن التاسع عشر في تاريخ الفن هو قرن حمى بناء “التماثيل والنُّصُب” فإن القرن العشرين هو القرن الذي  شهد العدد الأكبر من الصراعات حول التماثيل والأنصبة، ووُثّقت في خلاله لحظات درامية تدميرية لها حول العالم.

فوراً تحضر إلى المخيلة صورة إسقاط تمثال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين  عام ٢٠٠٣  في ساحة الفردوس، بوصفها لحظة تحرّر درامية من نظام صدام وإعلان موته بـ ”موت“ تمثاله. على نحو أدق هو موت علاقات القوة والهيمنة التي يمثّلها تمثال صدام حسين في وسط العاصمة العراقية، وانفجار التجرؤ الهستيري عليه. بعد صدام ستتعرّض تماثيل حافظ الأسد في سوريا ومعمر القذافي في ليبيا للمصير نفسه، بحيث يصير التجرؤ على التمثال، هو الدمغة التي تؤكد نهاية نظام علاقات القوة والهيمنة التي بني النصب لينوب عنها.

فهذا التقاطع بين الفن والسياسة، معروضاً في الحيّز العام، على هيئة تدمير النصب أو رفعها، يمتلك قوة جبارة لتشكيل الوعي المجتمعي وتأطير النص السياسي وتحديد علاقات القوة والهيمنة.

بعد هزيمة النازية في أوروبا اختفت أنصبتها من الشوارع والساحات، وتمّ تجريم رموزها وأعلامها وشعاراتها بالقانون. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أزيلت مئات التماثيل التي تجسّد لينين وستالين من ساحات وشوارع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي.

سبق “الآلهة” البشر في ذلك. حين صار تحتموس الثالث فرعوناً لمصر، في القرن ١٥ قبل الميلاد، حرص على إزالة  أثر الملكة حتشسبوت، التي كانت وصية عليه قبل بلوغه سن الحكم، وكاد أن يمحو أثرها من التاريخ الانساني للتوكيد على مشروعيته المستقلة عنها. وتشير المؤرخة ساره بوند في هذا السياق إلى تقليد روماني قانوني يمكن ترجمته الى “إدانة الذكرى” أو “لعن الذكرى” بشطب اسم المُدان من السجلات والوثائق الرسمية للدولة الرومانية ومحو ذكره، حتى يدخل “جحيم النسيان”.

النصب والتماثيل، تشييداً وتهديماً هي هذه الحرب على الذاكرة الجمعية.

فالصراعات المعاصرة التي اندلعت حول التماثيل تنطوي على صراعات حول التاريخ الاجتماعي والسياسي وفق تغيير الأهواء السياسية والقيم والطموحات.. هو تصادم بين التاريخ كتجربة معقدة قابلة لإعادة التشكل وإعادة القراءة، وبين التماثيل بما هي محاولة لتأبيد فكرة جماعة محدّدة عن ماضيها، كما تكوّنت في لحظة تاريخية محدّدة.

ولئن كانت التماثيل قادرة على خلق فضاء ثقافي ونفسي يسمح لجماعة أو جماعات محدّدة أن تتفاعل مع تاريخها تأييداً ورفضاً وتصحيحاً وتجاوزاً، الا أنها في لحظات معيّنة تتحوّل الى مواد متفجرة، لا سيما حين تتصل  بنزاعات الهوية وبتجارب دامية للجماعات.

من الأمثلة على ذلك، النزاع الدموي في الولايات المتحدة والذي اندلع قبل بضع سنوات حول أنصبة وتماثيل قادة “الولايات الكونفردرالية الأميركية”، الذين انشقوا عن الإتحاد عام ١٨٦١ اعتراضاً على سعي الرئيس إبراهان لينكولن لإلغاء نظام العبودية.

حتى العام ٢٠١٧، كانت هذه التماثيل موجودة في عدد من الولايات الأميركية، وكانت شاهداً على تاريخ لا يراد له أن يعود نُصباً للخطيئة، وتذكيراً بما لا ينبغي أن تكون عليه علاقات الأميركيين. غير أن إعادة تأويل التاريخ في ضوء صعود اليمين الأميركي الأبيض منح التماثيل معاني معاصرة وحوّلها من مادة تاريخية الى منصة لإعادة إنتاج علاقات قوة وهيمنة ظنّ من ظنّ أنها اندثرت.

في الحالة الأميركية نجدنا بإزاء محاولة لاستثمار التاريخ بغية تثوير مشاعر تضامن مجتمعية هوياتية معاصرة. لكننا في حالة تمثال قاسم سليماني، نحن في صراع على المستقبل وليس على الماضي..

فالتماثيل يبنيها المنتصرون وهم كتبة التاريخ في العادة. حوّل الأميركيون موقع البرجين في نيويورك إلى نصبٍ هائل للضحايا، لكنهم لم يبنوا التماثيل بعد لـ”أبطال” حربي أفغانستان والعراق التي أدت إليهما جريمة ١١ أيلول، لأن المعركة  لم تنته بعد!

أما تمثال قاسم سليماني فارتفع في عز المعركة، وفي لحظة شديدة الغموض بالنسبة لمستقبل البيئة التي احتفلت بالتمثال، أكان في لبنان أم في إيران نفسها..  كأن التمثال جاء ليطمئن الجماعة إلى انتصارها الموعود أكثر من كونه يتوّج الاحتفال بهذه الانتصارات..

وموقع التمثال، في الأطراف اللبنانية الجنوبية، أمارة على عجز جمهور التمثال عن انتزاع مشروعية له في العاصمة، وعلى حاجته للاحتضان والحماية، بدل أن يكون هو نفسه مصدراً لرسائل القوة والاقتدار والدليل على قوة الجماعة وسطوة فكرتها السياسية والاجتماعية..  تمثال للهشاشة التي تحتاج يومياً إلى ما ينفيها ويزيل غمها.

والتماثيل في العادة هي تعبير عن حقائق سياسية، ووقائع تاريخية في تجربة جماعة ما، أياً يكن الموقف منها، لكنها تظل حقائق ووقائع مسندة في السردية التاريخية، أو تكون تعبيراً عن سرديات تاريخية متصارعة، تمتلك كل سردية حججها وحقائقها.

أما تمثال سليماني ففيه ما يكفي من الانتحال الذي يفسر الاستعجال في رفعه..

في إطلالته الأخيرة في ذكرى أربعين قاسم سليماني، تبجّح نصرالله أنّ سليماني كان دائم الانشداد إلى الخطوط الأمامية في سوريا والعراق. على هذا المنوال تقول الدعاية أنّ التمثال ارتفع عند الخطوط الامامية للجبهة مع إسرائيل وأنّه يشير بسبابته الى فلسطين.. حقيقة الأمر أن الباحث في إرشيف الرجل سيعثر بالطبع على ما يسند قول نصرالله، من حلب إلى تكريت.

ما لن يُعثر عليه، هو صور لسليماني على الخطوط الأمامية مع فلسطين المحتلة.. غاب حيث حضر تمثاله، وحضر حيث نابت مواقع التواصل الاجتماعي بصورها وفيديوهاتها الكثيرة عن أي تمثال..

ولكن شتّان بين “تماثيله” البصرية وتمثاله الجامد. بين الاثنين يقع التناقض الكبير في فكرة فائض الاحتفال بحجم وموقع سليماني، من التركيز على ضخامة الجنازة إلى الاستنفار الهوياتي المُعبر عنه بتمثال مارون الراس. فرفع نصب له هو وليد فكرة سياسية تفيد بأنّ التاريخ يصنعه الأفراد، وأما وقد صار هذا الفرد تمثالاً فمعناه أنّ التاريخ بدأ فصلاً جديداً سيكتب بطريقة مختلفة في غياب سليماني.

نديم قطيش-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا