العالم يناشد الجيش… لم يبقَ لنا سواك!
انه عهد الجيش اللبناني بامتياز، ومعه عهد “لبنان الآخر” الذي لا يقرره اللبنانيون، سواء الممانعون منهم أو المعارضون، بل الأميركيون بالتكافل والتضامن مع العالمين الغربي والعربي.
في اجتماع مع احدى السفيرات الأميركيات قبل بضع سنوات وتحديداً في عصر الاحتلال السوري، وعندما تطرقت الى المساعي التي تبذلها الولايات المتحدة لتسليح الجيش، قاطعتها قائلاً: “أنتم وحزب الله لا تريدون بناء جيش قوي في لبنان، أنتم خوفاً من أن يستخدم السلاح الأميركي النوعي في مواجهة اسرائيل أو خوفاً من أن يقع في يد حزب الله الذي يرفض بدوره هذا الأمر خوفاً من أن يصبح الجيش مؤهلاً وقادراً على الامساك بأمن البلاد والحدود وينتزع منه ذريعة الحاجة الى ملء الفراغ العسكري في البلاد”.
السفيرة الأميركية التي بدت على وجهها علامات الموافقة القسرية، أصرّت على أن الجيش يبقى المؤسسة الوحيدة التي تحظى بثقة واشنطن التي باتت تنظر الى لبنان على أنه بلد سائب وقنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة.
مرت سنوات على هذا الحوار، قبل أن تسنح الفرصة لقيام هذا الجيش عدة وعديداً من دون خوف من “حزب الله” أو خوف على اسرائيل، بل انطلاقاً من شبه اجماع عالمي على أن لبنان يجب أن يكون خارج دائرة النار على مستوى الصراعات المسلحة، وخارج أي وصاية حصرية على غرار الوصايتين السورية والايرانية على مستوى القرارات السياسية والاستراتيجية.
والمفارقة الغريبة هنا أن “حزب الله” الذي نجح منذ العام ٢٠٠٥، أي بعد انسحاب الجيش السوري، في حشر الجيش في الزوايا الضيقة وتحويله الى مجرد “شرطي” في شوارع لبنان، أصبح من حيث تقَّصدَ أو اضطر، هو الجهة التي فكت الطوق عنه بعد “الثامن من أكتوبر”، وحوّلته الى حبل نجاة له أولاً قبل أي طرف آخر.
والواقع أيضاً، أن “المقاومة الاسلامية” التي كانت تعارض سياسة “الحياد” الواردة في خيارات السياديين الى جانب خيار “التدويل”، باتت في موقع من يلتزم القرارات التي يأخذها الآخرون لا في موقع من يفرض القرارات التي يصنعها الايرانيون، بعدما فقدت قادتها، وفي مقدمهم حسن نصر الله، اضافة الى هيبتها وتأثيرها وذريعة الردع المتوازن، وانتقالها من معارك ضبط الحدود الى معركة اثبات الوجود بأثمان غير مسبوقة على المستويات البشرية والأمنية والمعنوية والمالية والاستراتيجية.
ولم يكن المؤتمر الذي شهدته باريس أخيراً مجرد مؤتمر لجمع المال من أجل لبنان، بل كان طليعة التدويل المنشود، لا بل طليعة حلول وقرارات جذرية وجوهرية ونهائية لا يمكن لأحد في لبنان أن يعترضها أو يعارضها مهما ذهبت بعيداً في طموحاتها وتطرفها.
ولم يكن كلام وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أيضاً أمام الرئيس نجيب ميقاتي في لندن على ضرورة ايجاد حل ديبلوماسي بين لبنان واسرائيل مجرد كلام من دون خلفيات، أو مجرد كلام محدود في المكان والزمان، بل اشارة ضمنية الى أن المطلوب ضمن اتفاق وقف اطلاق النار، الذهاب الى ما هو أبعد من الهدنة أي التطبيع المغلف بعبارة ناعمة هي “السلام الدائم”.
ولم يكن الكلام الأميركي- الأوروبي المدعوم ضمناً من السعودية ودول عربية عدة على تسليح الجيش، مجرد مجاملات أو مواقف روتينية ، بل قرار جدي بتزويده ما يلزم من معدات تخوّله فرض الهدنة على الحدود اللبنانية- الاسرائيلية، وانهاء دور الميليشيات في الداخل من خلال تطبيق القرار ١٥٥٩، واقفال معابر السلاح عند الحدود السورية- اللبنانية من خلال تطبيق القرار ١٦٨٠ واستعادة الأمرة الحصرية في البلاد من خلال الدستور واتفاق الطائف.
والواقع أن “حزب الله” يعرف ذلك تماماً ومعه الرئيس نبيه بري وايران بعيداً مما يمكن أن يحمله الموفد الأميركي آموس هوكشتاين من اسرائيل، الأمر الذي يفسر الضراوة القتالية التي يبديها في الجنوب محاولاً تحقيق مكسب عسكري بأي ثمن يسمح له اما بتأخير عملية التدويل، واما التعامل معها طرفاً يملك حق النقض حيث يستطيع، واما تفجير معارك داخلية تحرج الجيش والتشكيك بقدراته، وتعيده الى الساحة السياسية شريكاً لا يمكن التنكر له أو الاستخفاف بقوته.
وما ينطبق على “حزب الله” ينطبق أيضاً على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يصر على كسب معركة الجنوب، هامساً أمام حلقته الضيقة أنه “لن ينهي الحرب في غزة ولبنان الا عندما يتأكد من أن نيرانهما قد أخمدت الى الأبد، حتى لو كلفه الأمر عشرة آلاف قتيل اسرائيلي”.
وكشفت مصادر ديبلوماسية أميركية أن نتنياهو أبلغ الى واشنطن أن حربه في الجنوب وعلى الرغم من الخسائر اللافتة في صفوف جيشه، “لا يمكن أن تنتهي كما انتهت حرب تموز، ولا وفق قرار دولي يحوّل جنود الجيش اللبناني على الحدود الى متفرجين وقوات اليونيفيل الى سياح أو مؤسسات خيرية”.
وأضافت أن نتنياهو الذي يعرف أن الحل في طهران وليس في بيروت أو غزة، تجاوب مع الأميركيين في تجنب الأهداف النووية والنفطية في ايران في رسالة أراد منها منح الايرانيين فرصة أخيرة للمساعدة على اطلاق المعتقلين لدى “حماس”، وعلى سحب “حزب الله” نحو شمال الليطاني واقناعه بتسليم سلاحه في اطار ضمانات اقليمية وعربية ودولية، مشيراً الى أن الامتناع عن ذلك سيؤدي الى أمرين: الأول مواصلة الحرب في الجنوب حتى تدمير الحزب نهائياً، وضم المنشآت النووية والنفطية الايرانية الى بنك الأهداف الاسرائيلية المقبلة، اذا قررت طهران المضي بسياسة الرد في مقابل الرد.
ولفتت في هذا المجال الى أن نتنياهو تمكن من تحقيق أمرين جوهريين: الأول ابتزاز أميركا للحصول على بطارية ثانية مضادة للصواريخ من طراز “ثاد” في مقابل رد مدروس ضد ايران، والثاني افهام الايرانيين أن بلاده باتت أكثر تحصيناً في مواجهة أي رد صاروخي باليستي جديد سواء جاء من طهران أو من لبنان.
وقد يسأل سائل عما قد تحصل عليه ايران في المقابل؟ والجواب لا يمكن الا أن يكون أولاً رفع العقوبات، وثانياً احياء الاتفاق النووي، وثالثاً حجز مقعد متقدم في أي خريطة جديدة مقترحة للشرق الأوسط.
اما ماذا كسبت الادارة الأميركية؟ فالجواب قد يأتي أولاً في تجنب حرب اقليمية، وثانياً في امكان نجاح مفاوضات الدوحة في اطلاق حفنة رهائن من غزة قبل أسبوع من الانتخابات الرئاسية، وثالثاً في الايحاء بأن أميركا لا تزال في عهد جو بايدن الدولة التي تمسك بقرار الحرب والسلام في الشرق الأوسط والعالم.
أما ماذا كسب لبنان؟ فالجواب لا يمكن الا أن يكون في الخطأ القاتل الذي ارتكبه الراحل حسن نصر الله في ٨ أكتوبر، أي الخطأ الذي سحب لبنان من الأنفاق الى الهواء العالمي الطلق، والخطأ الذي أنهى دوره الشاذ ليبدأ الدور الشرعي للجيش الذي يحمي شعبه هذه المرة لا دور الشعب الذي يلغي دور الجيش.
انها الفرصة الذهبية الاستثنائية المتاحة أمام الجيش اللبناني ليرفع شعار “الأمر لي”، مستفيداً من جو اقليمي – دولي ضاغط يقول له: خذ ما تشاء من عتاد وتدريب وتذخير وتمويل، وحاول لمرة أن تلعب دور المنقذ لا للبنان وحسب بل للمنطقة بأسرها، خاتماً: “الساحة خالية الآن من الجيش السوري الذي حل محلك بعد الطائف، ومن حزب الله الذي ألغى دورك بعد حرب تموز، وما عليك الا أن تختار بين أمرين: اما المبادرة في رفقة قوات متعددة الجنسيات واما المغادرة في رفقة الفوضى والفراغ”.
أنطوني جعجع-لبنان الكبير
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|