هل ينفع الحوار مع إيران للاستغناء عن خدماتها؟
حين تتحدّث مع دبلوماسيين غربيين عاملين على مسائل لبنان والمنطقة هذه الأيام، يصغون بشيء من اللياقة لما يُعرض من التفاصيل المتعلّقة بصيغة لبنان، سواء في جانبها الطائفي أو في تعدّد ولاءات مجتمعاته. ويصدف أن يذهبوا بعيداً في طرح الأسئلة على سبيل العلم بالشيء، وربّما التسلّي بغرابته. لكن، بالنهاية، حين يتناولون مسار ومصير لبنان يأخذون مسافة خيالية من زواريبه، ويركّزون على شرح حاله داخل خرائط “صراع الأمم”.
في التفصيل، حديث عن الحزب، والدولة، والطوائف، و”الطائف”، والـ”1701″، والمهامّ الحالية والمتخيّلة لليونيفيل. وفي المشهد الحقيقي صراعٌ شديدٌ بين إسرائيل وإيران يأخذ أبعاداً اجتثاثيّة ناريّة كانت ممنوعةً قبل ذلك. يجري بمواكبة غربية، ودعم أميركي، من دون اعتراض دول كبرى مثل الصين وروسيا. يدفع لبنان ثمن ذلك، كما تدفع، وقد تدفع، دول أخرى في المنطقة أكلافه.
إيران هي أكثر من يدرك الطابع الداهم لهذا الصراع الذي لم تُحسن توقّعه وإن حضّرت من أجله، منذ عقود، العقيدة والمال والسلاح ونشر الميليشيات، التابعة والحليفة. وإيران، التي هندست بدقّة وحذاقة انتخاب المعتدل مسعود بزشكيان رئيساً وإسقاط كلّ المنافسين المتشدّدين أمامه، كانت تُعدّ العدّة لاحتمالات فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة. لكنّها لم تتوقّع أن تشنّ إسرائيل حرباً ساحقة ضدّ الحزب في لبنان وتقتل قائده وقياداته، فتسقط “الحرب بالوكالة”، وتصبح إيران وجهاً لوجه أمام عدوّها.
الرّقص على حافة الهاوية
اعتادت إيران الرقص على حافة الهاوية، وأجادته بامتياز، في التعامل مع الولايات المتحدة وحلفائها. واعتادت وتمتّعت بتراجع هذا الغرب أمام تقدّمها. راقبت كيف حزم رونالد ريغان أمتعة جنوده ورحل عن لبنان حين ضربت أيادٍ إيرانية مقرّ المارينز وسفارة الولايات المتحدة في بيروت عام 1983.
راقبت أيضاً السلوك نفسه الذي انتهجه فرانسوا ميتران مستدعياً القوات الفرنسية من لبنان حين أصابها ما أصاب قوات الحليف ريغن. وحين صحت باريس على تفجيرات إرهابية، فهم جاك شيراك رسالة طهران وقبِل التفاوض وأفرج عن معتقلي إيران من سجون فرنسا.
ما الذي تغيّر في هذا العالم حتى تعطّلت هذه المعادلة وانهارت قواعد الاشتباك؟
الأرجح أنّ إيران لم تتغيّر وحافظت على سرديّاتها التي باتت متقادمة في مقارعة “قوى الاستكبار” والوعد بتحرير القدس حتى عن طريق حمص وحلب والقصير وبيروت وبغداد وصنعاء.
الأرجح أنّ العالم هو من تغيّر، حتى إنّه لم يعد يرضى بإيران في موقع مدافع يُمعن في بعث رسائل الليونة والمرونة والاستعداد للتفاوض والحوار، فيما “النيران”، التي تلقى الدعم والرعاية وغضّ الطرف، تلاحق قواها وقادتها في قنصلية أو مقرّ أو حيّ، لا فرق أكان ذلك في قلب طهران أو في قلاعها في ضواحي العواصم الأربع الشهيرة.
إيران متوجّسة من التّرامبيّة
لم تعد طهران تتحدّث عن ردّ مزلزل ضدّ إسرائيل صدّعت رؤوسنا به منذ أسابيع. تتوجّس إيران من الترامبيّة العائدة من جديد إلى واشنطن. لكنّ دونالد ترامب قال في أحد مواقفه الانتخابية إنّه يريد إيران مزدهرة من دون سلاح نووي داخل حدودها. فما الذي يخيف في هذا العرض “الحنون” الذي يجعل من إيران دولة “طبيعية” يسهل التطبيع معها؟!
لأنّ قادة “الثورة” لا يجيدون إلا استمرار الثورة، فإنّ خطوات بزشكيان تبدو متلعثمة غير صادقة، خجولة، وغير مقنعة. بالكاد يحاول الرجل تمرير نظرية فذّة تقترح “عدم تجاهل الولايات المتحدة”، فيما تسعى حلقة المرشد علي خامنئي إلى جمع أوراق قوّة تطرحها في مناقصات وليس مزادات التفاوض، كتلك التي يلملمها كبير مستشاريه علي لاريجاني في مروره هذه الأيام على دمشق ثمّ بيروت.
خسرت إيران السيّد حسن نصرالله حتى قبل اغتياله. يبلغنا وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب، في مقابلة على CNN، أنّ السيّد كان قرّر مغادرة حرب غزّة قبل اغتياله ووافق على وقف إطلاق النار. كان ذلك منطقياً أن يدفع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى الاندفاع نحو نيويورك تحرّياً للحلّ.
بدا لاحقاً من مسارعة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي، ورئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، إلى بيروت ضرورة عاجلة للإمساك بقرار الحزب وبورقة ربط الجبهتين لطرحها على أوّل طاولة تُعقد فوقها الصفقات.
لا أحد يريد صفقات إيران. الكلمة للميدان. والميدان يتّسع. بات يطال، على نحو مكثّف مؤلم، ساحة سوريا ودمشقها بما يفسّر بعضاً من أسرار تبادل الزيارات بين مبعوثي روسيا وإسرائيل، وجانباً من جرعات “غضّ الطرف” المصاحبة.
فيما عاندت طهران، منذ أيار الماضي، التعامل مع طلبات مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي لزيارتها، عادت وطلبت حضوره بعد أيام من فوز ترامب، مقترحة القبول بالتفاوض، لكن “ليس تحت الضغط”. بالمقابل لا تُقابَل طهران إلّا بالمزيد من الضغوط، وكأنّه قدر نهائي لم تعرفه منذ قيام جمهورية الخميني عام 1979.
جنبلاط وتدوير الزّوايا
قد تكون حكيمة دعوات الرئيس السابق للحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى الحوار المباشر مع إيران. يسعى بإخلاص إلى منع الاحتراب الأهلي، وتدوير الزوايا، وضخّ جرعات من الحكمة في رؤوس البعض الحامية التي تتعجّل استخلاص النهايات وترويض وجهاتها. في الدعوة إقرار، ربّما كان وجود السيّد على رأس حزبه يداريه، بأنّ “الحزب” لا يمتلك قراره.
لكن في الدعوة المخلصة أيضاً ما لا يمكن أن يسعف أهدافها. ذلك أنّ في ذلك الحوار المفترض ما يعترف لإيران بوصاية على مستقبل البلد وإقرار بامتلاكها لأوراقه. وهو ما تريده إيران مسلّمة في مداولاتها مع واشنطن.
من الحكمة المساهمة في الذهاب باتجاه رؤية ترامب لمساعدة إيران على أن تكون “دولة عاديّة مزدهرة داخل حدودها من دون سلاح نووي”. من الحكمة مساعدتها على مغادرة “العواصم الأربع” التي تفاخرت بالسيطرة عليها، وإخلاء سبيل حزبها في لبنان وتحرير البلد من “العواطف” التي تحدّث عنها ميقاتي.
ربّما من الأجدى عدم الحوار مع إيران إلّا في ما يطوّر علاقات الدولتين وصيرورتهما العاديّة في العلاقات بين الدول. لن تقبل إيران ذلك حتى الآن. لكنّ الطوائف و”الطائف” والدولة والـ”1701″ وتفاصيل يملّها الدبلوماسيون الغربيون، قد تكون كفيلة بإعادة تكوين البلد وسلطته من دون “خدمات” الحاكم في طهران.
محمد قواص - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|