شتاء قارس يفاقم معاناة سكان بعلبك- الهرمل: حرق الأحذية طلباً للدفء والمازوت بعيد المنال
حلّ الشتاء مبكراً هذا العام حاملاً معه ظروفاً مناخية من المتوقع بحسب بيانات الأرصاد الجوية أن تكون الأصعب. وفي منطقة بعلبك- الهرمل، يحمل هذا الفصل في كل سنة قلقاً شديداً للأهالي، كونه مثقلاً بأعباء اقتصادية ثقيلة جداً مقارنة بباقي الفصول.
فإلى جانب أن المدارس تبدأ في هذا الفصل بما يترافق معها من أقساط وكتب وقرطاسية وغيرها، يفكّر المواطن البقاعي بقلق في كيفية تأمين التدفئة لمنزله طيلة شهور الصقيع، بسبب ارتفاع تكلفة مواد المحروقات، وندرة البديل في بعض الأحيان. ولعل هذه السنة قد تكون الأثقل أيضاً بسبب ظروف الحرب التي أتت نتائجها كارثية على الأهالي، وجعلت من بعضهم نازحين إلى مناطق أخرى ضمن المنطقة نفسها.
تتميز المنطقة بجبالها الشاهقة وهضابها الواسعة، وهي واحدة من أكثر المناطق اللبنانية ارتفاعاً عن سطح البحر، إذ تصل العديد من المناطق فيها إلى ارتفاع 2000 متر. تحيط بها سلسلتا جبال لبنان الشرقية والغربية، وهو ما يجعلها أيضاً عرضة لرياح باردة تعصف بها من المرتفعات طوال فصل الشتاء.
مناخ بعلبك- الهرمل شديد البرودة في الشتاء، اذ تتساقط الثلوج بكثافة في المرتفعات، وتصل درجات الحرارة في بعض الليالي إلى ما دون الصفر. وتتكرر موجات الصقيع، بخاصة في شهري كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير)، مما يزيد من قسوة الظروف المناخية، إلى جانب امتداد فصل الشتاء هنا لفترة أطول مقارنةً بمناطق أخرى في لبنان، إذ تستمر درجات الحرارة المنخفضة لأسابيع متتالية، وتعوّق في الكثير من الأحيان عمل الأهالي، أو تغلق الطرقات وتعزل البلدات بالكامل.
ثياب وأحذية بدلاً من المحروقات... ومخاطر
في العام الماضي، كان الوضع صعباً جداً على بلدتنا (الفاكهة) والبلدات المجاورة لها، تقول رنا (اسم مستعار). وتشرح لـ"النهار" أن "الثياب والأحذية كانت المواد الأكثر استعمالاً لتأمين ولو بعض الدفء، كبديل أول عن المازوت والحطب، فبعض السكان طلبوا ممن يملك ثياباً بالية ويريد التخلص منها أن يقدمها لهم".
وتلفت إلى أن هذا الأمر "استمرّ شهوراً متسبباً بروائح سيئة جداً انتشرت في الأحياء بأكملها، حيث لا يمكنك المرور إلا وتضطر إلى تغطية أنفك منعاً للاختناق، فكيف استطاع الأطفال داخل المنازل تحمّل كل هذه الروائح؟".
وتضيف: "وحتى الثياب والأحذية لم تكفِ حتى انتهاء أشهر الشتاء، بل إن البعض أكمل رحلة صراعه مع الصقيع بلا تدفئة كلياً أو مع الأغطية الثقيلة، وهو ما تسبّب بالطبع بأمراض خطرة وبتفاقم حالات أصحاب الأمراض المزمنة كالسرطان وغيرها والتي تحتاج إلى مناعة قوية لمقاومتها. الموسم كان صعباً جداً، ومنذ انتهاء الشتاء والحديث عن الشتاء المقبل هو سيد الأحاديث واللقاءات، خصوصاً مع وجود العديد من النازحين هذا العام مع نقص كبير جداً في المساعدات التي وصلت إلى المنطقة".
إلى جانب أنّ البرد يمكن أن يتسبّب بأمراض كثيرة وخطرة، تلاحق الأهالي أيضاً مخاطر الاستعانة ببدائل المحروقات، كحرق البلاستيك مثلاً وهو ما يتسبّب بانبعاث غازات شديدة السمّية مثل أول أكسيد الكربون، ثاني أكسيد الكربون، وسيانيد الهيدروجين، التي تؤثر مباشرة على الجهاز التنفسي وتسبب اختناقاً ودواراً ويمكن أن تؤدي على المدى البعيد إلى السعال المزمن والربو، كما أن استنشاق المواد السامة يؤثر على الدورة الدموية، مما يزيد من خطر النوبات القلبية وارتفاع ضغط الدم، خاصة بين كبار السن والمرضى بأمراض مزمنة. ويُنتج حرق البلاستيك بعض المواد مثل الديوكسينات والفورانات، وهي مسرطنة ومرتبطة ارتباطاً مباشراً بأمراض مثل سرطان الرئة وأمراض الكبد.
تدفئة باهظة
"لا يمكننا أن نتحمل تكلفة أكثر من برميل مازوت واحد في السنة"، تقول نور (اسم مستعار) التي يعمل والدها راعيَ أغنام في منطقة جديدة الفاكهة، ولديه ثلاثة أولاد.
وتضيف لـ"النهار": "كنا نحاول تأمين ذلك خلال أشهر الصيف كلما توافر لدينا مبلغ صغير من المال، ولكن بالطبع لا يمكننا إشعال المدفئة يومياً وخصوصاً في السنوات الأخيرة حين صار الوضع الاقتصادي سيئاً جداً على المنطقة، بالتالي كنا نقضي معظم الأيام بين إشعالها لبثّ بعض الدفء ثم إطفائها لترشيد الاستهلاك. لكن نحن أفضل من غيرنا فثمة أشخاص لا يستطيعون شراء لتر مازوت واحد خلال السنة".
وعما إذا كانوا قد تلقوا مساعدات حكومية أو خاصة، تقول نور إن الأمر اقتصر على مرات قليلة بمبادرات من أفراد لا من جهات حكومية.
يبلغ سعر برميل المازوت هذه السنة حوالي الـ 150 دولاراً، وهو سعر يعتبر أقل من سعره في السنوات السابقة، إذ وصل قبل سنتين إلى نحو 230 دولاراً في بعض أشهر السنة.
وإذا أردنا أن نحسب التكلفة الشهرية، يجب الأخذ في الاعتبار أن البرميل الواحد لا يكفي شهراً كاملاً خلال الشهور شديدة البرودة ككانون الأول (ديسمبر) حتى آذار (مارس)، وبالتالي يحتاج إلى أكثر من 200 دولار شهرياً لتأمين تدفئة معتدلة فقط، وهو ما يعتبر مبلغاً يفوق المدخول الشهري للعديد من العائلات، ويتساوى مع الحد الأدنى للأجور الذي حدّده وزير العمل بـ18 مليون ليرة لبنانية في القطاع الخاص، بل يتجاوزه أحياناً كثيرة.
وإذا أراد الناس استخدام الحطب بدل المازوت، فثمن الطن الواحد حوالي 200 دولار، وهو ما يكفي حوالي الشهر ونصف الشهر، وهذا ما دفع بالأهالي إلى التجوال في المناطق الجردية للبحث عن أغصان الأشجار حتى الصغيرة منها، إضافة إلى مقايضة الحطب بمواد أخرى حسب حاجة الطرفين.
خلال الحرب الأخيرة، توقفت أشغال العديد من العمال بشكل جزئي أو كلي، خصوصاً في المناطق المتضررة، وبالتالي أصبحوا بلا مدخول ثابت يسمح لهم بتأمين الحاجات الأساسية لعائلاتهم، فكيف بتكاليف التدفئة؟
محاولة لمساعدة النازحين
من أبرز الصرخات التي علت في المنطقة منذ الانخفاض الأول لدرجات الحرارة هذه السنة، ضرورة تأمين احتياجات النازحين من التدفئة في مراكز الإيواء والمنازل، والتي تتنوع بين أغطية ومفارش للأرض وأدوات تدفئة.
في منطقة الفاكهة البقاعية 3 مراكز إيواء، تحتضن مدرسة القيروان وحدها نحو 90 عائلة أي ما يعادل 400 شخص بحاجة للتدفئة. ويشرح الموظف الإداري في المدرسة هيثم سكرية عن الحاجات الأساسية، فيؤكد أن الجمعيات قدّمت في البداية مساعدات عينية تتوزع بين الأفرشة والأغطية ومواد التنظيف بالإضافة إلى خدمات صيانة للحمامات لتأمين المياه الدافئة اللازمة للاستحمام.
ويقول: "بقيت لدينا مشكلة التدفئة، فمدرسة القيروان تحتوي على نظام تدفئة مركزية، وقبل حوالي الشهر و20 يوماً، اتصل بنا موظف في بلدية الفاكهة- جديدة بتكليف من المحافظ وطلب منا كتاباً نذكر فيه متطلبات الشتاء اللازمة بشكل مفصل. في اليوم الواحد يجب تشغيل التدفئة لمدة 5 ساعات، تحتاج المدرسة إذاً إلى 6000 لتر مازوت في الشهر و1500 لتر لمولد الكهرباء وحده، وحتى هذه الساعة لم يردّ أحد على الكتاب الذي أرسلناه! وعندما سألناهم قالوا إن الدولة لا تتعاون مع المنطقة بالنسبة إلى المحروقات، بالإضافة إلى الاتصالات التي تلقيناها من وزارة الشؤون الاجتماعية والهيئة العليا للإغاثة من دون أن يأتي أحد إلينا".
يضيف سكرية أن ثمة بعض الأفراد الذي يتبرعون بشكل فردي أو عبر جمعيات لتوفير كميات محدودة من المياه بفترات متفاوتة، و"قبل أيام جاءتنا الهيئة الصحية التابعة لحزب الله وقدّمت لكل غرفة مدفئة غاز وعبوة غاز صغيرة تكفي لأيام، وحتى هذه الساعة لم تتم الاستجابة لهذه المشكلة من أجل حلها بشكل كامل، علماً أننا أمام برد قارس غير مسبوق في المنطقة، وهو ما ينذر بتفاقم المشكلة في الأيام المقبلة".
"لم يسألنا أحد عن أحوالنا"
تعاني والدة فاطمة من مرض مستعصٍ وهي تستخدم آلة الأوكسجين بشكل دائم. وتشرح الابنة التي تعتاش من بيع الخضار حالة والدتها الصعبة: "لا يمكنني أن أستعين بالحطب مع أننا يمكننا توفيره بلا مقابل عبر الذهاب إلى الأراضي المتروكة وغير المملوكة في الجرود. حالة والدتي الصحية لا تسمح لها باستنشاق دخان الحطب، لذلك اضطررت إلى الاستعانة بالمازوت، ونحتاج من 4 إلى 5 براميل في الشتاء كحد أدنى. لكنني لا أستطيع شراء برميل كامل دفعة واحدة، لذلك ألجأ كلما توافر لدي مبلغ إلى شراء عبوة صغيرة. وأحياناً لا يتوافر لدي المال إلا أن الحالة الصعبة لوالدتي تستدعي أن أقترض من معارفي. قبل فترة اقترض شقيقي 50 دولاراً للتدفئة فقط. الوضع صعب، صعب جداً، لم يساعدنا أحد من الجمعيات والجهات الحكومية، لم يسألنا أحد عن أحوالنا ولو مرة واحدة".
هذه السنة أتى فصل الشتاء بهذه القسوة ليستكمل معاناة مديدة تعصف بأهالي منطقة بعلبك- الهرمل، وباتت التدفئة ترفاً بعيد المنال لمعظم السكان. مع تفاقم الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات، لجأت العائلات إلى وسائل بديلة وغير آمنة مثل الحطب والبلاستيك وأي شيء يمكن أن يحترق. غياب الخطط الحكومية والتراجع في الدعم الاجتماعي في المنطقة على وجه الخصوص جعلا من فصل الشتاء فصلاً غير مرحب به وعدواً لجميع ساكنيها، ففي هذه الأوقات كان يفترض أن يلعب الأطفال بالثلج بدلاً من الخوف منه، وخصوصاً أن أهالي بعلبك يصارعون منذ زمن بعيد لتأمين أبسط احتياجاتهم، إلا أن ملف التدفئة هذا العام كشف الغطاء عن انعدام السياسات المستدامة في السلم وفي الحرب.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|