وجهات متناقضة بلا أيّ رؤية اقتصادية: كيف يتمّ توزيع الخسائر والمسؤوليات؟
بعد مرور نحو 5 سنوات، لم تعالج قضية الودائع المهدورة، وهي ليست على طريق الحلّ. تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر يتطلبان النظر إلى الماضي، للاتفاق على مقاربة واحدة بعيداً من الشعبوية. لذا، قد يكون مجدياً بدء نقاش اقتصادي ومالي حقيقي يبرز منه الحل وفق توازن المصالح بين المجتمع والاقتصاد والدولة.
المسؤوليات والخسائر
يبدأ تحديد المسؤولية من النقاش في تعريف الخسائر بحدّ ذاتها. هذه الخسائر واضحة للعيان، وهي الودائع التي لا تستطيع المصارف سدادها. رغم ذلك، هناك رأي مختلف. يعتقد كبير الاقتصاديين في بنك «بيبلوس»، نسيب غبريل، أن المشكلة تكمن في أصل النقاش. فهي ليست خسائر بالمعنى المتداول، لأن «من يتديّن ويتأخّر عن السداد يمكن أن يُعيد جدولة ديونه». وبهذا المعنى، هي ليست خسائر، بل متوجّبات على المصارف ومصرف لبنان يمكن أن يُعاد جدولتها. «هذا لا يعني ألّا يكون هناك توزيع للمسؤوليات عما حدث، لكنه مهم لتوضيح المقاربة الصحيحة»، يقول غبريل.
غير أن هذا الأمر لا يلغي وجود أموال لم تعد موجودة، وليس مضموناً أن تكون موجودة في المدى المتوسط والبعيد، بحسب ما يقول بعض الاقتصاديين. لذا، يتّجه هؤلاء إلى توزيع المسؤوليات بشكل واضح انطلاقاً من تقسيم المتأثّرين بمشكلة الخسائر المصرفية: الدولة المتمثّلة بالحكومة، مصرف لبنان المسؤول عن السياسة النقدية في البلد، المصارف المسؤولة المباشرة عن إدارة الودائع في أعين الناس. وقد يعتبر البعض أن كبار المودعين مسؤولون بشكل أو بآخر عن ودائعهم لأنه يفترض أن يكون لديهم ثقافة مالية كافية لتقييم الوضع المصرفي قبل الأزمة. يعتقدون أن المسؤولية الأساسية تتوزّع بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف.
المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المصارف، لأنها لم تُدَر بشكل جيّد، إذ إن معظم توظيفاتها كانت عند مصرف لبنان. السؤال المطروح: كيف يمكن لهذه المصارف احتساب خسائرها؟ هناك خياران:
- الأول، هو أن خسائرها تتلخص في مجموع ما خسرته من توظيفات لدى مصرف لبنان والقطاع الخاص.
- الثاني، هو أن خسائرها هي رأس مالها كما كان قبل الأزمة، أي نحو 22 مليار دولار.
يعود غبريل إلى استطلاع رأي أُجري في تموز 2020، وأظهرت نتائجه أن «68% من الناس يعتقدون أن الحكومات المتعاقبة هي المسؤولة الأساسية عن الأزمة، فيما يظن 21% أن مصرف لبنان هو المسؤول الأول، وأن 11% يظنّون أن المصارف هي المسؤولة». غير أنه في الواقع، لا يعتمد توزيع المسؤوليات على ما يظنّه الشعب، بل يحتاج إلى دراسة قانونية وتقنية تُظهر هذه المسؤوليات. لذا، يعتمد غبريل على تقرير ألفاريز ومرسال الذي أُصدر في 2023 ومفاده أن «الكهرباء وحدها كانت مسؤولة عن خسارة 25 مليار دولار»، مشيراً إلى أن وزير المال السابق غازي وزني يتحدث عن أن سلفات الخزينة لمؤسّسة كهرباء لبنان بلغت 25 مليار دولار، وتراكمت عليها 20 مليار دولار فوائد. يُظهر هذا الأمر، بحسب غبريل، أن على الدولة مسؤولية أيضاً.
ينظر الاقتصادي ألبير داغر من مقاربة مختلفة، وهي أن المشكلة الأساسية تعود إلى عدم وجود قراءة موحّدة لما حدث. ويقول داغر «يجب أن تتشكل لجنة من خبراء محليين وأجانب، ليقدموا قصّة واضحة تشرح ما حدث، وعلى أساس هذه القصة، يمكن تحميل المسؤوليات لهذا الطرف أو ذاك وعلى أساسه يتم التعويض للمودعين». ويتحدث داغر عن مسؤولية إضافية على المصارف، وهي أن القطاع تصّرف كقطّاع طرق مع المودعين في بداية الأزمة، وهو ما أسهم في إنشاء علاقة سيئة مع المجتمع، فلو «تصرّف القطاع المصرفي بشكل راقٍ مع المودعين من الأساس، وشرح لهم ما حصل لما كانت العلاقة بين المودع والمصرف بلغت هذه الدرجة».
بالنسبة إلى الدولة، من المهم أن يكون واضحاً أن المصرف المركزي هو طرف مفصول عن الحكومة. بمعنى أن الدولة ممثلة بالحكومة مسؤولة عن جزء من المسؤولية وهو المتعلّق بمسؤوليتها المباشرة المتمثّلة بالدين العام. وهذا الدين هو عبارة عن الدين بالعملة المحلية، أي سندات الخزينة المحلية، وقد أصبحت قيمته ضئيلة نسبياً حالياً مع الانهيار الذي حصل لليرة اللبنانية. وهذا الدين هو بجزئه الآخر عبارة عن سندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف اللبنانية ومصرف لبنان. بهذا المعنى، تتحمّل الدولة مسؤولية هذه الخسائر. الدولة تقارب الخسائر من منطلق أن لديها حقوقاً وعليها التزامات. منظار الدولة يتعاطى مع المشكلة الموجودة من حيث إن عليها التزامات، أي الدين العام، ويجب عليها تسديدها أو معالجتها من خلال إعادة الجدولة أو إعادة الهيكلة وما إلى ذلك، لكن المهم أن تُعاد الثقة بها، من قبل الدائنين، ليكونوا مطمئنين إلى أنهم سيتلقّون أموالهم المتفق عليها في النهاية.
أما بالنسبة إلى المصرف المركزي، فهو يجب أن يتعامل مع الخسائر على أنها أزمة مالية، بمعنى أنه مسؤول عن التعامل مع معالجة الثغرة الموجودة في ميزانيته، ويجب أن يكون تعاطي المصرف المركزي مع الخسائر مثل تعاطي أي مصرف في العالم، علماً أن المصرف المركزي يملك أداة لمواجهة هذه الخسائر، إذ إنه قادر على إعادة تسعير الأصول عبر إجبار المصارف على تأمين مؤونات على الأصول. بشكل عام، بالنسبة إلى الخسائر، فحدود مسؤولية المصرف المركزي تُختصر في بند «الأصول الأخرى» (Other Assets)، في ميزانيته، وهي عملياً الخسائر التي خلقها. فالمركزي لم يكن يخلق النقد لتمويل الدولة فقط، بل كان يموّل القطاع الخاص أيضاً بالليرة عبر طباعة الليرات لتأمينها للمصارف مقابل سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد. الحديث عن إعادة المصرف المركزي للخسائر غير منطقي، فهنا سؤال أساسي لهذا الطرح: ما هي المدة التي يحتاج إليها المصرف المركزي لإعادة جميع الودائع؟ من غير المنطقي أن تكون الإجابة عن سؤال كهذا بأنه يحتاج إلى أقل من 30 سنة، وفي حال كانت الإجابة 30 سنة، فذلك يعني أن القيمة الحالية (Present Value) للودائع تُصبح بنسبة 20% من قيمتها الاسمية، وهذا يعني اقتطاع نافذ المفعول بنسبة 80%.
استخدام صندوق أصول الدولة
من بين الحلول المطروحة استخدام أصول الدولة لسداد الودائع، وخطة إعادة الهيكلة التي تدرسها الحكومة اليوم قائمة بشكل أساسي على هذا الأمر. لكن لاستخدام إيرادات أصول الدولة لسداد الخسائر انعكاسات على الاقتصاد واحتمالات النموّ الاقتصادي المستقبلي، وخصوصاً أن الاقتصاد بلغ مرحلة لا يمكن أن ينكمش فيها أكثر، ما يعني أن على الدولة أن تتصرّف، مستقبلاً، مع الأخذ بالحسبان أن السياسة المالية ستكون مهمة جداً في المرحلة القادمة التي يجب أن يُدفع فيها الاقتصاد إلى النموّ.
تحميل الدولة للخسائر يعني مباشرة استخدام إيرادات مؤسسات الدولة لتغطية الخسائر، ما يعني تلقائياً زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق، أو الاثنين معاً. وهذا المزيج كابح للنموّ. خفض النفقات يعني تعطيل القطاع العام وكذلك تعطيل جزء كبير من الاقتصاد، لأن القطاع العام لديه دور تشغيلي في الاقتصاد أصلاً. كبح النمو يأتي من خلال تعطيل فرص النمو. بمعنى أنه إذا كان هناك فرصة معينة لإنماء قطاع ما في الاقتصاد، فإن دور الدولة هو الإنفاق في التعليم الذي يصبّ في مصلحة إنماء هذا القطاع. ومن دون قدرة الدولة على الإنفاق، قد يكون إنماء القطاع صعباً، وبالتالي تكون الدولة قد فوّتت فرصة لإنماء الاقتصاد.
من ناحية أخرى، إن تعطيل القطاع العام يعني ربطه بدورة التمويل الخارجية، وهو ما يحدث الآن، فيصبح تشغيل القطاع العام بالحدّ الأدنى مرتبطاً بتلقي تمويل خارجي. كما أن تعطيل القطاع العام ينعكس على الاقتصاد، ليس فقط من ناحية انخفاض الناتج المحلّي (الذي يدخل في حساباته الإنفاق العام)، بل أيضاً يؤذي الاقتصاد من ناحية هروب الاستثمارات إلى أماكن خارج البلد، لأن الكثير من الاستثمارات تُفضّل ألّا تأتي إلى بلد ليس فيه مؤسسات عامّة تعمل بشكل فعّال. وأخيراً، إن خفض إنفاق القطاع العام يُسهم في طرد الطاقات الكفوءة ويستبدلها بطاقات أقل مستوى منها، وهو ما يظهر على الاقتصاد في الوقت الحالي على المدى الطويل أيضاً.
يطرح نسيب غبريل مقاربة أخرى؛ يقول إنه ليس مع استخدام هذه الإيرادات لسداد الخسائر، لكنه يرى أنه يجب «استخدام هذه الإيرادات لتوفير السيولة للمصارف»، بمعنى أن تقوم الدولة بإيداع هذه الأموال لدى المصارف لتأمين السيولة لها لتستطيع أن تُعيد حركة الإقراض في الاقتصاد، وهذا الأمر يُسهم في عودة الحركة الاقتصادية للنموّ في حال كان هذا الإقراض موجّهاً بشكل صحيح.
في المقابل، يقول ألبير داغر إنه ليس ضد فكرة استخدام إيرادات لسداد الخسائر، إذ إن «الإنفاق العام في حالة مزرية الآن، ولهذا السبب لا يرى أن «انخفاض الإنفاق العام بسبب استخدام الإيرادات لسداد الودائع، سينعكس سلباً على الاقتصاد وفرص النموّ». كما يشير إلى أن فكرة «تأميم المخاطر ليست فكرة جديدة، إذ قامت الحكومات في أوروبا بإنقاذ المصارف سابقاً من أموالها».
إعادة هيكلة بالأمر الواقع
بالنسبة إلى الاقتصادي ألبير داغر، تحقق جزء كبير من إعادة الهيكلة أصلاً. فتذويب الخسائر حصل منذ أن توقفت المصارف عن تسديد الودائع بالدولار وأصبحت تعطيها بالليرة. وكان هذا الأمر، بحسب داغر، بمشاركة رياض سلامة الذي كان في الوقت عينه يذوّب الودائع الموجودة في ميزانيته. كما استفادت الدولة من تذويب الدين العام بالليرة الذي أصبح لا يُشكّل عبئاً كبيراً. ويرى أن رياض سلامة رفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة من 30 ألف ليرة إلى 100 ألف ليرة مقابل الدولار لهذا الهدف. من ناحية أخرى، يقول داغر إن المصارف استفادت من خلال ربط قروض المطوّرين العقاريين بالودائع، حيث أصبح المطوّرون يستخدمون الودائع لسداد قروضهم، وبهذه الطريقة شطبت المصارف 15 مليار دولار، حيث استفادت من جزء من القروض التي كانت ستُعتبر قروضاً هالكة في الحالة الطبيعية.
خسائر وهمية؟
في محاولة شرح أن الخسائر ليست خسائر فعلية، يقول كبير الاقتصاديين في بنك «بيبلوس»، نسيب غبريل، إن الفرق بين ما هو موجود من احتياطات والودائع هو 80 مليار دولار تقريباً، والسيولة الموجودة الآن في مصرف لبنان (10 مليارات دولار) تساوي نحو 12% من الودائع. لذا قد يكون الحل بالنسبة إلى غبريل من خلال إعادة تكوين السيولة لدى المصارف، وتكوين الثقة بالمصارف، ولأن المودع الآن يعيش حالة من عدم اليقين بحيث لا يعلم ماذا سيحدث، يمكن أن يُقدّم له الموضوع على شكل أنه «يستطيع التصرّف بوديعته على الأقل محلياً»، وهو ما قد يعيد جزءاً من الثقة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|