الاتّفاق على نار حامية... "حماس" توافق على هدنة بوجود إسرائيلي موقت
أحمد الشرع ضدّ أبو محمد الجولاني
العملية الخاطفة والسريعة جداً، التي أسقطت النظام السوري في 11 يوماً فقط، لا تقلّ إدهاشاً عن سرعة تحوّل أحمد حسين الشرع، المعروف بالفاتح أبو محمد الجولاني، من أقصى التطرّف إلى أقصى الاعتدال. خرج من صفوف تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، وهو النسخة المطوّرة من تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، الفرع الأشرس لتنظيم القاعدة- المركز، ليصبح فجأة إبّان عملية إسقاط بشار الأسد، الأكثر تماثلاً مع مبدأ الثورة السلمية التي انطلقت في ربيع 2011.
هذه القدرة الهائلة على الانقلاب على الآخرين وعلى النفس، هي التي تحيّر العالم، وتثير الشكوك أيضاً. لكنه حتى هذه اللحظة، هو قائد المرحلة السوريّة بلا منازع.
يمكن اختزال العامل الحاسم أو السلاح الاستراتيجي وراء نجاح العملية العسكرية الخاطفة التي أسقطت النظام السوري من دون قتال حقيقي تقريباً، في كلمتين فقط، هما:
1- “شاهين”، وهو سلاح المسيّرات الذي نشر الرعب في الجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه.
2- “التواصل”، وهو كناية عن الحرب النفسية المركّزة التي رافقت العمل العسكري، من خلال الاتصالات الكثيفة التي أجرتها غرفة عمليات “إدارة العمليات العسكرية” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، مع الوحدات العسكرية النظامية، على محاور التقدّم انطلاقاً من إدلب وريف حلب الغربي، باتجاه حلب أولاً، وصولاً إلى دمشق نفسها، وانتهاء بالساحل ذي التركّز السكّاني العلوي. كانت الرسالة واضحة ومختصرة: “سلّم سلاحك، واترك موقعك. أو انشقّ عن النظام وانضمّ إلينا. وأنت في أمان. ولا يوجد خيار آخر إلا الموت”.
السؤال المحيّر حتى اللحظة، هو كيف وثق الجنود والضباط في الجيش بتطمينات الجهاديين السابقين، الذين خاضوا أكثر المعارك دموية ضدّ النظام وحلفائه تحت راية “جبهة النصرة لبلاد الشام”، منذ عام 2012، قبل التحوّل إلى “جبهة فتح الشام” عام 2016، و”هيئة تحرير الشام” في العام التالي؟
من الصعب جداً تصوّر حجم المعركة ومسارها المنهجي، والبالغ التنظيم، عسكرياً وأمنياً، سياسياً وإعلامياً، على أساس أنها عملية محدودة فقط، تدحرجت لأسباب مجهولة، فأضحت فجأة، حرب تحرير سوريا كلها؛ سقط فيها النظام بأسره، عمودياً وأفقياً، وهرب على عجل بشار الأسد، وكبار القادة العسكريين والأمنيين، إلى بلدان شتى.
ما يدعو إلى الريبة في أنّها كانت فقط عملية محدودة، هذه القدرة المفاجئة على تطوير الهجوم، من دون تردّد ولا تأخير؛ فلو انهارت وحدات الجيش، وتأخرت “إدارة العمليات العسكرية” في اتخاذ القرار المناسب، لما سقطت حلب، ولا كل سوريا. ولو سارعت إلى اقتناص الفرصة من دون خطة بديلة، لوقعت العملية في فوضى عارمة، ولربما تمكّنت الفرق النظامية الاحتياطية من ترتيب الصفوف، وحشد قواها لتوجيه ضربات ساحقة لقوات المعارضة.
لكن كلّ هذا لم يقع، بل سقطت القرى والبلدات في الأرياف بسرعة انتقال الأرتال والطوابير، وكأنها مجرّد نزهة. استطالت المعركة لأيام فقط في حماة وحمص، بينما سقطت دمشق، بثورة شعبية مسلحة، قبل وصول قوات “هيئة تحرير الشام” وحلفائها في غرفة عمليات “ردع العدوان”.
هذه العملية النموذجية، تنطبق فقط على الجيل الخامس من الحروب، وهو نوع جديد لم يكتمل بعد من حيث المفهوم. كلّ جيل من أجيال الحرب، يرتبط بمدى التطوّر التكنولوجي عبر العصور، وله استراتيجياته وتكتيكاته المميّزة:
في الجيل الأول، أي في العصور القديمة وما بعدها، كانت الحروب تُخاض في خطوط وصفوف متقابلة، وانتهت هذه المرحلة في منتصف القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية في أوروبا، وتحسّن مدى الأسلحة النارية، وقوتها التفجيرية، واستعمال الجيوش المدرّعة، والعمليات المشتركة لصنوف الأسلحة، وهذا هو الجيل الثاني.
أمّا الجيل الثالث من الحروب، فتميّز بسرعة الهجوم واستعمال المناورات والالتفاف حول العدو، من خلال المدرعات والطائرات وعمليات الإنزال الجوي، وفيه كانت الحرب الخاطفة Blitzkrieg.
في الجيل الرابع، لم يعد ثمّة فاصل بين العسكريين والمدنيين، ولا بين السياسة ولا الإعلام ولا القتال، مع الدور المتعاظم للتشكيلات العسكرية غير النظامية. وهذا النوع برز بقوة بعد هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة.
وصل العالم أخيراً إلى طلائع الجيل الخامس من الحروب، والتي تتميّز باستخدام القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية أو الحرب القانونية أو العقوبات أو الحرب السيبرانية أو الحرب النفسية أو حرب المعلومات. وتكاد أن تكون عملية إسقاط الأسد، نموذجاً رائداً لهذا النوع الجديد من الحروب، بل مثالاً غير مسبوق، على قدرة القوة الناعمة على إسقاط أعتى الأنظمة.
مشى أبو محمد الجولاني مسافة طويلة في عشر سنوات، كي يعود أحمد الشرع ابن خبير النفط الدكتور حسين الشرع. والمشكلة أنّ فصائل المعارضة التي تحالف معها الجولاني أو تخاصم معها، خلال هذه السنوات، لم تدرك ما يحدث من تغييرات في شخصية الجولاني، إلا على أنها انتكاسات عن الطريق القويم، أو مجرّد ألاعيب مكشوفة لنزع صفة الإرهاب عنه.
لكن بالعودة إلى المحطات الرئيسية التي مرّ بها في سوريا، فإنّ الموقف الأساسي الذي اتخذه الجولاني برفض أوامر زعيم داعش أبي بكر البغدادي بدمج جبهة النصرة، عام ٢٠١٣، كان مؤشراً على أنّ الجولاني الذي أمضى سنوات في العراق كعضو في تنظيم القاعدة ثم في دولة العراق الإسلامية، قد قام بمراجعة خاصة به بشأن ما شاهده ولمسه من تصرفات الجهاديين، وأخطائهم الرهيبة في التعامل مع حاضنتهم السنية، ما جعل أهل السنة ينخرطون فيما سمي آنذاك بالصحوات، التي قاتلت الجهاديين في العراق، وألجأتهم إلى الصحراء، قبل أن تبدأ الثورة السورية، فانتعش تنظيم الدولة، وكان على طريق الاندثار.
يقول مقرّبون من الجولاني، إنه ذكي، وسريع التعلّم، والبيئة الشامية بطبيعتها أكثر ميلاً إلى العمل السياسي بل الدهاء، من البيئة العراقية. وانشقاق الجولاني عن البغدادي، كان بوجه من الوجوه تعبيراً عن رفضه تدخل العراقيين في الشأن السوري. أما مبايعة الظواهري، فكان تأكيداً من الجولاني على انحيازه إلى التنظيم- الأم في صراعه الوجودي مع الفرع العراقي المتمرد.
لكن بعد أربع سنوات، نجح الجولاني في إيهام الظواهري بأنه يريد الانفكاك عن القاعدة شكلاً لاعتبارات الحرب السورية ومقتضياتها، وحتى لا يكون انتماؤه للقاعدة عبئاً على جبهة النصرة وعلى الثورة السورية. ولكن سرعان ما انكشفت خديعة الجولاني، بعد فوات الأوان. أنشأ جبهة جديدة أسماها “فتح الشام”، ثم انتقل أخيراً إلى “هيئة تحرير الشام”.
تغيير الاسم نفسه يدل على تغيير المضمون؛ إذ ترافق مع إقصاء ذوي الانتماء السلفي الجهادي من صفوف الهيئة تدريجياً. فمنهم من خرج، ومنهم من أُخرِج منها، ومنهم من اعتقل، وما زال معتقلاً. من النصرة وهو مصطلح جهادي معروف، إلى الفتح، وهو اسم مشترك، ثم إلى التحرير.
بما أنه درس خطوات “حزب الله” في لبنان، وأفاد منها، فقد اهتم بالحاضنة الشعبية في إدلب وما حولها، وأقام المؤسسات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية، إلى جانب التنظيم الأمني الذي بذل فيه جهداً كبيراً، ومعه التنظيم العسكري. كان نجاحه في تكوين دولة مصغرة في إدلب، عنصراً مساعداً في رغبته بالنجاح في إدارة المناطق الحضرية الكبرى في حلب ودمشق.
أما في الجانب الإعلامي، فكان لافتاً في عملية ردع العدوان، أنه يقلّد الأوكرانيين ليس فقط باستعمال المسيّرات بفعالية مؤثرة، بل حتى في المشهدية. يلبس الشرع، اللباس الكاكي بعدما تخلّى منذ سنوات عن عمامة بن لادن. واللباس الكاكي لا يفارق الرئيس الأوكراني زيلينسكي منذ الهجوم الروسي على بلاده. ويتجوّل كذلك على الجبهات مثله.
أما المشاهد المصنوعة بعناية، وهي التي يحبها الغرب، وتصوّر عودة المقاتلين إلى منازلهم التي تركوها قسراً قبل سنوات، ولقاء الأهل والأقارب. قد فعلها الأوكرانيون أيضاَ عندما استعادوا مناطق محتلة من الروس في أواخر عام 2022.
هشام عليوان - أساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|