ديكتاتورية "تيك توك" وأخواتها!
الجميع في الغرب يخشى "تيك توك" والجميع يسعى إلى الاستثمار فيها! فمنصة التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مليار إنسان في العالم شهريا وتعتبر قناة التواصل المثلى مع الشباب ممن تراوح أعمارهم بين 18 و34، غارقة في بحر اتهامات خطيرة تزعم أنها تشكل خطراً على أمن الدول وسيادتها. مع ذلك، يتسابق زعماء دول وأحزاب، ونجوم اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا للاتكاء عليها، فيما يتوقع أن يجري حظرها في الولايات المتحدة بقرار وشيك من المحكمة. وإذ حمل بعض سايمون هاريس رئيس وزراء إيرلندا إلى السلطة، فقد يحمل البعض كالين جيورجيسكو (62 عاماً) الطامح إلى الظفر برئاسة رومانيا، إلى السجن!
بعيداً من الجدال حول كونها "مصيدة" لداتا المستخدمين تملكها شركة بايت دانس الصينية أم لا، فقد وضعت بصمتها على تطورات مفصلية، إذ سُمي هاريس "رئيس وزراء التيك توك"، وقيل إن كير ستارمر فاز في "انتخابات تيك توك" البريطانية الأخيرة. وعُزيت إليها نجاحات اليمين المتطرف الأخيرة في أوروبا. فأي دور تؤديه هذه الأداة الرائجة منذ 2016 لتبادل أشرطة فيديو قصيرة بين ملايين الشباب والشابات حيال الديموقراطية؟
الجواب أنها تعبث بنظام الحكم هذا وتهزه من جذوره بدل أن ترسخه.
تنقل، كغيرها من قنوات التواصل الاجتماعي، أخباراً لا يمكن التثبت من صحتها، وكثيراً ما تكون "زائفة" هدفها التلاعب بموقف، أو تشويه سمعة شخص، أو جهة ما، أو نشر أفكار متطرفة. إلا أن "تيك توك" أمضى من أخواتها التقليديات بسبب انتشارها على نطاق واسع في أوساط فئة عمرية بعينها.
وتتميز أيضاً بالإيجاز الذي يجعلها سلاحاً ذا حدين. صحيح أنها تستعمل لغة بصرية مختلفة عن بقية الوسائط، لكنها تفعل ذلك باختصار شديد. والتكثيف البالغ يسطّح الرسالة فتغدو ضحلة فكريا، من جهة، وجذابة بسيطة تنتقل بسرعة لسهولة حفظها، من جهة أخرى. هكذا حولت "تيك توك" الخطاب السياسي إلى ما يشبه مجموعة من الكلمات المفتاحية!
لكن الخطاب الذي تصنعه مؤثر، كما تدل شعبية المرشح الرئاسي الروماني المذهلة الذي اتبع استراتيجيات "تيك توك". بدأ بالاستعانة بمؤثرين روجوا أولاً لسمات أساسية: الاستقلالية والاحترافية والاستقامة وإتقان لغات أجنبية باعتبارها مواصفات يجب أن تتوافر في الرئيس المقبل. وفي مرحلة لاحقة تم الربط بينه وبين هذه المواصفات ودعوة الرومانيين إلى انتخابه.
وصعق الجميع بفوزه في الجولة الأولى للانتخابات، مع أنه كان شبه مجهول. وقيل إن الفضل في انتصاره يعود إلى "تيك توك"، وتدخل روسي محتمل. واتُهمت موسكو بالعمل من خلال المنصة على ترجيح كفة حليفها المتصلب جورجيسكو. ولم يحسم بعد الخلاف حول صدقية نجاح المتطرف مسيحياً الذي ينكر العدوان الروسي على أوكرانيا ويهاجم حكومة كييف بشدة، كما يجزم بأن فيروس "كوفيد" الذي روّع العالم لا وجود له.
في البلاد التي يقدّر عدد سكانها بـ 19 مليون نسمة، هناك 298 ألف متابع لجورجيسكو على "تيك توك"، كما نالت أشرطة الفيديو التي بثها على المنصة نحو 3.8 ملايين إعجاب. إلا أن فرحته لم تكتمل. ويجرى حالياً نبش ملفات وتقارير تتصل بداعميه قد تكشف عن مخالفات مالية وخيوط تربطها بموسكو!
و"تيك توك" تستهوي في أوروبا، زعماء مثل إيمانويل ماكرون وأولاف شولتز وقياديين في اليمين المتطرف. مثلاً، جوردان بارديلا (29 عاماً)، رئيس حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا يحظى بمليون متابع حالياً على المنصة. ويقدّر عدد الذين يعتمدون عليها من أجل التواصل ومتابعة الأخبار بـ 142 مليوناً من شباب القارة العجوز.
وللسياسيين الأميركيين قصة مختلفة مع "تيك توك". فهم يُقبلون على استخدامها، كما اعترف الرئيس المنتخب دونالد ترمب أخيراً، إلا أنهم يخشونها. وقد اعتبرها مكتب التحقيقات الفيدرالي "تهديداً للأمن الوطني" وتم حظر استعمالها في الأجهزة التي يستخدمها موظفون حكوميون في 27 ولاية على الأقل لأنها بمثابة "حصان طروادة بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني الذي يستطيع استعمالها للتأثير في ما يراه ويسمعه الأميركيون ويفكرون به في نهاية المطاف"، وفق تعبير عضو مجلس الشيوخ الجمهوري المتشدد توم كروز.
وفي انتظار ما ستكشفه التحقيقات في شأن التدخل الروسي المفترض لمصلحة جورجيسكو، أخذت أسئلة الديموقراطية وحرية الرأي تُطرح بصيغ مختلفة مناسبة لعصر "تيك توك". صحيح أنها أثيرت وتثار لدى مناقشة دور الوسائط الاجتماعية منذ فجر "ثورتها" الأول الذي ساهمت مساهمة حاسمة بعده في إرساء سياسات تاريخية كالبريكست، وزعماء مثل أوباما، وتوجهات يمينية متطرفة لم تكن لتحقق كل البأس الذي تتمتع به لولا تعويلها على الفيسبوك وتويتر وانستغرام، لكن "تيك توك" تمثل حالة أخرى لناحية تداخل المحلي في الأجنبي والحقيقي في المتخيل والضحل في الجوهري ظاهرياً.
وعلى الرغم من تقدمها على وسائط التواصل الاجتماعي الأخرى على مستويات عدة، كيف لـ"تيك توك" أن تنافس الذكاء الاصطناعي الذي يتمتع بتقنيات من نوع "التزييف العميق" (دييب فيكس) تفبرك صوراً وأصواتاً وأشرطة فيديو قد تتصل بأشخاص حقيقيين أو لا تتصل، لغاية في نفس يعقوب، و"تيك توك" غير قادرة على مجاراته في تمكين المستخدم من تأليف محتوى كاذب بسرعة، وبصيغ مقنعة، ونشره على نطاق واسع؟
لا يعني هذا أن عصر "تيك توك" إلى زوال وتهميش. وربما ستشهد السنوات القليلة المقبلة زحف الذكاء الاصطناعي على مملكته للمضي في تطوير عملية صناعة الرأي والرأي الآخر بطريقة متقنة ومصادرة حرية الإنسان في بلورة موقف وبناء وجهة نظر من دون تطفل مؤثرات خارجية عليه. ولا شيء يمنع "تيك توك" وغيرها من المنصات من التعايش مع الوضع الجديد كجزء لا يتجزأ من ديكتاتورية سيرزح تحتها العالم!
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|