لبننة “الحزب”؟
كتب أساس ميديا: منذ نشأته كانت لبنانية “الحزب” مسألة إشكالية، في الشكل كما في المضمون.
والمضمون والشكل هنا متلازمان متساويان في الدلالة والمعنى.
اليوم لم يعد من هامش لترف اللعب على رماديّة المفاهيم وغموض الفكرة ومطّاطية التعريف. دقّت ساعة الحقائق. وآن أوان حسم الأمور.
ظهر الالتباس المطلوب والمقصود يومها منذ وثيقة التأسيس حول لبنانية “الحزب”، في كلّ ما يتعلّق بشكله، وفي مضمون الوثيقة الدينية التمييزية الشهيرة يومها.
في الشكل برز عنوان “المقاومة الإسلامية في لبنان”، وليس “اللبنانية”.
على عكس حركة “أمل” مثلاً، بتسميتها الصدريّة “أفواج المقاومة اللبنانية”. هذه الـ”في لبنان” نُسج حولها الكثير منذ لحظة البدايات، وعن أنّ لبنان بالنسبة إلى “الحزب” مكان لا مرجع انتماء، وأنّه تسمية جغرافية لا مرجعية ولاء.
بعدها وفي الشكل أيضاً، حرص “الحزب” على عدم التقدّم بعلم وخبر من وزارة الداخلية، لإبلاغ الدولة اللبنانية بكونه حزباً لبنانياً خاضعاً لقانون الجمعيات (3 آب 1909). ولم يبالِ بترخيص إعلامه المرئي والمسموع، إخضاعاً لها للقانون المختصّ (382/94). اكتفى بتراخيص شكليّة لبعض مؤسّساته، من تعليمية وتجارية وغيرها، من التي يضطرّها عملها إلى بعض القوننة الرسمية، بالحدود الدنيا لا غير.
كان يومها “الحزب” يقول علناً بعدم اعترافه بالدولة اللبنانية، وبعدم تسليمه بشرعيّتها دولةً ومؤسّسات.
دخول البرلمان: ماذا تغيّر؟
حتى كانت مشاركته في أوّل انتخابات نيابية سنة 1992، خطوة أولى لدخول “لبنان” الدولة. يومها قيلَ وكُتب الكثير عن مخاض كبير حصل بين الضاحية وطهران انتهى إلى اجتهاد و”تكليف”، وبعض الخبثاء يقول إلى “تقيّة” في التعامل مع “نظام غير شرعي”. وهو ما تزامن يومها مع تغييرات جذرية في قيادة “الحزب” في بيروت، كما في مرجعيّاته بين دمشق وطهران…
ومضت الأيام، وقدّم “الحزب” دماء غزيرة، حماية لأرض لبنان وشعب لبنان، حتى حرّر جنوبه كاملاً سنة 2000. وظلّ التعامل مع لبنانيّته يتمّ بلبس.
ومرّت الأيام أكثر، وتطوّرت الأوضاع والذهنيّات والأفكار والأشخاص، حتى صار لدى “الحزب” نصّان لبنانيّان اثنان، مغايران شكلاً ومضموناً لوثيقة التأسيس الشهيرة. وبات يملك أيضاً في أدبيّاته كلاماً ثالثاً موازياً، بل مرجعياً، في التزامه بلبنان وإلزام ناسه به.
1- النصّ الأوّل كان وثيقة تفاهم مار مخايل سنة 2006. وهو أوّل كلام موقّع رسمياً من أعلى قيادة في “الحزب”، يحمل مفاهيم من نوع “الدولة اللبنانية”، “حماية لبنان وصون استقلاله وسيادته”، “قرار لبناني حرّ”، “جوهر ميثاق العيش المشترك”، “أهمّ ركائز وجود لبنان الاختلاف والتنوّع”، “جوهر الديمقراطية وممارستها”، و”الاحترام الكامل والمتبادل لسيادة الدولتين (لبنان وسوريا) واستقلالهما”.
2- بعد أعوام كان النصّ الثاني مع الوثيقة السياسية لـ”الحزب” سنة 2009. التي أضافت تسليماً أكبر بمسلّمة لبنانيّة “الحزب”. ففي فصلها الثاني تحت عنوان “الوطن”، تأكيدٌ “أنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكلّ الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزّته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكلّ اللبنانيين على حدّ سواء، يحتضنهم ويتّسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم”.
3- بقيت جزئيّة واحدة عالقة. لم يلبث السيّد نصرالله أن أعلن حسمها في حديث متلفز في 3 كانون الأول 2013 يوم كشف أنّ شورى “الحزب”، منذ إعلان وثيقته السياسية قبل أربعة أعوام، كان منكبّاً على بحث مسألة نهائية الكيان اللبناني، وأنّه توصّل بعد طول نقاش وحوار إلى قرار بالإجماع يقضي بتسليم “الحزب” بهذه النهائية.
أُقفل الموضوع نهائياً. على الرغم من كلّ ما كان يجري في السياسة والسجالات وعلى الأرض من اضطرابات واغتيالات ومعارك وحروب، لم يعد يُطرح أيُّ تساؤل حول لبنانيّة “الحزب” المحسومة. على الرغم من مستنقعات سوريا واليمن والعراق وغيرها، وعلى الرغم من كلام الأذرع الإيرانية والعواصم الأربع “الفيلقيّة”… ظلّ الانطباع والاقتناع بأنّ الموضوع أُقفل نهائياً حتى جاءت ورطة غزّة وما سُمّي إسناد 7 أكتوبر، فعادت الإشكالية صارخة، وعاد القلق عارماً.
ماذا تغيّر بعد 7 أكتوبر 2023؟
مرّة جديدة، في الشكل والمضمون.
شكلاً، كرّس “الحزب” ترسانة إعلامية مغايرة لمعاركه السابقة: “طريق القدس”. لا بيروت ولا لبنان. مرثيّاتٌ دينية تذهب سحيقاً في التخصيص والتمييز والتفريق. شعاراتٌ ورموزٌ وأدبيّات، لا ذكر فيها لمفردة لبنان، حتى 23 أيلول 2024. قبل ذلك التاريخ، وطوال 11 شهراً ونصف من الدم اللبناني المسفوك، كان لبنان ساقطاً منسيّاً.
حتى نَعيُ الشهداء المجبولين بتراب الوطن، كان يُرفعُ لسواه، حتى 23 أيلول الماضي.
لكنّ الصدمة جاءت بعد أربعة أيّام فقط. يوم سقط السيّد. فبدا كأنّ “المحور” كلّه قد زال، وكأنّ مقولة “وحدة الساحات” كلّها قد اندثرت.
سريعاً تهاوت أحجار الدومينو، حتى تأكّد العالم أنْ لم يكن هناك محورٌ، إلّا في إرادة السيّد. ولم تكن هنالك ساحات إلا بعزمه. كان هو المحور الفعليّ لمحور افتراضي. فما لأحدٍ فضلٌ عليه. بل كان فضله هو الأكبر على كلّ من كان معه. من لبنان حتى إيران.
سقط السيّد، فيما بشار الأسد يحضّر لتقاعد عائليّ وثير في برج موسكوبيّ شهير.
سقط السيّد، ومعه وقبله 5 آلاف لبناني من عمر الربيع ومعدن الدهور، فيما فصائل العراق محتشدة فوق مغانم بلد منكوب منهوب.
سقط السيّد، فيما اليمن “سعيد”. ونظام الملالي بعيدٌ كلّ البعد عنّا وعن دمائنا وتضحياتنا ودمارنا ورمادنا.
سقط السيّد، فيما بزشكيان يعلن “أخوّته” للأميركيين. وظريف يرطن “شالوم” بالعبريّة القحّة. وفيما نظام الملالي برمّته يبلع ضربة الكيان الأخيرة له ويكتفي بدمعة عابرة على محوره قبل أن يُكمل انكبابه على قانون ثوريّ جديد يقضي بتشديد العقوبات الرادعة والزاجرة ضدّ كلّ امرأة عدوّة تُظهر ضفيرة من شَعرها لهواء الحرّية!!
وسقط السيد، فيما إيران مع العالم كلّه يرعون ويباركون اتّفاقاً وقّعته سلطة “الحزب” ههنا، من أجل “حلّ دائم وشامل”، ومن أجل “تحقيق السلام والأمن الدائمين”، بين “حكومتَي جمهورية لبنان ودولة إسرائيل”، ومن أجل “نزع سلاح جميع المجموعات المسلّحة في لبنان”، “ومن أجل منع إعادة تشكيل وإعادة تسليح المجموعات المسلّحة غير التابعة للدولة في لبنان”، كما ينصّ اتّفاقهم حرفيّاً.
فعن أيّ معارك يتحدّثون بعد؟ ولأيّ جبهات يستعدّون؟
نعم هذه هي حقيقة الأمور والواقع والوقائع. وهو ما يدفعنا إلى رفع الصوت: آن الأوان لعودة “الحزب” إلى لبنان. وآن الأوان للبننة “الحزب” كاملاً وكلّياً وجذرياً ونهائياً. كفانا تسليفُ دمائنا لمصالح الاخرين. وكفى الجنوب سحقُ “عامله” وعمّاله، نبوغه وتبغه، آله وماله، لنفوذ الآخرين.
كفى الضاحية الشموس وبعلبك الشمس وما بينهما، أن يكونوا حطباً أو أكياس رمل أو بيادق أو قطع صرفٍ أو تبادلٍ في بازار.
نعم آن الأوان للبنان. آن الأوان للبننة “الحزب” بكلّ ما ومن فيه. تماماً كما لبننة كلّ حزب وهيئة وجهة في لبنان، شكلاً ومضموناً.
أوّلاً من أجل “الحزب” نفسه، وفاءً لتضحياته وحرصاً على مستقبل ناسه وضنّاً بنضالاته.
وثانياً من أجل جماعته الشيعية الأصيلة المؤسّسة للكيان والوطن.
وثالثاً من أجل توازن الوطن نفسه، واستقراره واستقلاله، تمهيداً لإعادته وطناً لا ساحة، ودولة لا مساحة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|