من الكهوف إلى الملاهي الليلية
هؤلاء الذين فغروا أفواههم، وجحظت عيونهم (لا تؤاخذونا على أسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي)، حين رأوا قائدهم يرتدي بزة أهل النار، وربطة العنق التي يفترض أن يشنق بها الكفار. كذلك وهو يتكلم مع زعيم طائفة من الزنادقة، بلغة رجل الدولة لا بلغة رجل الشريعة، وان كان يفترض التوقف عند الاستقبال الملتبس لرجل مثل وليد جنبلاط ولأعضاء وفده. شكل الاستقبال كشف الكثير. لننتظر ما هو أكثر...
يمكن أن يتكيف مقاتلوه مع الواقع الجديد، وقد ترعرعوا على ثقافة قطع الرؤوس، وعلى سفك دم كل من يخالفهم الرأي، وعلى اللحى المسننة والأسنان الصفراء، كما على هدم القصور على قاطنيها، وتمزيق الأثرياء وجرهم بالحبال، والثأر من الأعداء، والقائهم مع نسائهم وأطفالهم من سطوح الأبنية، والعيش بالكفاف لا التمتع بمباهج الدنيا، لأن جهنم بانتظار هذا النوع من البشر.
ها هو قائدهم يمد يده الى الأشرار، ويحتسي الشاي مع الأميركيين والفرنسسين، الذين كان يفترض أن تقطع أيديهم وأرجلهم، وترمى في حاويات القمامة. فعلاً، كيف لهؤلاء أن يتغيروا؟ يأتينا الرد من دمشقي قديم "لسوف تراهم قريباً وهم يبحثون عن حوريات الجنة في الملاهي الليلية، ولسوف يفضلون تناول العشاء أحياء في مطاعم الهوت دوغ، على أن يتناولوا العشاء موتى مع النبي".
حقاً، كيف يمكن أن يشاهدوا الأطفال بثيابهم الزاهية، وبضحكاتهم المنافية لتعاليم الدين الحنيف (بتكشيرة القردة)؟ وكيف لهن أن يشاهدوا النساء سافرات، وحاسرات الرأس، دون سبيهم الى مخادعهم التي على شاكلة الكهوف؟ في هذه الحال، ما حال الدراما السورية، وكيف لنجمات الشاشة الظهور بالصدورالنووية، وبالأرداف التي طالما كانت قبلة الأئمة والفقهاء، وحتى قبلة الخلفاء الى يوم القيامة؟
كعاشق قديم لدمشق التي لم تعد دمشق حتى في عهد من سبق (ومن لاذ بالفرار)، سأجازف وأذهب، بالرغم من أن العرعور الذي لا أعرف الآن أين هو الآن، قد أفتى مرتين أو ثلاثا بقطع رأسي، لأنني من جماعة النظام السابق، لأوضح مرة أخرى أنني لم أكن ولن أكون تابعاً لأي نظام. ما يعنيني في نظام بشار الأسد أنه ظل محافظاً على سياسة أبيه (والفارق هائل بين الرجلين) في دعم المقاومة لـ "اسرائيل"، وقد ازددنا عداء لها، بعدما بلغت تلك الدرجة من البربرية التي فاقت أي بربرية أخرى شهدتها البشرية عبر الأزمنة.
لن نسأل عن مصير أحمد الشرع حين يندلع الصراع بين الأمم، وبين القبائل، ناهيك الصراع بين الفصائل حول سوريا، وحول المسار الايديولوجي والاستراتيجي لسوريا، التي لا يمكن أن تكون تركية فقط، أو "اسرائيلية" فقط، أو أميركية فقط، وهي التي تتقاطع على أرضها، كل صراعات المصالح، بعدم استذكرنا شكل الصراع الذي حدث بين الفرنسسين والانكليز حولها، ابان حقبة الانتداب التي أعقبت سقوط السلطنة العثمانية.
لكننا استشعرنا بشيء من الارتياح، حين شاهدنا السعوديين في دمشق التي بحاجة في هذه الأيام، وأكثر من أي وقت مضى، الى من يقف الى جانبها لتبقى رمز العروبة وأرض العروبة. أين المصريون؟ غيابهم يترك الكثير من علامات الاستفهام...
نسأل عن مصير قائد الادارة السياسية والعسكرية أحمد الشرع من جماعته، وكنت آمل بأن أسأله وجهاً لوجه "أين الجولان في رأسك يأ أبا محمد الجولاني"؟ جماعته التي تفاعلت كثيراً مع جماعات أخرى بايديولوجيات العصر الحجري، بعدما اغتسلت هياكلها العظمية بكل وحول التاريخ.
حين كان الشرع يتكلم، كنت آمل أن يطرح عليه السؤال "... أين الجولان في رأسك يا... أبا محمد الجولاني"؟ وقد سقط جبل الشيخ، وسقطت القنيطرة، وغداً درعا. على الاجابات يتوقف مصير سوريا. لا يمكن أن يكون تقدم الدبابات تقنياً أو أمنياً، وهذه ما يستشف من التعليقات "الاسرائيلية" التي تشير الى سيناريوات مثيرة لا تتعلق بمصير الشرع، أو بمصير النظام الجديد، الذي لا يزال ضبابياً وهشاً. ثمة تصور "اسرائيلي" (تصور جهنمي) لسوريا، والا لماذا تدمير كل مقومات القوة، لتكون سوريا دولة منزوعة السلاح، أي دولة منزوعة الأظافر.
كم كان لافتاً التغيير الذي حدث في شخصية أبي محمد الجولاني. حقان فيدان، المدير السابق للاستخبارات التركية، ووزير الخارجية الحالي، نجح في اعادة تشكيل شخصية الشرع في الشكل، وكنا قد توقعنا أن يظهر بربطة العنق وبتسريحة جون ترافولتا، لكننا لم نتوقع أن يتغير، في اللغة وفي الرؤية، لنفاجأ به يتكلم وبطلاقة، بطريقة رجل الدولة، لا بطريقة قطاع الطرق، ولا بلغة الأئمة بالرؤوس المقفلة.
أجل، بلغة رجل الدولة التي لم يتقنها قط بشار الأسد، الذي بقي رهين اللغة الفارغة، وحتى الغبية، سوريا التي تسير في حقل أو حقول من الألغام، سواء كانت داخلية أم خارجية، بحاجة الى أن تكون دولة، وتحكم بمنطق الدولة (لا بمنطق المغارة كما في لبنان). حسب المعلومات المتوافرة، هذا ما سمعه أحمد الشرع من فاروق الشرع، الذي يرى الأتراك أن يكون الرئيس المقبل للجمهورية (جمهورية آل الشرع بدل جمهورية آل الأسد).
من يعرف سوريا منذ الاستقلال وحتى اليوم، لا بد أن يخاف عليها، كدولة تتقاطع فيها رياح الصحارى الآتية من الشرق، ورياح الجبال الآتية من الشمال. لا انقلابات عسكرية بعدما أزالت "اسرائيل"، كهدية للنظام الجديد، أي اثر للجيش، ولكن ثمة ما هو أكثر خطورة. الأيام الخطرة آتية...
نبيه البرجي-الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|