المفقودون اللبنانيون بسوريا.. أمل بعد سقوط الأسد ومخاوف من "دفن الأدلة"
"إذا كان قد مات، نطلب على الأقل أن يسلمونا عظمة منه"، بهذه الكلمات بدأت نور حنا سرد قصة شقيق زوجها، جورج حنا، الذي اختطف من شوارع بيروت عام 1985، لينقل بعدها إلى السجون السورية.
تقول نور لموقع "الحرة"، "حياة أسرتنا انقلبت رأساً على عقب منذ اختفاء جورج. كان في الثلاثينات من عمره حينها، أستاذاً في الجامعة اللبنانية متخصصاً في "الإلكترونيك"، متزوج من امرأة تحمل الجنسية الألمانية ولديهما ابنتان".
عاد ملف اللبنانيين المفقودين في السجون السورية إلى دائرة الضوء مجدداً بعد سقوط نظام بشار الأسد، وفتح الفصائل المسلحة للسجون والأفرع الأمنية، وخروج عدد من المعتقلين اللبنانيين، بعضهم قضى أكثر من ثلاثة عقود خلف القضبان، وكذلك مع الكشف عن وجود مقابر جماعية في سوريا.
ونتيجة التطورات، فعّلت السلطة اللبنانية عمل اللجنة الحكومية لمعالجة قضية المعتقلين في سورية المنشأة في 2005، وبحسب ما أعلنه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، هنري الخوري، في حديث إعلامي بتاريخ 12 ديسمبر "تكثف اللجنة نشاطاتها وتتواصل مع المحرّرين اللبنانيين للاستماع إلى أقوالهم وتدقيقها".
وأوضح الخوري أن اللجنة تركز على دراسة ملف المعتقلين قبل عام 1992، ووفقاً لأرقامها، يوجد 725 معتقلاً لبنانياً في السجون السورية.
وأشار إلى أن "اللجنة اللبنانية لم تتلقَ أي رد من اللجنة السورية في إطار عملها منذ عام 2005 حتى 2011، وقد رفعت تقاريرها إلى رئيسي الجمهورية والحكومة، وعندما زار الرئيس السابق ميشال عون، مدير الأمن الوطني السوري علي مملوك، كان الجواب: 'لا يوجد أحد'".
يذكر أنه في نهاية عام 2000، تسلمت السلطات اللبنانية من النظام السوري 54 "معتقلاً سياسياً لبنانياً" لينفي بعدها نظام بشار الأسد وجود معتقلين لبنانيين في سجونه، إلا أن ذلك لم يقفل ملفاتهم في قلوب عائلاتهم، التي استمرت في محاولاتها للوصول إلى أي خبر عنهم.
البحث عن الحقيقة
منذ اختفاء جورج، كرّست أسرته جهودها للبحث عن أي خيط يبعث الأمل في معرفة مصيره، وشاركت نور في العديد من المظاهرات والمبادرات المطالبة بالكشف عن مصير المفقودين، من دون تحقيق أي نتائج ملموسة، وفي عام 1995، زارت سوريا حيث حصلت على معلومات تؤكد وجوده في "فرع فلسطين"، قبل أن يتم نقله إلى عدة سجون أخرى، وتقول بحزن "قضيته سلبت الكثير من سعادتي ووقتي".
ومع فتح السجون السورية من قبل الفصائل المسلحة، تأمل نور أن يتم الكشف عن مصير جورج وتقول "ننتظر ستتوصل إليه اللجان المختصة في لبنان والصليب الأحمر الدولي".
يذكر أنه "بعد 36 عاماً من النضال الدؤوب، خلال زمني الحرب والسلم، استطاعت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وأصدقاء القضية انتزاع قانون المفقودين والمخفيين قسراً 105/2018 وشكّلت بموجبه هيئة وطنية مستقلة لتقفّي أثر المفقودين والمخفيين قسرا والكشف عن مصيرهم"، بحسب بيان صادر عن اللجنة في 7ديسمبر.
وقبل فتح أبواب الزنازين، كان لدى رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، علي أبو دهن، الذي قضى 13 عاماً في المعتقلات السورية قبل أن يتم إطلاق سراحه عام 2000، "تفاؤل كبير بالعثور على المعتقلين أحياء، لكن هذا التفاؤل تراجع دفعة واحدة أمام الواقع".
يوضح أبو دهن في حديث لموقع "الحرة" الجهود المستمرة للتواصل مع المعتقلين الذين خرجوا من السجون، في محاولة لمعرفة مصير المفقودين اللبنانيين، ويقول "نعمل ليل نهار دون راحة، لكن للأسف لا نحقق تقدماً يذكر. السجناء الذين اعتقلوا بعد عام 2011 لم يتم وضعهم مع السجناء القدامى، مما يجعل الحصول على معلومات دقيقة عنهم أمراً في غاية الصعوبة".
وتحدث أبو دهن عن معاناة أسرته خلال فترة اعتقاله، مشيراً إلى التحديات المالية والنفسية التي واجهتها في تلك المرحلة، قائلا "عانت الأمرّين، دفعت مبالغ طائلة للحصول على أي خبر عني، ولم تتمكن من ذلك إلا بعد مرور خمس سنوات".
كما يصف أبو دهن قسوة سنوات السجن الطويلة، مشيراً إلى الآثار النفسية والجسدية التي تركتها تلك التجربة المريرة عليه، ويقول "لو استمر اعتقالي أكثر، لفقدت عقلي وذاكرتي. تراكم السنوات وسط غياب الغذاء الكافي، وعدم التعرض للشمس، وانعدام النظافة، إلى جانب التعذيب والرعب المستمرين، كلها عوامل كانت تشل العقل والحركة"، ويضيف "لم تكن المعاناة محصورة داخل السجن فقط، بل كان تفكير السجين في عائلته وأولاده يزيد من حجم الضغط النفسي".
بين الحسرة والأمل
"لا تقتصر لوائح لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، على المفقودين اللبنانيين، بل تتضمن مفقودين من جنسيّات أخرى فقدوا على الأراضي اللبنانية، أهاليهم ما زالوا مقيمين في لبنان، وبالتالي الدولة اللبنانية معنية بالكشف عن مصيرهم، لأن الانسانية لا تتجزأ" كما أشارت اللجنة في بيانها.
من بين هذه الحالات المؤلمة، تبرز قصة اللاجئ الفلسطيني عماد عبد الله الذي اختطف من منطقة زغرتا عام 1984 عندما كان يبلغ من العمر 20 عاماً، وتقول شقيقته سامية "رغم مرور كل تلك السنوات لم نفقد الأمل في العثور عليه".
وتضيف سامية بمرارة لموقع "الحرة"، "تعبنا من القصص التي تروى بعد فتح السجون السورية. ومع ذلك، فرحت وكأن عماد كان من بين الذين خرجوا للحرية، رغم أنني أعلم أنه ليس كذلك".
تستذكر سامية بحزن كيف رحل والداها وهما يتحسران على مصير ابنهما المجهول، وتضيف "أوصتنا والدتي وهي على فراش الموت ألا ننسى عماد وألا نتوقف عن البحث عنه"، تتوقف قليلاً لتستجمع كلماتها قبل أن تقول "حتى الطبخة التي كان يحبها كانت ترفض إعدادها إلى حين عودته".
وفق المعلومات المتوفرة لدى عائلة عبد الله، احتجز عماد بداية في فرع فلسطين، ثم نقل إلى سجن تدمر، وبعد ذلك إلى فرع المخابرات الجوية، حيث انقطعت أخباره تماماً، وتقول سامية "عام 2000، أُطلق سراح بعض المعتقلين اللبنانيين من السجون السورية، وتعرف أحدهم على شقيقي من خلال صورته المعلقة في خيمة أهالي المفقودين في السجون السورية، وسط بيروت، أخبرنا أنه كان معهم في سجن تدمر".
على الرغم من اعتصام أهالي المفقودين منذ سنوات طويلة في الخيمة، ورغم رفع الصوت، "لم تحرك السلطة اللبنانية ساكناً" وتوضح سامية "طرقنا أبواب عدد من السياسيين في لبنان بلا جدوى، حيث تلقينا وعوداً كثيرة بلا أي أفعال. شقيقي الثاني سافر إلى سوريا وعثر على اسم عماد في فرع فلسطين، لكن السلطات السورية أصرت أن الأمر مجرد تشابه أسماء. شقيقتي أيضاً ذهبت إلى سوريا، حينها طُلِب منها دفع 15 ألف دولار مقابل أن تراه من بعيد. رفض أشقائي دفع المبلغ دون إطلاق سراحه".
وعقب فتح السجون في سوريا، تواصل شقيق سامية مع السفارة الفلسطينية في لبنان، وتقول "أرسلنا صورة عماد ومعلومات عنه. إذا كان على قيد الحياة، فسيكون ذلك بفضل إرادة الله، إلا إذا كان نظام بشار الأسد قد قضى عليه".
دفن الأدلة؟
يؤكد رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان، وديع الأسمر، أن المركز، منذ تأسيسه في عام 1997، يولي قضية الإخفاء القسري اهتماماً كبيراً، خصوصاً اللبنانيين المخفيين قسراً في السجون السورية، ويوضح أن "هذه القضية تشمل ملفين رئيسيين: المخفيين قسراً خلال الحرب اللبنانية، الذين يقدّر عددهم بنحو 17,000 شخص، بينهم من يعتقد أن جثامينهم محتجزة لدى إسرائيل، بالإضافة إلى المخفيين قسراً في سوريا سواء قبل عام 2011 أو بعدها".
ويشير الأسمر في حديث لموقع "الحرة" إلى تعقيد الملف، حيث "لدينا حوالي 630 اسماً للبنانيين يعتقد ذووهم أنهم ما زالوا في السجون السورية، لكن المشكلة تكمن في أن أغلب هذه المعلومات غير موثقة رسمياً، حيث إن النظام السوري لم يتعامل مع قضية المخفيين قسراً بطريقة رسمية عبر وثائق مكتوبة، بل من خلال التصريحات الشفهية، مما يصعّب عملية التحقق".
وينتقد الأسمر أداء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً التي أُنشئت عام 2018، موضحاً أن "ولاية أول هيئة ستنتهي دون تحقيق أي عمل جدي في هذا الملف. الأسوأ من ذلك هو إقصاء العاملين على ملف المخفيين قسراً في السجون السورية من هذه الهيئة، التي شكّلت على أساس طائفي ووفق ولاءات حزبية"، ومع ذلك، يستثني الأسمر العضو في الهيئة، رئيسة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" وداد حلواني، من انتقاداته، قائلاً "حلواني تمنح الهيئة من رصيدها الشخصي، لكنها لا تأخذ منها شيئاً".
ويضيف "عندما سقط نظام الأسد، لم يكن هناك أي رد فعل جدّي من السلطة اللبنانية أو الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، حيث لم تتوجه أي جهة رسمية إلى الإدارة الانتقالية في سوريا للمطالبة بحماية الأرشيف والملفات أو للحصول على معلومات حول المخفيين قسراً، فما زلنا ندور في دوامة التهرب من مواجهة هذه القضية الوطنية والإنسانية".
من جانبه يشير مدير البرنامج القانوني لمركز سيدار للدراسات القانونية، والمدافع عن حقوق الإنسان، المحامي محمد صبلوح أن "الإدارة السورية الانتقالية تتعامل مع جميع المفقودين اللبنانيين الذين لم يظهروا بعد فتح السجون على أنهم قد فارقوا الحياة"، ويضيف "أنا الآن متواجد في سوريا، وقد زرت سجن صيدنايا وفرع فلسطين، فاكتشفت أن النظام السابق، قبيل رحيله، عمد إلى إحراق ملفات المعتقلين وتحويلها إلى رماد. أما في فرع المخابرات الجوية في المزة، فقد وضعت وزارة الإعلام السورية يدها على بعض الملفات، وهي تحتاج إلى وقت لفرز الأسماء التي تحتويها".
ويشدد صبلوح في حديث لموقع "الحرة"، على ضرورة العمل على تقصي الحقائق لمعرفة مصير المعتقلين اللبنانيين، قائلاً "يجب تحديد أماكن احتجاز المعتقلين، وأسباب موتهم، بالإضافة إلى تحديد هوية المتورطين بجرائم قتلهم لتقديمهم للعدالة أمام محكمة الجنايات الدولية وضمان عدم إفلاتهم من العقاب".
تقاعس أم تواطؤ؟
يتهم صبلوح الأجهزة الأمنية اللبنانية بالتواطؤ مع نظام الأسد في محاولات طمس مصير المعتقلين اللبنانيين، موضحاً أن "الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تكن مهتمة بقضيتهم إلا من خلال التصريحات الإعلامية، دون اتخاذ خطوات عملية على الأرض".
يبدو أن النظام السوري كان ينكر كما يقول صبلوح "وجود معتقلين لبنانيين في سجونه لأنه كان يقوم بتصفيتهم سريعاً. الأمر يتطلب تحقيقاً شاملاً وجدياً، وعلى الحكومة اللبنانية تحمل مسؤوليتها وطمأنة الأهالي بأنها ستكشف مصير أبنائهم وتحقق العدالة لهم".
أما أبو دهن فيقول "الحكومات اللبنانية المتعاقبة تجاهلت ملف المفقودين ولم تمنحه أي أولوية بسبب الهيمنة السورية على لبنان، فمعظم الحكومات اللبنانية عيّنها النظام السوري، حتى أن رئيس الجمهورية السابق لم يجرؤ على الاعتراف بوجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية".
من جانبه يرى الأسمر أن سبب تهرب الحكومات اللبنانية من معالجة الملف "يعود إلى مسؤولية بعض الشخصيات اللبنانية في السلطة الحالية الذين كانوا من أحزاب الحرب الأهلية، الذي سلموا أشخاصاً إلى النظام السوري، أو تورطوا في قتل أشخاص، ولتهربهم من المحاسبة تم إخبار عائلاتهم أنهم في سوريا، أو لابتزازهم مادياً، إذ تم دفع ملايين الدولارات للحصول على معلومات حول الأشخاص في سوريا".
لذلك يشدد الأسمر على أن "هناك محاولات لإلغاء جانب المحاسبة والعدالة في هذه القضية، وعدم تقديم إجابات لـ 17,000 عائلة لبنانية تطالب بمعرفة مصير أبنائها وملاحقة مرتكبي الجرائم الشنيعة".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|