الصحافة

بري "شمعون الشيعة": 40 عاماً نبيهاً!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

قيل إنّ لقاءهما الأوّل، كان في 31 تشرين الأوّل 1983 في جنيف.

خارج قاعة مؤتمر حوارنا الوطني الشهير، التقى النمر الشمعونيّ العتيق بالزعيم “الأمليّ” الشابّ. فبادره بالقول: “تبدو شخصيّاً بهيّ الطلعة أكثر بكثير من الصورة”. فأجابه الأستاذ نبيه في حينه: “الجمال في عين الناظر يا فخامة الرئيس”.

مذّاك قيل إنّه كميل شمعون الشيعة. شمعون الموارنة عاش في السياسة أكثر من أربعة عقود. “شمعون الشيعة” كسر رقمه القياسي. ويتحضّر للمزيد. فهو مثل كميل شمعون، سرُّه في احترافه البقاء حيّاً، عند احتدام مؤامرات السياسة وغدرها.

وها هو الآن أمام استحقاق آخر مماثل. وكلّ العيون عليه، حرصاً أو رهاناً أو احمراراً أو نيّة “لصيبة عين”.

                                *******************************

الذين رافقوا تعارف شمعون وبرّي قبل 40 سنة كاملة، يروون الحلقة الثانية من مسلسله.

كان ذلك بعد أشهر قليلة في الحلقة الثانية الموازية من حوارنا الوطني السويسري، في لوزان في آذار 1984.

جاء برّي يومها محمّلاً بانتصار 6 شباط الذي ظهر واضحاً في لهجته ونبرته ومواقفه ومداخلاته. وهو ما دفع الرئيس شمعون الى مخاطبته بالقول: “لقد بات يصحّ فيكم مضمون بيت الشعر القائل: خدعوها بقولهم حسناءُ”… ولم يُكمل شمعون عجز البيت. لكنّ الأستاذ نبيه أكمله له: “والغواني يغرّهن الثناءُ”، قبل أن يؤكّد لشمعون أنّ الثناء الوحيد الذي ناله ويغرّه، هو ما حقّقه في بيروت والضاحية الجنوبية وحيّ السلم في 6 شباط الشهير وما بعده.

ظنّ البعض أنّها انكسرت بين الشيخ والشابّ. لكن بعد أسابيع قليلة على هذه المنازلة الشعرية، صار الرجلان زميلين في حكومة رشيد كرامي الإنقاذية في أيار 1984. وكان بينهما تعاون وثيق طوال 3 سنوات قبل أن يرحل النمر، ويستمرّ النبيه في منازلاته ومصالحاته وعمليّات الإنقاذ.

المواجهة بصلابة والتعاون بسلاسة

هي سمة ثابتة في حياة الرجل السياسية. لازمته 40 عاماً. يواجه بصلابة ويتعاون بسلاسة كما في كلّ المحطّات التالية.

في أواخر الثمانينيات اندلع صراع عنيف بين برّي وما كان بدايات “الحزب”. قيل إنّه صراع بالواسطة بين دمشق الأسد وطهران الملالي. سال دم غزير. ووقع دمار كبير. وبين الاثنين، قال برّي عن نظام الملالي ما لم يبلغه فارس سعيد في أدبيّات مجلسه “لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان”.

مع ذلك، وبعد أشهر قليلة، كانت مصلحةٌ شيعية عامّة، رافقتها تبدّلاتٌ إيرانية داخلية، وتطوّرات إيرانية- سورية ثنائية، فرضت أن تنتهي فتنة الأخوة، وأن يتمّ الاتّفاق بين الثنائي الشيعي المحلّي، برعاية ثنائيّ المقاومة الإقليمي، في دمشق. فكان الأمر. وصادق برّي إيران و”الحزب”. وصدَق معهما، حتى مرّت الأعوام ودارت دورتها، فصار “السيّد” توأم روح النبيه حتى رحيله الذي “كسر ظهره”. وصار لزوّار الملالي في بيروت بعده، من عراقتشي وقاليباف ولاريجاني، عنوانٌ تنفيذيّ واحد، هو عنوان نبيه برّي.

محطّة أخرى شكّلت قطوعاً بقائيّاً للرجل.

كان ذلك في النصف الثاني من عام 2000. جلا احتلال إسرائيل عن أرضنا. ورحل حافظ الأسد. فأعلن “صخرة بكركي” صرخته لإنقاذ لبنان. استنفر نظام الوصاية ضدّه. لم يتأخّر وليد جنبلاط في الوقوف مع السياديّين، فتوتّرت الأجواء، وعادت لغة التهديدات الفاجرة تسيل من عنجر ومَن خلفها.

أحسّ برّي بخطورة الأمر، فقرّر التحرّك. فجأة صعد رئيس المجلس إلى بكركي، في 24 تشرين الثاني من عام 2000. كانت الزمرة السورية الحاكمة في لبنان تغلي ضدّ الصرح وسيّده على خلفيّة نداء استقلال 20 أيلول من ذلك العام. وقف برّي تحت شعار “مجد لبنان”، وأخرج ورقة صغيرة من جيبه. قرأ منها بنوداً أربعة لضرورات تسوية كبيرة لمصلحة لبنان وسوريا، ناصحاً، محذّراً وساعياً.

بعد يومين ردّت دمشق عليه، مؤكّدة أنّه يتحدّث باسمه الشخصي. فصام رئيس المجلس عن الكلام طويلاً.

لا كيمياء مع بشار

منذ تلك النكسة لم يستعِد برّي حظوته الدمشقية. قيل إنّ “الكيمياء” لم تمشِ مع زُمر بشّار، كما كانت مع الأسد الأب، في دمشق ولا في بيروت. ثمّة شيء تغيّر بين عين التينة ودمشق، خصوصاً بعدما تغيّر المقيم في عنجر، من أبي يعرب إلى أبي عبدو.

لاحت محطّة جديدة لبقاء برّي حيّاً بعد 4 أعوام. بدأت إرهاصاتها مع الانتخابات البلدية ربيع عام 2004. إذ بدأ الهمس حول المتغيّرات بين عين التينة وعنجر يتجسّد نكسات علنية في الضاحية والبقاع. خسائر متتالية للأمليّين أمام “الحزب”. ذات يوم من أيار 2004، قيل إنّ برّي رفع سمّاعة الهاتف وطلب غازي كنعان في دمشق، وخاطبه بما معناه: “قل للمعنيّين، إذا كان هناك قرار بضربي، فالأفضل والأشرف أن أستقيل”.

كان للمكالمة أثرها المزدوج، إيجاباً بتعديل موازين القوى في البلديات الجنوبية، وسلباً بانزعاج إضافي لرستم غزالة حيال تخطّي برّي لسلطته اللبنانية المطلقة. وهو ما لم يلبث أن تُرجم ملاحقة قضائية شرسة لنائب رئيس “الحركة” يومها، أيّوب حميّد من قبل “قضاء عنجر اللبناني”.

أحسّ بري باشتداد الحصار السوري ضدّه، فبادر إلى التحرّك في اتّجاه الحضن الشيعي: زيارتان متتاليتان إلى السيّد محمد حسين فضل الله صيف 2004، لقاءٌ شيعي بديلٌ مستحدث في صور، تحصين للعلاقة مع طهران وانتظار لكلمة دمشق الرئاسية ذلك الصيف بالذات.

في آب منه، تقاطر المعنيّون إلى قصر المهاجرين لسماع فرمان الإذعان: التمديد لاميل لحّود. جنبلاط رفض. رفيق الحريري تريّث. ثمّ مشى بعد مشوار فقرا ــ عنجر الشهير. أمّا برّي فبات ليلة في الشام، للمرّة الأولى منذ زمن طويل.

شهيرة جدّاً رواية مناقشة تلك الأزمة بين برّي ورفيق الحريري يومها.

سأله برّي: إذا أمروك بالتوقيع على التمديد للحّود، فماذا تفعل؟

أجابه الحريري: أوقّع ثمّ أنتحر.

فردّ برّي فوراً بفطنته اللمّاحة الرؤيويّة: “هنّي طالبين منك خدمة واحدة. ليش بدّك تعطيهن تنين”؟!

قبل أن تؤكّد الأحداث صحّة حدْس برّي. حصل التمديد. وقُتل رفيق الحريري بطنٍّ ونيّف من متفجّرات شقيقة أخويّة، جاهزة لكلّ صديق أو رفيق.

أيام ثقيلة سوداء

مضت الأيام بطيئة ثقيلة سوداء حمراء. صار جنبلاط في المعارضة الشرسة. وصار الحريري في العالم الآخر. وصار بشّار خارج لبنان شكليّاً. وظلّ نبيه برّي مرشّح الجميع لرئاسة المجلس.

عرف الرجل كيف يستوعب تداعيات الزلزال. وقف بين 8 آذار و14 منه. بين “فلول النظام الأمنيّ العنجريّ”، وبين “طلائع النظام الاستعماري الاستكباري الانتدابي الجديد”. وقف بين رستم غزالة الراحل وتييري رود لارسن القادم، حتى مرّر المرحلة، وزال القطوع.

بشار لم يغفر

قيل إنّ بشار الأسد لم ينسَ ولم يغفرْ له يومها تمريره حكومة نجيب ميقاتي الأولى سنة 2005 التي حقّقت الانتقال من زمن هيمنة سوريا إلى زمن ما بعدها، على الرغم من الدماء الغزيرة، من مروان حمادة إلى محمد شطح. وبين الاثنين عشراتٌ ممّن غسلوا وجهَ بيروت، ووجوه من تقنّعوا لحظة على حساب ألقها.

انقطعت بعدها زيارات برّي لدمشق. وإن ظلّ التواصل قائماً بالواسطة. فانعكس الأمر على مواقف عدّة واستحقاقات كثيرة، خصوصاً الرئاسية منها.

أصلاً، طوال صمود نبيه برّي 32 عاماً في رئاسة المجلس، لم يسمح له نظام البعث الأسدي مرّةً واحدة بالتحكّم في استحقاق رئاسة “محافطة لبنان”. أوّل موعد له كان سنة 1995. يومها فرض حافظ الأسد التمديد لالياس الهراوي بتصريح من طائرته فوق دمشق. الموعد الثاني لم يتأخّر سنة 1998، ففرض بشار الوريث، أثناء حياة والده، خيار إميل لحّود. كما فرض التمديد له بعد 6 أعوام كما سبق الذكر.

سنة 2007، سارع فريق سعد الحريري بعد 48 ساعة على شغور الرئاسة، إلى ترشيح ميشال سليمان. تأخّر الانتخاب من آخر أسبوع في تشرين الثاني 2007 حتى آخر أسبوع من أيار 2008. في هذه الفترة عادت الدماء لغة تخاطب وتفاوض. وقعت أحداث مار مخايل، ثمّ كارثة نهر البارد، وصولاً إلى مقتلة 7 أيار، قبل أن يقتنع الجميع بطريق الحلّ والدوحة و”أوّل الغيث قطر”.

تولّى برّي إخراجه بسلوك دستوري بامتياز. حرص رئيس المجلس على تدوينه في محضر جلسة الانتخاب في 25 أيار 2008: شغور الرئاسة يُسقط كلّ المهل. وانتخابُ قائد الجيش دستوري حتماً. ونقطة على سطر الأزمة.

كأس عهد ميشال عون

بعد سليمان عاد قطوع الرئاسة ليقضّ مضجع برّي. ظلّ 30 شهراً كاملة يحاول إقناع شريكه الأكبر، حسن نصرالله، بتجنّب كأس ميشال عون لتجنيب البلد عهد جبران باسيل. شرح للسيّد نظرية انتخاب رئيس لا رئيسين. أسهب في عرض “بدائع” باسيل في السياسة والإدارة والميثاق والوفاق.

لكنّ الوفاء كان حاسماً لدى السيّد. فكانت جلسة 31 تشرين الأوّل 2016. وكانت دورة اقتراع أولى وثانية وثالثة، بحجّة ورقة إضافية لاغية، كأنّها إشارة إلى ورقة “الرئيس الثاني” الظاهر المخفيّ، والمصاهر اللاغي لكلّ رئاسة واتّفاق. وكانت أسماء غريبة في صندوق الاقتراع، حتى ميريام كلينك نالت صوتاً.

قبل أن تنتهي المهزلة ويُنتخب الجنرال. ولم يلفظ برّي عبارة التقليد النيابي الدستوري: “إنّ الرئاسة تعلن انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية”. بل اكتفى بأن دعاه إلى القسم، وأنْ صحّح له أوّلَ خطأ لغوي في أوّل كلمة منه!!

القطوعات والاستحقاقات حاضرة

تحضر اليوم كلّ تلك الاستحقاقات والقطوعات والعقود في بال نبيه بري وواجبه.

ربّما الظرف أخطر من كلّ ما سبق. خسر السيّد، كما خسره كلّ لبنان، قبل 3 أشهر، وارتاح من بشّار، كما ارتاح منه لبنان وسوريا وأكثر منهما، قبل أسبوعين. فما العمل الآن؟

شريكه الأقدم والأوثق وليد جنبلاط صدَقه القول، كما دائماً. قال له بالكلمة والخطوة، فلنذهب معاً كما دوماً إلى لبنان جديد وإلى سوريا جديدة، من أجل شعبنا وبلدنا وناسنا ومن أجل التاريخ.

وليد، ابن كمال جنبلاط، ووريث دمه المسفوك بأيدي نظام الأسد.

كمال جنبلاط هو من أنقذ لبنان من عهد “السلطان سليم”، بالتفاهم مع كميل شمعون سنة 1952.

نبيه برّي، قيل إنّه “شمعون الشيعة”. وعليه اليوم مهمّة إنقاذ لبنان من سلاطين كثر، ومسؤولية الانتقال من الماضي إلى المستقبل.

وهو لذلك شخصية لبنان سنة 2024.

فهل يكون من ينقذه مطلع السنة المقبلة؟!

جان عزيز -اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا