الصحافة

خسائر "الإبادة البيئيّة"... ماذا عن الردم العشوائي؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في وقت كان لبنان يتعرض لخسائر بيئية فادحة جراء العدوان الإسرائيلي، قدرت كلفتها بـ 214 مليون دولار وفق دراسة للبنك الدولي، لم تكن السلطة الحاكمة بسياساتها أقل رحمة من العدو، فسياسات الهدر في وزارة الطاقة وتكريس مافيا المولدات وانبعاثاتها، التي رفعت نسبة السرطان في بيروت وحدها 30  في المئة، لا تقل ضرراً عن تلوث المياه والتربة اليوم جراء العدوان الإسرائيلي. والخشية من أن تكون هذه السياسات "مكملة" في ملف معالجة ردميات الحرب، وليس آخرها الإصرار على توسيع مطمر الكوستابرافا وسط غياب استراتيجية موحدة لمعالجة الملف.

"إبادة بيئية" أو Ecocide، هذا التوصيف الذي أطلقه تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية CNRS، لوصف أضرار القطاع البيئي في لبنان، مبيّنا أن "العدو الإسرائيلي عمد إلى جرائم بيئية وتحويل جنوب لبنان إلى محيط حيوي حربي بغية تعطيل الحياة فيه".

بالتوازي، الحياة شبه معطلة في المناطق التي تنتظر إعادة الإعمار، مع تحويل اعتمادات مالية إلى الجهات المكلفة بتنظيم عملية رفع آثار الحرب وفق المناطق، أي اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، ومجلس الجنوب والهيئة العليا للاغاثة، بهدف إجراء تلزيمي مسح وإزالة الردم، وفقا لدفتري شروط أحدهما رضائي، تزداد مخاوف تقديم سياسات الفساد على حساب الأثر البيئي.

فماذا عن أبرز خسائر القطاع البيئي خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان؟ وكيف ساهمت سياسات المنظومة الحاكمة لأعوامٍ في تهديد البيئة إلى جانب العدوان الإسرائيلي؟ وما ضمانات مراعاة طرق إعادة الإعمار ومعالجة الردم للأثر البيئي؟ سيما وأن لوبي الكسارات والمرامل يدعم طمر الردم في البحر، وهو نفسه اللوبي الذي كلف البيئة في لبنان أثماناً باهظة ويسعى للمزيد!

جرائم بيئية وخسائر بالملايين
خلص المجلس الوطنيّ للبحوث العلمية، في تقريره "الموجز" عن العدوان الإسرائيلي والأضرار القطاعية، المنشور حديثاً، إلى أن "العدو الإسرائيلي عمد إلى جرائم بيئية عبر إحراق أكثر من ألفي هكتار من الأراضي من ضمنها ما يزيد عن 1200 هكتار من الأحراج والغابات، وإلى الإمعان في تدمير النظم الأيكولوجية والإخلال بالتنوع الحيوي في جنوب لبنان الذي حوله العدو الاسرائيلي إلى محيط حيوي حربي biosphere of war بغية تعطيل الحياة فيه".

وكانت الحصة الأكبر من القنابل الفوسفورية المحرمة دولياً، لقضاء مرجعيون، يليه قضاء بنت جبيل. ولضرب إسرائيل لبنان بالفوسفور الأبيض، ضرر بيئي واسع النطاق وطويل الأمد، يؤدي لإشباع التربة بمواد ملوثة تتسبب بتدهور صحة التربة.

وكانت دراسة سابقة للبنك الدولي تناولت القطاعات اللبنانية المتضررة من الحرب، متوقعة أن يؤدي انخفاض كفاءة الأنظمة البيئية إلى تعطيل عمليات تنقية المياه وجودة الهواء وخصوبة التربة، ومقدرة أضرار القطاع البيئي حتى تاريخ 27 أيلول الماضي، بـ221 مليون دولار، في حين قدرت خسائر القطاع على مدى 12 شهرا بـ 214 مليون دولار أميركي.

سرطان دفين تحت الركام
رئيس قسم الكيمياء في جامعة القديس يوسف، والخبير في تلوث الهواء الدكتور شربل عفيف، يحذر من جهته من أنّ أضرار "غبار الحرب" الذي كان ينبعث بعد كل غارة، لم تنته في حينه، فمخاطرها ذات أمد متوسط كون جزء منها تتشربه التربة والمياه، وقد يتجدد انبعاثها من جديد في الهواء في حال لم تتم إزالة ردم الحرب بطريقة صديقة للبيئة.

وانبعاثات الهواء بعد القصف الأساسية، هي أكاسيد النيتروجين والجزيئيات الدقيقة، أي "الغبار"، وهو يحوي معادن ثقيلة وديوكسين. وهناك قسم من الغبار الذي انتشر في الهواء بعد القصف، ضمن مسافة 5-7 كيلومترات من أماكن الغارات، لكن جزءاً من ذلك الغبار تشربته الأرض.

فالمطر أخذ الغبار إلى المياه الجوفية والتربة وصولاً للمزروعات. أي عملياً، انتقل تلوث الهواء إلى التربة والمياه والدواجن، وتكمن الخطورة، بشراء الناس المحاصيل التي رُويت بها، أو لحوم الماشية التي تعرضت لها، ليصبح التلوث والضرر واسعي النطاق ويطالا كل لبنان، في حين أن حجمهما مجهول بانتظار المزيد من الدراسات.

ليس هذا وحسب، فعملية إزالة الردميات والحطام، قد تحمل معها مصادر جديدة للتلوث، إن لم تتبع إجراءات محددة، صديقة للبيئة، وإلا نكون نشرناها بين الناس من جديد، لتسبب أعراضاً شبيهة بالرياح الخماسينية، كضيق التنفس.

وعن الأمراض التي يخشى من أن يسببها الضرر البيئي في الحرب، يلفت إلى أن الصواريخ التي ضربتها إسرائيل فيها معادن ثقيلة، ومواد عضوية، ومن المرجح على المدى البعيد أن ترفع من نسبة خطر الإصابة بالسرطان، فآثارها تماماً كانبعاثات مولدات الكهرباء، تستغرق سنوات لتظهر.

سياسات المنظومة "القاتلة"
وكانت النائبة نجاة صليبا أعلنت منذ أشهر، عن نتائج الدراسة التي قامت بها في الجامعة الأميركية، حول تلوُّث الهواء الناتج عن مولدات الديزل في بيروت، والتي كشفت ارتفاع الإصابات بالسرطان بنسبة تصل إلى 30 في المئة في منطقة بيروت وحدها وتلوث الهواء فيها بنسبة 50 في المئة. وتثبت الدراسة بالأرقام أن سياسات المنظومة القاتلة، تنافس العدو الإسرائيلي بإيذاء صحة اللبنانيين وبيئتهم.

وعن خشية تكرار تلك السياسات في ملف إزالة الردم، الذي سبق أن عولج بشكل عشوائي مضر ّ بالبيئة بعد الحروب السابقة، تعلق صليبا بالقول إنّ "سياسات المنظومة فتكت بالبيئة بكل الطرق المتاحة بدون مراعاة للقوانين وهذه الحال في ملف الردميات".

فقانون الهواء رقم 78/2018 وقانون البيئة رقم 444/2002 وقانون المياه رقم 192/2020، كلها غير مطبقة كما يجب اليوم، ولن نسمح بالتحايل على القوانين في ملفّ إعادة الإعمار بعد الحرب ومعالجة الردم وكيفية التخلص منه، لا سيما وأن معالجة الردم بطمر البحر كما يتم الترويج له، إنما هو خيار على حساب الإنسان والطبيعة، وعلى حساب جبالنا، تمهيداً لتنشيط عمل الكسارات.

من هنا - تقول صليبا - "تقدمنا بكتاب لرئيس الوزراء نجيب ميقاتي، لنضع الحكومة أمام مسؤوليتها أمام الرأي العام اللبناني والمجتمع الدوليّ، وقد قدمنا الكتاب للبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والجهات الدولية المحتمل أن تلعب دوراً في إعادة الإعمار، بهدف مراعاة المقاربة البيئية، كشرط أساسي لتنفيذ الإعمار وإزالة الردم، ونحن بصدد تحركات أكبر في هذا الملفّ".

غياب الاستراتيجية الموحدة
وفي موضوع تلزيمي "مسح أضرار الحرب"، و"تلزيم أعمال الهدم والإزالة للمباني المهدمة كليا أو جزئيا جراء العدوان الإسرائيلي" اللذان أعلن عنهما وزير الأشغال علي حمية، تعبّر صليبا عن مخاوف وتساؤلات مشروعة، سيما أن اتفاق المسح رضائي، وكان يجب أن يحصل وفق مناقصة شفافة، عدا عن عدم الأخذ بتوصيات وزارة البيئة وتوصيات كتابنا لميقاتي، حيث تحججوا في لجنة الأشغال النيابية بوعدنا بإنجاز "ملحق بيئي" يلحقونه بدفتر الشروط في تلزيم أعمال الهدم.

وعن دراسات الأثر البيئي التي ستجريها الشركات الملزمة، تعلق "إنّ أحادية الإستشاري (شركة خطيب وعلمي)، إضافة إلى أن كل جهة بدورها (إتحاد بلديات الضاحية، هيئة الإغاثة ومجلس الجنوب) ستلزم شركات خاصة مغايرة عن الجهة الأخرى، يجعلنا نسأل عن غياب استراتيجية موحدة في معالجة هذا الملف".

لتطبيق القانون الآن!
يطلب الكتاب المقدم من صليبا لرئيس الوزراء، تطبيق القوانين الوطنية المتعلقة بحماية البيئة، والإتفاقيات الدولية في إعادة الإعمار عبر: منع التخلص من مخلفات الهدميات عبر ردم الأملاك العامة البحرية أو تكديسها عشوائياً في الجبال والوديان، ووضع آلية فرز وإعادة تدوير مخلفات الهدميات لتحويلها إلى مواد قابلة للاستخدام في إعادة البناء.

وفي موضوع إعادة الإعمار، يطلب الكتاب منح إعفاءات جمركية على استيراد الإسمنت والكلينكر وغيرها من المواد ذات الصلة لمدة سنة وتخفيض الإعتماد على استخراج المواد الخام محلياً، إضافة لعدم السماح لمعامل الإسمنت بالعمل قبل تسديدها مترتباتها البيئية المستحقة والتحقق من التزامها بالشروط البيئية والخطة البيئية وضمان تشغيل المقالع بشكل منظم.

"التعافي الأخضر"
الحسم في كيفية معالجة الردم، من المفترض أن يحصل بعد إجراء دراسة أثر بيئي، تجريه الشركات التي يقع عليها التلزيم، على أن يدقق الإستشاري "خطيب وعلمي"، في مدى مطابقتها للدفتر الفني واحترام الضوابط والضمانات البيئية التي وضعتها وزارة البيئة في دفاتر الشروط.

لكن الخوف يبقى من أن يتحول تلزيم أعمال الهدم وإزالة المباني المهدمة جزئياً أو كلياً، هو أيضا "رضائياً"، أسوة بتلزيم "مسح الأضرار" الرضائي، أو تشوب تلزيم الأعمال شبهات فساد، سيما مع تاريخ الجهات المنظمة الطويل (أقله هيئة الإغاثة ومجلس الجنوب)، بعدم شفافية صرف المساعدات التي تصرف من قبلهما.

من جهته، يوضح وزير البيئة ناصر ياسين، أنّنا وضعنا تعديلات الدفتر الفني، لجهة احترام الضوابط البيئية. واقتراحنا الأساسي لمعالجة الردم بعد الفرز، كان تأهيل المقالع، لتعود غابات صالحة، ولدينا تجربة ناجحة لمقلعين أعدنا تأهيلهما في عكار بالتعاون مع الـUNDP العام الماضي".

مع ذلك، يذهب إتحاد بلديات الضاحية إلى توسيع مطمر الكوستابرافا، بحجة عدم وجود مساحات خالية في الضاحية، وارتفاع كلفة نقل الردم لمسافات بعيدة. في السياق يلفت ياسين إلى أننا "نجحنا أقله في ضمان عدم طمر شاطئ الأوزاعي، عدا عن إمكانية طمر ولو جزء من ردم الضاحية في مقالع وليس كله في البحر".

وكان البنك الدولي قد أعلن عن رصد 250 مليون دولار لرفع آثار الحرب في لبنان، مشدداً على "احترام كل الضوابط البيئية" خلال هذه العملية، وهو ما يسهل برأي ياسين، "من أخذ الضوابط التي وضعتها وزارة البيئة في دفتري الشروط، بالاعتبار لدى أي تلزيم" موضحاً "أننا بالتوازي، نعمل مع البنك الدولي على استراتيجية "التعافي الأخضر"، وهو إعادة بناء القطاعات المتضررة على مبادئ الإستدامة".

خسارة اقتصادية وبيئية
المهندس البيئي والصناعي زياد أبي شاكر، يلفت إلى أن سلبيات الطمر العشوائي لا تقتصر على البيئة بل تتخطاها للاقتصاد أيضا.

"فطمر الردم "كما هو" في البحر دون فرز، يجعلنا نخسر فرصة إعادة استعمال مواد البناء الموجودة فيه، لإعادة ترميم الطرقات والأرصفة وحجر الأرصفة، وكذلك إعادة إعمار جزء من المباني السكنية، عدا عن أننا بذلك نعطي الحجة لعمل الكسارات والمرامل ودوماً على حساب البيئة".

ويلفت أبي شاكر إلى "أن ردم الضاحية والمناطق المستهدفة الأخرى، يتميز بأنه على عكس ردم انفجار 4 آب، يحوي مواد بناء بشكل يتخطى الـ90 في المئة، ويمكن الاستفادة منه بشكل شبه كامل إن أعيد فرزه وتدويره وطحن المواد لتصبح قابلة للاستخدام، مع إزالة المواد غير القابلة للتدوير والاستعمال في البناء كالبلاستيك. فالردم بشكل أساسي، يتألف من قسمين أساسيين: الباطون المصبوب، وعواميد الأسقف (والتي يستخرج منها الحديد عبر Jack Hammer، علماً أن طن الحديد الواحد يصل إلى 400 دولار)، والقسم الثاني هو مواد الجدران (حجر طوب مورق)، وجميعها مواد أولية قابلة لإعادة الاستعمال".

وتعليقا على إعادة إحياء لوبي الكسارات على حساب الأثر البيئي لمعالجة ردم الحرب، يسأل "لماذا يمنع استيراد الترابة بينما سعره المحلي أكثر بـ3 أضعاف من المستورد؟"، مشدداً على ضرورة الاستفادة من الردم في عملية البناء عوض تنشيط عمل الكسارات.
"الرحمة بما بقي من جبال وصحة أهل الكورة"، يقول أبي شاكر، لافتاً إلى أنه "إذا كانت حجة المعنيين هي العجلة في التنفيذ، وخطتهم تنفذ في شهرين، فإن الفرز لا يستغرق أكثر من 6 أشهر، والمنفعة المالية أكبر بكثير، عدا عن أننا نكون قد حمينا البيئة من الكسارات ومن طمر البحر بمواد اسمنتية على بقعة بحرية تعج بالحياة والمكونات البيولوجية".

الأثر البيئي: أولاً!
يوجب قانون حماية البيئة، اعتماد دراسة الأثر البيئي لكل مشروع يؤثر على البيئة عامة، ولا سيما على حياة السكان. فألا يستحق ردم آلاف الأطنان من الردميات في البحر عبر توسيع مطمر الكوستابرافا دراسة أثر بيئي نزيهة؟ وألا يستحق الملف كذلك "دراسة جدوى" اقتصادية تعود بالفائدة على الدولة اللبنانية لا مافيا الكسارات والمقالع والمرامل التي تدين للدولة بمبلغ 2.4 مليار دولار عن الكميات المستخرجة بين 2007 و2018 وفق دراسة سابقة لوزارة البيئة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؟

كان لبنان قد تقدم سابقاً بشكوى لمجلس الأمن الدولي لإدانة استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في حربها ضد لبنان. والسؤال اليوم: من يتقدم بدعوى ضدّ سياسات المنظومة ومافيات أحزابها غير الصديقة للبيئة؟ التي تبدأ بتكريس مافيا المولدات وانبعاثاتها، ولا تنتهي بلوبي ردم البحر، أو بتسمية أدق، مافيا المقالع والكسارات والمرامل، ولا ننسى دويلات حروب "المساندة" على حساب السيادة اللبنانية والبيئة وصحة اللبنانيين؟

 فتات عياد -"نداء الوطن"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا