إقتصاد

إعادة هيكلة المصارف: مسودّة حكوميّة جديدة هذه محاذيرها

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كحكاية إبرايق الزيت، يدور مشروع إعادة هيكلة المصارف في دوّامة مفرغة منذ سنوات. كلّما طرحت مسودّة لمشروع القانون على طاولة مجلس الوزراء، تُرمى في وجهها الملاحظات والتساؤلات، ليُسحب الملف مجددًا إلى اللجان الاستشاريّة، ويبتعد عن الأضواء. المصالح المحيطة بهذا المسار معقّدة ومتشعّبة، وخصوصًا تلك التي ترتبط بـ "كبار القوم"، من حملة أسهم المصارف والممسكين بقرارها. وحساسيّة المسار مفهومة أيضًا، لاتصالها بمصير الودائع العالقة في النظام المصرفي، والقيمة التي سيتم ضمانها من هذه الأموال. لا عجب هنا، وسط تضارب المصالح والحساسيّات، وضعف القيادة السياسيّة وعدم وجود مشروع متكامل للحل، أن تكون المراوحة سيّدة الموقف.
تعود مسودّة المشروع إلى طاولة الحكومة اليوم، بعدما تم تنقيحها مرارًا وتكرارًا. عدم تفاعل الرأي العام مع طرح كبير وحسّاس بهذا الحجم، قد يكون مفهومًا الآن، بعدما ملّ الجميع من إعادة مناقشة المسودّات السابقة، التي لم يتم التعامل معها بجديّة في الحكومة سابقًا. ومع ذلك، يبقى من الضرورة تتبّع التحديثات التي يجري "إقحامها" على كل مسودّة جديدة، كونها تعكس الاتجاه العام للمعالجات المصرفيّة المتوقّعة في المستقبل. فنقاشات اللجان الاستشاريّة بعيدة عن أعين أصحاب المصلحة، وخصوصًا غير النافذين منهم، كحال المودعين. وتتبّع هذه المسودّات يبقى الطريقة الوحيدة لفهم العقليّة التي توجّه حاليًا أصحاب القرار، بمعزل عن مدى جديّة النقاش الذي سيجري داخل الحكومة اليوم.

الودائع المحميّة: المؤهّلة وغير المؤهّلة
قبل الشروع في تفنيد مضمون المسودّة الجديدة، من المهم الأشارة إلى أنّ نطاق هذا التشريع أكبر بكثير من أن يتم اختزاله في الجانب المتعلّق بتصنيف الودائع وحمايته. بل إنّ الجانب الأكثر حساسيّة وأهميّة في هذا القانون، يرتبط بخارطة الطريق التي يطرحها لتقييم موجودات المصارف وتصنيفها، ومن ثم تصفية بعضها أو إعادة هيكلة بعضها الآخر. وفي الدرجة الثانية، هناك الجانب المتعلّق بكيفيّة تصفية خسائر مصرف لبنان، وإعادة تقويم ميزانيّته. وهذا ما يجعل مسألة الودائع وتصنيفها خلاصة أخيرة لكل ما سبق، لا مجرّد مقدّمات أو أهداف يقتضي السعي للوصول إليها. وهذا بالتحديد ما يلحظه ترتيب مواد المسودّة نفسها، التي تجمع ما بين كل هذه المسارات المعقّدة.

ومع ذلك، يبقى الجانب المتعلّق بمصير الودائع المسألة الأكثر إثارة لاهتمام الرأي العام، كونها النتيجة الأهم التي ينتظرها المودعون، بعيدًا عن تعقيدات عمليّة إعادة الهيكلة نفسها. وعلى هذا الأساس، قد يكون من المفيد البدء بمناقشة هذا الجانب من المشروع.

"المبالغ المحميّة" التي يتحدّث عنها المشروع، ترتبط بمصير الودائع لدى المصارف "الخاضعة لإعادة الهيكلة"، أي تلك التي ستستمر بالعمل بعد معالجة أوضاعها، بخلاف وضع المصارف الخاضعة لعمليّة تصفية. والمشروع، كحال المسودّة السابقة، فرز الودائع ما بين مؤهّلة وغير مؤهّلة، وفق تصنيف يقترب من تصنيفات تعميمي مصرف لبنان رقم 158 و166. الوديعة المؤهّلة هي تلك الموجودة في الحسابات المصرفيّة منذ ما قبل 17 تشرين الأوّل 2019، على أن يُنزّل من قيمتها كل ما سحبه العميل من هذه الوديعة بالعملات الأجنبيّة وفق تعاميم مصرف لبنان، بالإضافة إلى التحويلات إلى الخارج والقروض المدولرة التي جرى سدادها بالليرة اللبنانيّة. وكل ما سوى ذلك، هو في عداد الودائع غير المؤهّلة.

يُحمى من الوديعة المؤهّلة مبلغًا يصل إلى حدود الـ 100 ألف دولار، بينما تقتصر الحماية على 36 ألف دولار فقط للودائع غير المؤهّلة. ويتقاسم مصرف لبنان من احتياطاته، مع المصارف التجاريّة، كلفة هذه الحماية بالتساوي. أمّا سداد هذه الودائع للودائع المؤهّلة، فيكون بالدولار النقدي، وخلال فترة تتراوح بين 11 و15 سنة، وبدفعات شهريّة لا تقل عن 400 دولار. في المقابل، سيتم تسديد المبلغ المحمي من الودائع غير المؤهّلة خلال فترة مماثلة، إنما بدفعات شهريّة توازي 200 دولار أميركي، مع إمكانيّة سداد ربع المبلغ بالليرة بحسب سعر صرف المنصّة (أو السعر المعتمد من مصرف لبنان).

هذا الجانب من مسودّة مشروع القانون، يجعلها أقرب إلى أسلوب "التصفية المتدرّجة" للودائع القديمة، وهو ما كان محط العديد من الانتقادات التي جرى توجيهها إلى المسودّات السابقة. بحسب تلك الانتقادات المحقّة، سيبقى النظام المصرفي –وفق هذا السيناريو- محكومًا بازدواجيّة الودائع "الجديدة" و"القديمة"، لفترة زمنيّة طويلة، بدل اعتماد أدوات تعالج الخسائر القائمة أولًا، وتسمح بتحويل الودائع المحميّة إلى أموال حرّة من أي قيود، تمامًا كحال الودائع "الفريش". تطبيع ازدواجيّة الودائع، كما هو الحال الآن بحسب تعاميم مصرف لبنان، سيعني الإبقاء على وضعيّة القطاع المتعثّر على المدى الطويل.

المبالغ غير المحميّة: ليلرة وسندات وصندوق...و"فنون" أخرى
ما يتجاوز المبلغ المحمي، من الودائع المؤهّلة وغير المؤهّلة، سيتم التعامل معه بأدوات متعدّدة. وبعض هذه الأدوات، يبتعد بوضوح عن الواقعيّة. أو بلغة أوضح، تم تصميم بعض هذه الأدوات كـ "مقبرة" للودائع التي سيصعب سدادها في المستقبل.

بإمكان أصحاب الودائع التي تقل قيمتها عن 500 ألف دولار اللجوء إلى خيار "الليلرة"، أي تحول الوديعة من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانيّة. لكنّ لإجراء التحويل، سيتم اعتماد سعر صرف يوازي 50% من سعر الصرف الفعلي، بالنسبة للودائع المؤهّلة، على أن تنخفض النسبة إلى 40% بالنسبة للودائع غير المؤهّلة. وفي المقابل، يمكن لكبار المودعين اللجوء إلى خيار تحويل أموالهم إلى أدوات رأسماليّة داخل المصرف، أي إلى أسهم وسندات مرؤوسة، إنما بعد تطبيق اقتطاعات تتراوح قيمتها بين 80% و90% من قيمة الوديعة (بحسب نوع التحويل).

تطرح المسودّة خيارات أخرى، مثل تحويل قيمة بعض الودائع إلى سندات صفريّة (لا تنتج فوائد)، مربوطة باستثمارات خارجيّة، على أن تستحق السندات بعد 20 سنة بالنسبة للودائع المؤهّلة و30 سنة بالنسبة للودائع غير المؤهّلة. ومن المتفرض أن تسدد المصارف نصف كلفة هذه الخيار، على أن يتحمّل مصرف لبنان من احتياطاته النصف الآخر. غير أنّ هذا الخيار يحمّل الدولة اللبنانيّة كلفة تسديد هذه القيمة لمصرف لبنان لاحقًا، خلال فترة تقارب الـ 10 سنوات.

وفي المسودّة، يحتفظ المودع بخيار تحويل أمواله إلى سندات "قابلة للتداول" في "صندوق استرداد الودائع"، وفق شروط سيتم تحديدها لاحقًا بمرسوم يقترحه وزير الماليّة. آليّة عمل الصندوق ظلّت غامضة وغريبة جدًا، كما وردت في المسودّة. غير أن المسودّة تحدّثت عن إمكانيّة تمويل الدولة للصندوق من إيراداتها المستقبليّة، بعد تحقيق شروط ضبابيّة وغير محدّدة بدقّة، مثل "وصول الدين العام إلى أقل من المستوى المستهدف" (ما هو المستوى المستهدف؟)، وتجاوز الإيرادات الحكوميّة معايير محددة مقارنة بدول مشابهة (أي دول؟)، أو المحافظة على النفقات الاجتماعيّة.

وبطبيعة الحال، نصّت المسودّة على إمكانيّة تمويل عمليّة استرداد الودائع من مصادر أخرى مثل إيرادات الأموال غير المشروعة. وفي جميع الحالات، تراهن المسودّة على إصدار صندوق "استرداد الودائع" أوراقًا ماليّة يمكن منحها للمودعين، كلّ بنسبة مساهمته في الصندوق، على أن تكون هذه السندات "قابلة للتداول" في السوق.

تصفية المصارف أو إصلاح أوضاعها
كل ما سبق ذكره من خيارات للمودعين، سيرتبط كما أشرنا بالمصارف التي ستخضع لإعادة الهيكلة، أي تلك التي سيتم إصلاح أوضاعها بعد إعادة رسملتها. بخلاف ذلك، ثمّة مصارف ستخضع لعمليّة تصفية، إذا لم تتمكّن من الخضوع لعمليّة إعادة الهيكلة وإعادة الرسملة. وفي هذه الحالة، سيحصل المودع على حصّته من الموجودات المتبقية في المصرف، وفق قواعد التصفية لاحقًا. أمّا القيمة التي ستتم حمايتها من وديعته، فستقتصر على نحو 100 ألف دولار أميركي، على أن تتولّى مؤسسة ضمان الودائع تغطية هذا المبلغ في حال عدم تغطيته بشكل كامل من "المبلغ الذي استحصل عليه المودع من ناتج عمليّة التصفية".

من هي المصارف التي ستخضع لعمليّة التصفية؟ هذا ما يخضع لصلاحيّات "الهيئة المختصّة بإعادة الهيكلة"، التي ستتشكّل من الحاكم ونوّابه الأربعة وثلاثة خبراء يعيّنون في مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح الحاكم ونوابه. وتستطرد المسوّدة في قسم كامل في تحديد موجبات أعضاء الهيئة، وصلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف في سياق عمليّة تخمين موجودات كل مصرف، بالإضافة إلى المعايير التي ستعتمدها اللجنة عند تقييمها إمكانيّة إخفاق المصرف في عمليّة إعادة الهيكلة. كما تطرح المسودّة المبادئ العامّة التي يمكن اعتمادها في إطار عمليّة إعادة هيكلة أي مصرف، للحؤول دون تصفيته.

تبقى إشكاليّة المسودّة الراهنة طرحها خريطة طريق لعمليّة إعادة هيكلة القطاع، ومعالجة أزمة الودائع، من دون توفّر تدقيق مفصّل في موجودات المصارف الكبرى في القطاع. إذ بغياب هذا التدقيق، لا يوجد تقدير واقعي لنسبة المصارف القادرة على إتمام عمليّة إعادة الهيكلة، وفق تصوّرات الذين أعدّوا المسودّة المطروحة اليوم. كما يصعب تقدير عدد أو حجم المصارف التي ستذهب باتجاه التصفية، والتي لن تتمكن من البقاء وتقسيط الودائع وفق النموذج المقترح. هذا التدقيق، كان يفترض إتمامه بحسب مندرجات الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، الموقّع منذ 2022.  

علي نور الدين - المدن
 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا