الصحافة

دويلة المولّدات: سرطان وحرائق متنقلة.. و"بيروت" تدفع الثمن

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

العام 2021، حريق مولّد كهرباء في الأشرفية، وحريق مولد في مار الياس. العام 2022، حريق مولد في أحد فنادق بيروت. العام 2023، حريق مولد في زقاق البلاط. العام 2024، حريق مولد في شارع الحمرا، الذي بدت مشاهده المروعة مع سقوط شخص من شرفة المبنى المحاصر بالنيران وهروب آخرين من الطوابق المرتفعة عبر سلالم فرق الدفاع المدني وفوج إطفاء بيروت، واحتراق عشرات السيارات، كأنها جزء من مشاهد الحرب الإسرائيلية على لبنان. لكنها لم تكن سوى نتيجة سياسات وزارة الطاقة الفاسدة للكهرباء، وتكريس مافيا المولدات، التي لم تعد تهدد البيئة وصحة اللبنانيين، مع ارتفاع نسبة السرطان 30 في المئة في بيروت وحدها جراء انبعاثات الديزل، بل إنها تهدد السلامة العامة، لتصبح أشبه بقنابل موقوتة قابلة في أي لحظة للانفجار.

غزت مافيا المولدات المناطق اللبنانية بعد الحرب الأهلية، ونجت العاصمة بيروت، نواة الدولة المركزية من التقنين لقرابة عقدين من الزمن. هذه "الحظوة"، ستأتي سياسات وزير الطاقة السابق جبران باسيل ووزراء التيار الوطني الحر من بعده، لتسلبها إياها، بدءاً من ثلاث ساعات تقنين في اليوم، وصولاً إلى 3 ساعات كهرباء في اليوم، وأكثر من 20 ساعة تقنين بعد الانهيار الإقتصادي. "دويلة" المولدات الخاصة ومولدات الاشتراك "الطارئة" على المدينة، مع عدد مهول اقترب من 10 آلاف مولد، كانت كأي "دويلة" أمراً واقعاً خارجة على القانون، فتمردت على وضع العدادات، واستيفاء الشروط البيئية وشروط السلامة العامة. بمعنى آخر، فإن مولد الحمرا المحترق لم يكن الوحيد الموجود في موقف سيارات، ضارباً بعرض الحائط كل معايير السلامة العامة.

أتى تعميم محافظ بيروت مروان عبود في تشرين الثاني الماضي، كاستجابة متأخرة بعد وقوع المصيبة، ليمنع وجود المولدات في مواقف السيارات والأماكن العامة تفادياً للحرائق وخسائر الأرواح. وبعدها بأيام من التعميم، ختمت بلدية بيروت مستودعاً حديدياً ومولداً كهربائيا وتوابعه بالشمع الأحمر في منطقة المزرعة. لكن، ماذا هي فاعلة مع مافيا المولدات المعروفين بـ"الزعران" في بعض أحياء بيروت؟ وماذا تكشف مصادر تابعت تحقيقات حريق الحمرا لـ"نداء الوطن" عن أسباب ذلك الحريق؟ وكيف تحولت العاصمة من "المحظية" في الكهرباء إلى "المعاقَبة" تحت رحمة دويلة المولدات؟

تحقيقات حريق الحمرا... ليس وحده!

ملف التّحقيق بحريق الحمرا اليوم في عهدة النيابة العامة في بيروت. وبانتظار أن يقول القضاء كلمته، كان لا بدّ من التوقف عند أسباب الحريق، التي تكشف بأن الاستهتار بأرواح اللبنانيين، ليس وليد حادثة عابرة.

وتكشف مصادر تابعت التحقيق بحريق الحمرا على الأرض "أنّ أسباب الحريق كانت عدة عوامل متداخلة. فتوصيلات الكهرباء للمولد لم تكن بعيدة عن خزانات المازوت ما سهل الإحتكاك الكهربائي بينها، وهو سبب الحريق الرئيسي، الناجم بدوره ليس عن المسافة القريبة بين التوصيلات وخزانات المازوت وحسب، بل كذلك عن نوع التوصيلات الـPlexi وكون خزانات المازوت من نوع البلاستيك، في حين كان من المفترض أن تكون الخزانات من مادة الحديد العازل لو كانت تراعي أبسط معايير السلامة العامة".


مخالفات شروط تلافي الحرائق، كانت بالجملة. فبعد وقوع الاحتكاك الكهربائي، واشتعال النيران وبدء الحريق، "كانت خزانات المازوت موضوعة أيضاً قرب خزاني مياه. وصل الحريق للخزانين، فانصهر المازوت بالمياه". وبما أن مادة المازوت أخف من المياه، "حملت المياه مادة المازوت فوقها، ما أدى إلى امتداد الحريق ووصوله إلى موقف السيارات وتهديد البناء السكني المجاور للموقف".

وجود المولد ضمن موقف سيارات، ليس تفصيلاً، وهو مناف لشروط السلامة العامة وتراخيص مواقف السيارات. في السياق، تعلق المصادر "لا شيء في لبنان مطابقاً لشروط السلامة العامة، وليس الجمع بين الموقف والمولد غير مطابق وخطير فقط، بل إن موقف السيارات نفسه لم يكن يتبع إجراءات السلامة العامة لناحية غياب سياسات الإنذار المبكر أو المسافات الفاصلة بين السيارات".

والسؤال الملحّ اليوم: كم من موقف سيارات لا يراعي خطط الإنذار والحرائق في بيروت. وكم موقفا من هذه المواقف، يضم مولداً؟ وكم من مولد لا يستوفي شروط تفادي الحرائق؟ ثم هل كانت محافظة بيروت تحتاج لصدمة كحريق الحمرا، للتحرك ضد كل هذه المخالفات الخطيرة؟

بعد أسبوعين على حريق الحمرا، أتى بلاغ محافظ بيروت مروان عبود بمثابة "الصحوة" المتأخرة. وأصدر عبود بلاغاً إلى جميع أصحاب ومستثمري مولدات الكهرباء (خاص واشتراك)، منع صراحة "ممارسة أي نشاط رديف ضمن موقع تركيز مولدات الكهرباء كموقف سيارات للعموم ( Parking ) مثلاً، أو غيره من الأنشطة، تحت طائلة الملاحقة القانونية، كتنظيم محاضر ضبط، وإحالة المخالفين إلى النيابة العامة المختصة، وختم المولد/المولدات بالشمع الأحمر عند الإقتضاء".

وألزم البلاغ صاحب المولد الكهربائي تطبيق شروط السلامة العامة والحماية من المخاطر والحريق لا سيما لجهة (الكاتم - الصيانة - التأمين - العزل - المطافئ...)، وإبراز تقرير صادر عن مكتب تدقيق فني معتمد، لجهة استيفاء المولد وتوابعه لشروط السلامة العامة، وللشروط البيئية.

نسأل المهندس باسم عويني، مدير مصلحة المؤسسات المصنفة في بلدية بيروت، عن هذا البلاغ، فيوضح أنه من الناحية البيئية، تلقف التعميم الأخير لوزارة البيئة.

وكلفة المولدات البيئية والصحية، بدأت تظهر بعد أكثر من عقد على انبعاثاتها في بيروت، عبر ازدياد نسبة تلوث الهواء فيها 50 في المئة وازدياد نسبة السرطان وحدها 30 في المئة، وفق دراسة للجامعة الأميركية بإشراف النائبة نجاة صليبا، ما استدعى المزيد من إجراءات الحد من التلوث.

بناءً على التعميم رقم 4/1 تاريخ 1/8/2024 الصادر عن وزارة البيئة، أتى تعميم المحافظ، ليؤكد على معايير سابقة مفروضة على المولدات كوضع محول المحفز الإلزامي لجميع المولدات، الـcatalytic convertor للحد من انبعاثات أول أكسيد الكربون والهيدروكربونات.

أما بخصوص فلتر السخام لجسيمات الديزل Diesel Particulate Filter، للمولدات ذات القدرة التشغيلية ابتداء من 85 KVA، فيوضح عويني "أنه بعد ورود عدة مراجعات من أصحاب المولدات عن صعوبة الاستحصال عليه لارتفاع كلفته، فقد أتى التعميم الأخير ليسمح بهذا الفلتر أو أي فلتر آخر لا تقل كفاءته عن 70%، للتخفيف من الجزيئيات، وهو مزود بجهاز مراقبة".

أكثر من 150 شكوى

أما في ما خص السلامة العامة، فقد ارتكز تعميم المحافظ على المرسوم رقم 7964/2012 تاريخ 7/4/2012 (المتعلق بشروط تأمين السلامة العامة في المباني والمنشآت والوقاية من الحريق).

في السياق يقرّ مدير مصلحة المؤسسات المصنفة في بلدية بيروت، بأنّ "وضع المولدات برمته غير آمن وغير صديق للبيئة"، بل حتى غير قانوني، "فحق الاستثمار الحصري للكهرباء هو لكهرباء لبنان، لكن لا قدرة للناس على البقاء بلا كهرباء المولد".

وحتى قبل انتهاء مهلة التعميم مطلع هذا العام، أعلنت بلدية بيروت ختم مولد ومستودع حديدي بالشمع الأحمر على العقار رقم 2608 في بيروت-المزرعة، بناء على اقتراح دائرة التصنيفات فيها، بقرار من المحافظ عبود حمل الرقم 1023/ب تاريخ 28/11/2024، مع منع فك الأختام تحت طائلة الملاحقة الجزائية.

على الرغم من "فوضى المولدات"، يشدد عويني على "أننا لن نتهاون مع عدم المستوفين للشروط البيئية وشروط السلامة العامة خصوصا" عند إيجاد خطر داهم. أما من لا يريد الالتزام فقرارنا واضح والقانون في صفنا: ممنوع أن يكون هناك مولد على رصيف أو في حديقة عامة أو ضمن موقف سيارات، فهذه أنشطة ممنوع الخلط بينها، ولن نقبل أن يجني أصحاب المولدات ثروات على حساب السلامة العامة".

ويوضح أنه "سبق أن تقدمنا بأكثر من 150 شكوى على أصحاب مولدات لا سيما في موضوع العدادات ومخالفات الشروط البيئية، للنيابات العامة المختصة، وما زلنا ننتظر إلى اليوم نتيجة تلك الشكاوى ونسأل عن مصيرها". ولا ينكر في المقابل "أنه استطعنا إلزام عدد من أصحاب المولدات بتركيب العدادات في حملات سابقة، والالتزام بالتعرفة الشهرية. و"مكملين" بعملنا".

بين الشمع الأحمر... وجهنم الحمراء

تعرفة المولد تتجاوز راتب موظف قطاع عام في بدء الأزمة الإقتصادية. و"لو إجت القصة عالمصاري، لكان مقدوراً عليها". هذا لسان حال أهالي بيروت وسكانها اليوم. إذ لم يعد السكن في بيروت "نعيماً" بل جحيماً، فالزمن الأول تحول، والكهرباء لا تنقطع فيها كسائر المناطق وحسب، بل على عكس جزء كبير من تلك المناطق، يخضع أهالي بيروت تماماً لأصحاب المولدات لناحية رفض تركيب العدادات وساعات التغذية المتدنية التي تخضع بدورها لمزاجية صاحب المولد، وكذلك التسعيرة.

"زعران المولّدات"، هذه تسمية أهالي بيروت لمافيا المولدات، سيما في بعض الأحياء المغطّى أصحاب المولدات فيها من حركة أمل كالحمرا وزقاق البلاط والمُلاّ. إحدى السيدات (تتحفظ عن ذكر اسمها)، تروي معاناتها بالقول "متمقطعين بالعالم". فصاحب المولد يرفض تركيب عداد، ويرفض زيادة ساعات التغذية بالكهرباء ويلزمنا بدفع تعرفة ثابتة تصل لـ 280 دولاراً للـ 10 أمبير، على الرغم من زيادة مؤسسة كهرباء لبنان ساعات التغذية الكهربائية في بيروت مؤخرا".

وتمنع هذه المواطنة من الإشتراك مع أي اشتراك مولد آخر والقصة "ليست مزحة". فمواطن آخر ثار على هذا الواقع، ولجأ لشراء مولد خاص، فصودر مولده على قاعدة "زعران وحاكمينّا.. وما فينا نفتح تمنا".

هذا السلوك المافياويّ، يأخذنا لسؤال بديهي لا بُدّ من طرحه: لماذا قد يأبه أصحاب المولدات من فئة "الزعران" المدعومين سياسياً بصحة أهالي وسكان بيروت والبيئة والسلامة العامة فيها؟ فهؤلاء لا يأبهون إلا للربح المالي، والأسوأ، أنهم لا يخشون المحاسبة مستفيدين من الغطاء السياسي لهم من كارتيل استيراد المازوت والأحزاب التي تغطيهم، وسياسات وزارة الطاقة المشرعة بشكل غير مباشر لدويلتهم.

في السياق، لا ينكر عويني صعوبة تبعات قرارات ختم المولدات المخالفة بالشمع الأحمر. "فصاحب المولد بيقعد ع جنب وبيحطنا بمواجهة الناس عن قصد، وبتصير كل البناية عالأوكسيجين، وعم تغسل كلية. وبيحملونا مسؤولية إنو عم نقتل العالم". وتنطلق عبارات مثل "اسجنوا صاحب المولد واتركوا المولد يعمل"، لكن "السلامة العامة فوق أي اعتبار".

حلول "موقتة".. والخطر باقٍ ويتمدد

نعود لحديث صحافي لوزير الطاقة جبران باسيل عام 2012، وجملته الشهيرة المطالِبة "بمساواة بيروت بكل المناطق، إذ لا يجوز أن تكون التغذية 21 ساعة في بيروت وفي سن الفيل 11 ساعة".

إن لم تستح فافعل ما شئت، فعوض تحقيق وعده بكهرباء 24/24، قرّر باسيل إغراق لبنان كله بالعتمة. وطغت الكيدية السياسية على قرار التقنين في بيروت، فهي العاصمة المركزية التي تستقطب يداً عاملة من جميع المناطق. لكن الجدوى الاقتصادية وعجلة الإنتاج في بيروت لم تكن ضمن أولويات باسيل ووزراء التيار من بعده، الذين لطالما طبّقوا سياسة التغذية الكهربائية "الاستنسابية" في المناطق، في قطاع شكلت نسبة الهدر والفساد فيه نصف الدين العام اللبناني.

يأس أهالي بيروت، وحاجتهم للكهرباء وصعوبة تحمل البقاء تحت رحمة دويلة المولدات التي شرّعتها سياسات وزارة الطاقة في بيروت، قابلها مشروع قانون للنائب وضاح الصادق يجيز لبلدية بيروت الترخيص لشركات خاصة لإنتاج الطاقة وتوزيع الكهرباء وفق دفتر شروط تضعه هيئة الشراء العام وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

من جهته، مدير عام الاستثمار في وزارة الطاقة سابقاً والخبير في المعهد اللبناني لدراسات السوق، غسان بيضون، يرى الحل معاكساً، بمعنى "تفعيل اللامركزية الإدارية بإنتاج الطاقة في المناطق خارج بيروت، من خلال إنتاج الطاقة المتجددة من المياه والرياح والطاقة الشمسية، (حيث تتواجد الأنهر والمشاعات وتسهل إقامة هكذا مشاريع)، حينها تستطيع كهرباء لبنان العاجزة عن تأمين تغذية دائمة شاملة لكل لبنان نتيجة الهدر على الشبكة وسياسات الفساد، أن تزيد ساعات تغذية بيروت العاصمة بالكهرباء".

كل هذه الحلول المطروحة، تعيدنا للحاجة الملحة لتعيين الهيئة الناظمة للكهرباء، المستقلة عن وزير الطاقة، والتي عطلها التيار الوطني الحر لسنوات. واليوم مع بدء عهد رئاسي جديد، تحت مراقبة دولية لحكومة يراد منها تطبيق الإصلاحات، يبقى إقرار هذه الهيئة الحجر الأساس في سكة إصلاح قطاع الكهرباء ونهوضه. نذكر هنا أن فخامة الرئيس الجديد جوزاف عون تعهد بإقرار الإصلاحات وضمنها طبعاً الهيئة الناظمة. عساه خيراً.

سبق أن اقترح باسيل، عراب التقنين في بيروت، بأن تكون التغذية "بحسب نسب الجباية وسرقة الكهرباء". ويحق للبنانيين اليوم، أن يطالبوا بتدقيق جنائي في وزارة الطاقة لمحاسبة من هدروا وسرقوا المال العام، مكرسين سياسات العتمة ومافيا المولدات، وارتفاع نسبة السرطان في العاصمة، وتهديد السلامة العامة فيها. فسرقة الكهرباء لا تكون فقط بـ"التعليق" على كهرباء الدولة، بل تأتي أيضا على شكل سياسات هدر وفساد وسرقة، تسلب المواطنين حقهم الطبيعي بالكهرباء وتجعلهم تحت رحمة "العتمة" أو "دويلة المولدات" أو الموت بالسرطان!

فتات عيّاد- نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا