إقتصاد

لكي لا تتحوّل الفوائد العالية على الليرة… إلى نقمة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تشهد السوق اللبنانية رفعاً ملحوظاً في أسعار الفائدة على ودائع الليرة اللبنانية، التي تصل إلى 40-45 %، وهو ما يمثّل محاولة من المصارف لجذب العملة المحلية وتعزيز السيولة، في ظلّ أزمة الثقة المستمرّة بالقطاع المصرفي والنظام المالي. ومع ذلك، تحمل هذه السياسات مخاطر جمّة للمودعين والاقتصاد على حدّ سواء.

بعد سنوات من التحدّيات والفشل في ضبط الإيقاع على الساحتين النقدية والمالية، وسنوات أخرى من الصراع من أجل الصمود والتأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية، يعود لبنان اليوم إلى مشهدية الإفراط في دفع الفوائد على الودائع المصرفية، وهذه المرّة على الودائع بالليرة اللبنانية!

بعد الدولرة الشاملة، واعتماد الدولار الأميركي في التبادل والتداول التجاريَّين في الداخل اللبناني، بقيت للّيرة اللبنانية مساحة صغيرة فقط، لكي تسدّ ثغرة غياب “الفراطة الدولاريّة” (الـ5 و10 و25 و50) عن المشهد النقدي اللبناني.

لبنان يحصد ما زرعه في سنوات

بعدما ظهر إلى العلن فشل السلطة السياسية الحاكمة في إدارة الماليّة العامّة، وتراكم الديون على الدولة العاجزة، وانخراط المصارف التجارية في لعبة تمويل فساد الحكم وفشل الحاكم، سارع المودعون إلى المطالبة بأموالهم في تشرين الأول 2019. وقع إرباك كبير عجزت المصارف عن إدارته بنجاح. فعوضاً عن خدمة زبائنها اتّخذت جميع المصارف التجارية العاملة في لبنان قرار النأي بالنفس عن خدمة عملائها والاهتمام بالاقتصاد.

كان هذا الأمر أوّل شرارة الانهيار الوشيك نتيجة الإفراط في الاستدانة من قبل السلطة، وإفراط المصارف في استقطاب السيولة الدولاريّة في ظلّ غياب تامّ لتوظيفها في شكل منتج يدعم الاقتصاد الوطني. لتوفير تغطية كلفة هذه الودائع، مُنحت هذه السيولة على طبق من فضّة للفاشل والفاسد في الحكم، ونأت الحكومات المتعاقبة عن مسؤوليّتها في تقديم موازنات متوازنة لجهة النفقات والإيرادات.

تدافُع المودعين لطلب أموالهم من المصارف، كُلِّلَ بقرار توقّف الدولة عن خدمة الدين العامّ في آذار 2020. وكان ذلك بمنزلة صبّ الزيت على النار المشتعلة في القطاع المالي. بعدها هُدر ما توافر لدى مصرف لبنان من احتياط من العملة الأجنبية في سبيل خدمة مكوّنات الطبقة السياسية عبر دعم الاستيراد ودعم الدولار للإبقاء والمحافظة على المكاسب السياسية في سنوات الذلّ والنكبة 2020، 2021 و2022.

لم يكن الدين العامّ مستداماً، ولن يكون دعم الاستيراد والدولار مستداماً. اندلعت نيران التضخّم، واختفى وهج الليرة اللبنانية، وفقد القطاع المالي، من مصرف لبنان المركزي إلى أصغر مصرف، أغلى ما عنده وما هو بحاجة له، وهو ثقة مكوّنات المجتمع اللبناني من أفراد ومؤسسات به.

عدّة الصمود والتأقلم

كشفت السنوات من 2019 إلى 2022 حقيقة وطينة رجال الحكم في لبنان وما كان لذلك من تداعيات مدمّرة على الاقتصاد الوطني. ولكن، في الوقت ذاته، كان القطاع الخاصّ يعدّ العدّة للصمود والتأقلم مع هذه المتغيّرات السياسية والاقتصادية، واستطاع أن يؤسّس مساحة اقتصادية وتشغيلية بعيدة عن مسرطنات وتداعيات فساد وفشل الطبقة السياسية.

كانت لمصرف لبنان مواكبة فعّالة لإعادة الهيكلة هذه، ونجح في توفير قنوات آمنة لتمويل التجارة الدولية استيراداً وتصديراً (التعميم الأساسي رقم 150 في 9 نيسان 2020، وبعده التعميم الأساسي رقم 154 في 27 آب 2020). وساهم في دعم جهود القطاع الخاصّ في دولرة الاقتصاد الوطني.

ذهب أكثر من ذلك إلى توفير الظروف النقدية لدولرة نفقات وإيرادات القطاع العامّ (التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 161 في 16 كانون الأوّل 2021، وبعده تعديل سعر الصرف الرسمي من 15,000 إلى 89,500 ليرة للدولار الواحد، وتمّ تثبيت ذلك في التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 167 في 2 شباط 2024). وذلك بعد حرب طويلة نجح فيها مصرف لبنان في الحدّ من الاضطرابات في سوق القطع الأجنبي وإرساء ضوابط على الضغوطات التضخّمية من خلال تجفيف السيولة بالليرة اللبنانية.

الاستقرار في سعر صرف الدولار وفقدان الليرة من الأسواق المحلّية، من حيث العرض وليس الطلب، ساهما في إعادة النظر في ديناميكية المشهد النقدي للسنتين الماضيتين. ما يزال الطلب على الليرة موجوداً لصرف رواتب وأجور بعض الموظّفين في القطاع الخاصّ (تُصرف رواتب وأجور القطاع العامّ بالدولار من تاريخ إصدار التعميم الأساسي لمصرف لبنان الذي يحمل الرقم 161 في 16 كانون الأوّل من سنة 2021)، ولدفع ضرائب ورسوم للدولة، ولسدّ ثغرة فقدان القروش بالدولار محلّياً.

في ظلّ إصرار مصرف لبنان على تجفيف السيولة من الليرة اللبنانية لإقفال الأبواب على المضاربة، انطلقت حرب وضع اليد على ما توافر من سيولة بالليرة من قبل المصارف حتى وصلت الفوائد على الليرة في سوق الإنتر بنك – Interbank، إلى 150% في منتصف سنة 2023.

حوّل ثبات استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية لأكثر من 18 شهراً أنظار المصارف إلى المودعين وتقديم إغراءات على شكل فوائد شبه خيالية، لكنّها تبقى أقلّ كلفة وأوفر من الاستدانة من زملائها المصارف الأخرى.

أسباب رفع الفوائد

اختلفت الأسباب، وأمّا النتيجة فواحدة. ما هي أسباب رفع الفوائد؟

1- نقص السيولة بالليرة: المصارف تواجه نقصاً حادّاً في الليرة اللبنانية نتيجة السياسة النقدية لمصرف لبنان التي هدفت إلى تجفيف الكتلة النقدية بالعملة الوطنية.

2- تحقيق أرباح قصيرة الأمد: ترى بعض المصارف أنّ الفوائد العالية وسيلة لتحويل الالتزامات بالعملة الأجنبية إلى العملة المحلّية، مستفيدة من تراجع قيمة الليرة من خلال تحويل ودائع بالدولار المحلّي إلى الليرة اللبنانية على سعر السحوبات الحالي 15,000 ليرة للدولار الواحد.

3- دعم السياسة النقدية: قد تتماشى هذه السياسات مع أهداف مصرف لبنان لتعزيز الطلب على الليرة، على الرغم من أنّها تُعدّ حلّاً مؤقّتاً أكثر من كونها مستدامةً.

4- مراهنة على الاستقرار السياسي: تستند المصارف إلى توقّعات بتحسّن الأوضاع السياسية والاقتصادية، مثل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

على الرغم من أنّ كلّ التعاميم التي صدرت خلال سنوات الأزمة أخذت طابع الإجراءات الاستثنائية (لأنّ يداً واحدة لا تصفّق كما يردّد حاكم مصرف لبنان، في إشارة إلى ضرورة أن تتحمّل السلطة السياسية مسؤوليّتها)، لكنّ ما يحصل اليوم من استقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية وعودة عرض وطلب الليرة اللبنانية إلى المشهد النقدي لم يكن وليد اليوم. بل تمّ التأسيس له بحكمة ودقّة وثبات منذ سنوات.

هذا يؤكّد وجود تخطيط استراتيجي ناجح من قبل السلطة النقدية على الرغم من كلّ الاضطرابات الأمنيّة، والمخاطر الجيوسياسية، وفشل السلطة السياسية في إقرار أيّ قانون للمساهمة في عودة الانتظام إلى القطاع المالي، ويضاف إلى كلّ هذه التحدّيات التي فُرضت على السلطة النقدية وضع لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) في تشرين الأوّل 2024.

المخاطر المترتّبة

هل العودة إلى عرض وطلب الليرة اللبنانية في القطاع المالي مُبكر في ظلّ غياب الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي والأسرة الدولية بشكل عامّ، وتعدّ خطوة محفوفة بالمخاطر، وقد تعمّق فقدان الثقة بين المصارف التجارية ومكوّنات المجتمع اللبناني؟

يمكن تلخيص المخاطر بالآتي:

1- عدم استقرار سعر الصرف: تعتمد الفوائد العالية على افتراض استقرار سعر الصرف، وهو أمر غير مضمون في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية الهشّة.

2- إدراج لبنان في القائمة الرمادية: الفوائد المرتفعة قد تزيد من التدقيق الدولي بشأن الامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال، وهو ما يفاقم العزلة المالية للبنان.

3- مخاطر على المودعين: مع أنّ الفوائد العالية تبدو مغرية، فإنّ أيّ تراجع في سعر صرف الليرة سيؤدّي إلى خسائر فادحة تفوق تلك العوائد.

4- غياب إصلاحات هيكلية: استمرار هذه السياسات يعكس غياب خطط إصلاحية طويلة الأجل، وهو ما يزيد من هشاشة النظام المالي.

لكي لا تعود عقارب الساعة إلى الوراء

الحلول الظرفية والاستثنائية المعتمدة من قبل كلّ مكوّنات السلطة، من مصرف لبنان إلى وزارة الطاقة في توفير الفيول أويل (fuel oil) لإنتاج الطاقة، ووزارة الاقتصاد في توفير القمح والطحين لإنتاج الخبز، لم تعد مجديةً ويجب الذهاب باتّجاه الحلول المستدامة. أخطاء الماضي، إذا كانت السلطة صادقة في مقاربة الحلول، تكون بمنزلة دروس وعبر تستثمر وتوظّف في إقرار السياسات الإصلاحية.

ما هي الدروس المستفادة حتى لا تتحوّل عروض الفوائد على الليرة اللبنانية من نعمة إلى نقمة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء؟

1- أهميّة الشفافية: غياب الشفافية في سياسات المصارف ومصرف لبنان يؤدّي إلى تفاقم أزمة الثقة ويزيد من الشكوك في استدامة هذه العروض.

2- ضرورة التنسيق بين الجهات المعنيّة: تعزيز الثقة يتطلّب جهوداً منسّقة بين مصرف لبنان والقطاع المصرفي لوضع سياسات مستدامة تحمي المودعين وتدعم الاقتصاد.

3- التركيز على الإصلاحات الجذرية: بدلاً من اللجوء إلى حلول قصيرة الأمد مثل رفع الفوائد، يجب تنفيذ إصلاحات بنيوية تعيد الثقة إلى النظام المالي.

4- تقليل الاعتماد على المضاربات: السياسات المبنيّة على المضاربة تزيد من التقلّبات والمخاطر بدلاً من تعزيز الاستقرار المالي.

5- حماية المودعين: يجب وضع آليّات لحماية المودعين من التقلّبات في سعر الصرف وضمان حقوقهم.

توصيات

من رحم هذا الواقع تأتي التوصيات الآتية:

– مصرف لبنان: وضع سياسات واضحة بشأن إدارة الكتلة النقدية وأسعار الفائدة، وتوفير بيانات شفّافة عن استراتيجيّاته لتعزيز الثقة.

– المصارف: التأكّد من أنّ العروض تتماشى مع الاستقرار المالي الطويل الأمد، وتجنّب الممارسات التي تؤدّي إلى خسارة الثقة من قبل المودعين.

المودعون: التعامل بحذر مع عروض الفوائد المرتفعة، وفهم المخاطر المرتبطة بعدم استقرار العملة.

الفوائد المرتفعة على ودائع الليرة اللبنانية نادراً ما تعكس استقراراً نقديّاً، بل تعكس أزمة هيكلية عميقة في النظام المالي اللبناني. وعلى الرغم من أنّها تقدّم حلّاً مؤقّتاً لتحسين السيولة، إلا أنّها تزيد من المخاطر على الاقتصاد والمودعين. يتطلّب الخروج من هذه الأزمة تبنّي إصلاحات جذرية تعيد الثقة والاستقرار إلى النظام المالي بدلاً من الاعتماد على الحلول القصيرة الأمد.

محمد فحيلي - اساس ميديا

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا