الصحافة

لبنان وسورية: ليكن الرزق والاستقرار جامعنا

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

غدٌ بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظّنّ بالمقبل

ولست بالغافل حتّى أرى        جمال دنياي ولا أجتلي                              

(رباعيات الخيام)

إنّ مسألة الحدود الوطنية بين الدول ذات السيادة لا تستند عادة إلى معطى ماورائيّ أو مقدّس، وإن كانت تستند عادة إلى بعض المعطيات الطبيعية والاقتصادية والتاريخية والاجتماعية. ولكنّ كلّ تلك المعطيات قد يتمّ تجاوزها بقرار سياسي أو عسكري في لحظة تاريخية معيّنة وبحكم موازين قوى متغيّرة. على هذا الأساس فإنّ دور الحدود الوطنية في عالمنا الحالي وفي ظلّ العولمة يأخذ أبعاداً مختلفة عمّا كان الوضع في القرنين الماضيين.

قد يكون رسم الحدود وسيلة لصيانة السيادة الوطنية على الأرض والثروات الطبيعية، ويمكنه أن يرتبط بمبدأ غامض آخر هو الهويّة الوطنية، وأحياناً تُبنى أساطير وروايات وتقاليد كلامية لتدعيم فكرة الحدود. لكنّه أيضاً وسيلة تساعد على تنظيم العلاقات البينيّة وتسهيلها كما تسهيل إمكانية التعاون بين الوحدات الوطنية المتجاورة من خلال تنظيم العبور المتبادل للأفراد والبضائع.

لكنّ الحدود بكلّ الأحوال لا تعدو كونها خطوطاً اعتباطيّة للفصل بين المجتمعات وللحدّ من إمكانية التنقّل الحرّ للبشر، وقد تدعم أحياناً مبدأ غياب العدالة بين البشر عندما تُرسم الحدود بين دول تمتلك مداخيل عالية وموارد طبيعية وافرة وبين أخرى تفتقر إليها.

لا إجابة قاطعة

هنا قد يُطرح السؤال البديهي عن ضرورة وجود الحدود الوطنية، وهو مع بداهته السياسية سؤال معقّد أخلاقياً وفلسفياً وتاريخياً ويثير جدلاً واسعاً على المستوى المرتبط بعلم الإنسان، ولا توجد إجابة قاطعة وموحّدة عليه.

يمكن تبرير وجود الحدود الوطنية بالحفاظ على ما يسمّى السيادة الوطنية. الحدود تحدّد الأراضي التي تخضع لسيادة دولة معيّنة، وهو ما يسمح لها بالحكم الذاتي واتّخاذ قراراتها الخاصّة. وقد تساعد الحدود نظرياً على حماية الدولة من التهديدات الخارجية. وقد تساعد أيضاً في ترسيخ مسألة نظريّة هي الهويّة الوطنية للشعوب التي تربط الناس بعضهم ببعض من خلال اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة. هذا بالإضافة إلى تنظيم الهجرة بحيث تحدّد الحدود من يدخل ويخرج من الدولة، وهو ما يسمح للحكومات بالتحكّم بتدفّق المهاجرين وحماية أمنها.

لكنّ الأهمّ هو الحفاظ على الموارد الطبيعية بحيث يمكن أن تساعد الحدود في حماية الموارد الطبيعية للدولة، مثل المياه والنفط، من الاستغلال غير المشروع.

التّسبّب بإعاقة الحركة

لكن، من ناحية أخرى، في عالم مترابط ومتواصل بشكل متزايد، قد تتسبّب الحدود بإعاقة الحركة الحرّة للأفكار والسلع والأشخاص. وهناك من يقول إنّ الحدود غالباً ما تستخدم لتبرير العنصرية والتمييز ضدّ المجموعات العرقية أو الدينية المختلفة. والثوابت التاريخية تؤكّد أنّ رسم الحدود لطالما كان سبباً للحروب والصراعات. في ظلّ العولمة التي فرضتها حركة السوق والإنتاج، يمكن للحدود أن تعيق التنمية الاقتصادية من خلال تقييد التجارة والاستثمار.

أجبر تمترس العديد من الحكومات التوتاليتارية العنيفة خلف الحدود الوطنية، بداعي السيادة، الملايين من البشر على العيش تحت التهديد بالموت والفقر وفقدان الحرّية لأنّ هؤلاء الحكّام أحرار في التصرّف داخل حدود دولهم.

يفترض البعض أنّ إلغاء الحدود يمكن أن يسهّل حركة الأشخاص والسلع والخدمات بين الدول، ويعزّز التبادل التجاري والاستثماري والثقافي. ويمكن أن يؤدّي إلغاء الحدود إلى خلق أسواق مشتركة أكبر، فيدفع الشركات إلى التوسّع والاستثمار وزيادة النموّ الاقتصادي. ويمكن للدول المتجاورة، خاصة الصغيرة الحجم، أن تتعاون بشكل أكثر فعّالية في مواجهة التحدّيات العالمية المشتركة مثل تغيّر المناخ والجريمة المنظّمة والإرهاب، وفي مسألة تحسّن النموّ في الاقتصاد.

يفترض بعض علماء الاجتماع أنّ إلغاء الحدود قد يعزّز التفاهم والاحترام المتبادل من خلال التفاعل المستمرّ بين الشعوب المختلفة، فيعزّز التسامح والتفاهم والاحترام المتبادل بين الثقافات، ويساهم في تطبيق عدالة معولمة تمنع الحكّام من الاستفراد بشعوبهم، وذلك من خلال قوانين تستند إلى حقوق الإنسان.

تحدّيات إلغاء الحدود

لكن من ناحية أخرى، هناك العديد من التحدّيات التي قد تواجهها الدول في حالة إلغاء الحدود. فمن ناحية الأمن القومي، يعتبر البعض أنّ إلغاء الحدود يهدّد الأمن القومي ويؤدّي إلى زيادة كبيرة في الهجرة العشوائية، فيضع ضغطاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً على الدول المستقبلة، بالإضافة إلى أنّ المسألة قد تؤدّي إلى استفحال الخلافات الإقليمية والنزاعات بين المجموعات القومية والاجتماعية لصعوبة تحقيق التكامل بين الشعوب التي تختلف في ثقافاتها وقوانينها.

لذلك فكرة إلغاء الحدود هي فكرة معقّدة تتطلّب دراسة متأنّية وتقويماً دقيقاً للمخاطر والفوائد. قد يكون من الممكن تحقيق قدر كبير من التعاون الدولي من دون الحاجة إلى إلغاء الحدود بشكل كامل، وذلك من خلال تطوير آليّات التعاون الإقليمي والدولي وتبسيط إجراءات الحدود وتعزيز الثقة بين الدول.

بين لبنان وسورية

انطلاقاً مما سبق، لا علاقة لاسم لبنان وسورية بالحدود الوطنية الحالية لهما على الرغم من ورود هاتين الكلمتين تكراراً في التاريخ المعروف والموثّق. ولم تكن هناك كيانات سياسية وإدارية محدّدة مرتبطة تفصل بين البلدين، ولا حتى بينها وبين كيانات مستحدثة تجاورها مثل الأردن والعراق وفلسطين وتركيا الحديثة.

بالمحصّلة، القرار السياسي للقوى المنتصرة والمهيمنة هو الذي رسم الحدود وفصلها، بغضّ النظر عن المجموعات الاجتماعية الموجودة أصلاً، ثمّ فرض هذا الترسيم فصل مجموعات بعضها عن بعض وضمّ أخرى، خالقاً دينامية اقتصادية وثقافية وسياسة واجتماعية داخل تلك الحدود.

بالعودة إلى العلاقات اللبنانية السورية، لن أسترسل هنا في طرح إشكاليات تتعلّق باللغة والأصل والقومية والدين والثقافات ولا حتى الروابط العائلية، وكلّها مهمّة بالطبع، لكنّها تبقى ثانوية بالمقارنة مع المصالح والأرزاق، أكانت على مستوى الأفراد والمجموعات، أم على المستوى الوطني. فوجود آلاف اللغات في الهند لم يمنعها من تأسيس دولة، وإنّ الأصول الإثنية خاضعة دائماً للتمازج وغالباً ما تكون سبباً للشقاق والعنصرية، وقد سقطت كلّ تجارب القرن العشرين المستندة إلى القومية بشكل عنيف ومدمّر.

لم يتمكّن الدين من توحيد البروتستانت ولا الكاثوليك ولا المسلمين ولا البوذيين ولا غيرهم في كيانات وطنية واحدة. أمّا بالنسبة للروابط العائلية، فالأولاد اليوم يمكن أن يكونوا أميركيين أو كنديين أو أستراليين في حين يسكن الأهل في ضيعة في مجاهل بلد آخر، فتختصر العلاقات العائلية بلقاء افتراضي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد تمكّنت الدراسات الجينيّة الحديثة من تأكيد أنّ أصل البشر المنتمين لجنس الإنسان العالم أو الهومو سابيين، بمعظمهم، ما عدا بعض المجتمعات الإفريقية المعزولة، يعود لآدم وحوّاء بيولوجيَّين عبرا من إفريقيا منذ ما بين سبعين وخمسين ألف سنة، ومنهما انبثقت كلّ المجتمعات التي انتشرت في كلّ المعمورة سعياً وراء الرزق دائماً، أو بدافع الحشرية أحياناً.

ضمان الرّزق بالقوّة

كما كان الحال بين الأخوين قايين وهابيل في تنافسهما على نوعية الرزق، فإنّ البشر وإن كانوا جميعهم من نسل واحد بالفعل، أي أنّهم عشيرة واحدة، فقد اختلفوا وتقاتلوا وتنافسوا دائماً على مصادر الرزق أو السيطرة على الموارد. بالطبع لا أقلّل هنا من النزعة البشرية للاستقواء، لكنّ الخلفيّة كانت دائماً ضمان الرزق بالقوّة. لكنّ ضمان استدامة السلام بين البشر يستند دائماً إلى المصالح المشتركة أو مبدأ التبادليّة في المصالح، للهدف ذاته، وهو الأمان في مصادر الرزق من خلال قواعد وبروتوكولات وقوانين.

لكنّ عاملَيْ التاريخ والجغرافيا يلعبان دوراً أساسيّاً في مسألة وسائل الرزق وقدر الكيانات المتجاورة. فإمّا الصراع وتحمّل الخسائر المتبادلة أو استقواء طرف على آخر، مع العلم أنّ أيّ استقواء مهما طال أمده معرّض للتبدّل، لأنّه نظام غير قابل للاستدامة ويحتاج إلى الكثير من الجهود ليستمرّ. وذلك لأنّ الطرف الضعيف سيستمرّ بمحاولة التملّص من هيمنة القوي، وفي المقابل سيلجأ القوي إلى المزيد من العنف لاستدامة هيمنته.

بناء مصالح مشتركة

تقتضي الحكمة هنا أن يلجأ الطرفان، أو الأطراف المتجاورة، إلى بناء مصالح مشتركة تتفوّق على التاريخ مهما كانت تجربته مريرة. فالصراع الطويل الذي حكم القارّة الأوروبية لقرون من خلال محاولات متكرّرة لسيطرة قوّة جامحة إمّا على جيرانها أو على القارّة وجوارها، سقط بالضربة القاضية في الحرب العالمية الثانية. ثمّ بدأت ألمانيا وفرنسا ببناء المصالح المشتركة من خلال مصانع الصلب في المنطقة المتنازَع عليها بالذات التي كانت سبباً لحروب عديدة. والمصالح المشتركة هي ذاتها التي بنت الاتّحاد الأوروبي، والتصدّع في بنيانه والتهديدات التي تحيط به اليوم مرتبطة أيضاً بالخلل في موازين المصالح.

بالعودة إلى لبنان وسورية اليوم، أي بعد المتغيّرات الكبرى والسريعة التي حصلت أخيراً. لن ألجأ إلى المقاربات التقليدية التي تضع الرذائل في طرف والخصائل في آخر، فلا وجود لملائكة وشياطين في هذا المجال. وبقدر ما لعب واقع الاستقواء من جهة سورية دوراً في بناء أو تدمير تلك العلاقات، فقد كان الدور موازياً داخل لبنان بالسعي إلى الاستفادة والمتاجرة بتلك الوقائع، إمّا من خلال التبعية أو من خلال العدائية العنصرية، حتّى وقعنا في دوّامة الخسائر المنحدرة نحو الحضيض.

علاقات مبنيّة على الرّبح المتبادل

قد يكون يلوح لأوّل مرّة أفق وأمل لبناء تلك العلاقات المبنيّة على الربح المتبادل من خلال بناء شراكات تعترف بالحدود السياسية والسيادية. وفي الوقت ذاته نتفهّم الحاجة إلى تجاوز الإعاقات التي تشكّلها أحياناً الحدود الجغرافية. ففي ظلّ العصر الذي فرضه الإسرائيلي والتركي بعد إقصاء واسع لمشروع ولاية الفقيه، على لبنان وسورية، أو بالأحرى على اللبنانيين والسوريين بناء شراكة تتناسب مع السعي العربي إلى التشارك في عالم جديد من خلال نظام المصلحة العربي.

انطلقت هذه المحاولة منذ ثلاثة عقود بعد مؤتمر مدريد، وكان مفترضاً بلبنان أن يلعب دوراً مركزياً في بناء شراكات تمرّ بسورية نحو العرب ومنها نحو العالم، لكنّ هذه المحاولة تمّ اغتيالها بمتفجّرة، بعد فشل النظام الذي حكم سورية في استيعاب أنّ بناء المصالح يستدعي الزهد في استعمال العنف للبقاء. أدّى ذلك إلى تأخُّرنا معاً لثلاثين سنة، كان العالم فيها يسير نحو اقتصاد وعلاقات ما بعد الحداثة في الاقتصاد والحكم، فيما نحن قابعون في زمن أواسط القرن العشرين.

ما على اللّبنانيّين… والسّوريّين

ماذا الآن؟ الأمر منوط بقبول اللبنانيين التغيير في نمط علاقتهم مع القانون والشفافية وتجاوز الاستقواء أو العنصرية، وعلى السوريين بناء حكم مستقرّ وتعدّدي قادر على بناء اقتصاد حديث وشبكة علاقات سياسية في الداخل ومع المحيط.

في دراسة مفصليّة قام بها اقتصاديّان نالا هذه السنة جائزة نوبل للاقتصاد، هما ديفيد روبنسون ودارون اسيموغلو، وعنوانها “كيف تفشل الأمم”، يؤكّدان أنّه على الرغم من تعدّد العوامل التي تؤدّي إلى نجاح أو فشل أيّ أمّة، فإنّ الاقتصاد هو الأساس، وإنّ قناعة الناس بتساوي الفرص والقانون والقضاء والقدرة على تغيير الحال هي الأساس في نجاح الأمم.

ما علينا في لبنان وسورية إلا السعي إلى بناء حكم تعدّدي عادل وقضاء نزيه ومؤسّسات محترمة وذات صدقية، ثمّ سيرسم الاقتصاد الحرّ الطريق لعلاقات يخرج الجميع فيها رابحين. وعندها لا يهمّ إن كنّا شعباً واحداً في دولتين أو شعوباً مختلفة، فالرزق عندها سيجمعنا ويضمن الاستقرار.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا