سقط الصنم لكن ظله ما زال يحكمنا
عدنان الطالب
سقط الأسد بأجمل لوحة متناقضة على وجه الأرض، ففكرة "ارتباط الجمال بالدمار" ما كنت لأقتنع بها حتى رأيت مشهد ذلك الصنم يهوي كطبقة من الصدأ القديم التي غطت ملامح كل شيء. سقط رمز الخوف، فإذا أجمل ما في الأرض دمار الطغاة. سقط الديكتاتور بعد أربع وخمسين سنة من محاولة صهر المجتمع في بوتقة البعث، قضى أربع عشرة سنة منها في طحن البلد حقيقةً لا مجازاً.
أربع وخمسون سنة ونحن نعيش في أكبر سجن على وجه الكوكب؛ لا أتكلم عن صيدنايا ولا سجن تدمر ولا عدرا ولا فرع فلسطين ولا مثيلاتها، فما هي إلا جدران السجن فقط، كانت سوريا كلها سجن كبير، كنا مقيدين من داخلنا، بلد أقدم من التاريخ كان يدار بصوت واحد وأسواط متعددة؛ خطاب واحد أجوف كاذب يهدف لسلخ كل الهويات الإثنية والدينية والثقافية وصبغها بصبغة واحدة أو صهرها بل دهسها في بوتقة واحدة، حتى أصبحت أدمغتنا أشبه بقوقعةٍ يتردد فيها ذات الخطاب على مدى عقود.
وستة أفرع مخابرات تراقب حتى النَّفَس وتعتقل على الرائحة كالكلاب البوليسية... وأي تقرير ولو كان كاذباً يهوي بك في جحيم السجون، حتى إن المخبر كان أخطر من ضابط في الجيش. كانت شبكات المخابرات تغطي سوريا أكثر من شبكات الاتصالات، مجموعة من الشياطين الحمقى تدير البلد بهدف لجمها لا تطويرها.
كل هذا سقط في أحد عشر يوماً وأكثر من مليون شهيد ونصف مليون مغيّب وكذا مليون نازح ولاجئ. لم أفقد الأمل في سقوط الطاغية أبداً. حسنًا، أنا أؤمن بالمعجزات، لكن رأيي كان معتمداً على حتمية منطقية لظلمه وإجرامه وغبائه، فالثورة كانت فرصة واجبة التكرار حتى النصر.
بريق الحقيقة وسَوأتها
انجلى الصدأ وظهر البريق الحقيقي لسوريا التي كنا نقرأ عنها في الكتب القديمة... سوريا التي أحببناها واشتهيناها، لكن جلاء الصدأ كشف كل المشاكل التي كان يخفيها الأسد ويبني عليها ويزيدها بدل أن يعالجها.
لا شك أن مجتمعنا فيه، كأي مجتمع طبيعي ومتنوع، العديد من المشاكل كالطبقية والعنصرية والطائفية... لكن المشكلة الكبرى هي الخوف. فحكم أكثر من خمسين سنة من نظام يعلم أنه غير شرعي، فلا يثق بنفسه، وبالتالي لا يثق بأحد ويخاف من الجميع. لقد أورثنا ذلك البائد هذا الخوف من الآخَر، وخلق في عقولنا ديكتاتوراً صغيراً يؤمن أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولديه أحكام مسبقة على كل من يخالفه، فهو يناقش بفم دون آذان، ويجادل ليفرض رأيه لا ليصل إلى برِّ الحقيقة، ديكتاتوراً يريد أن يقصي الآخر لا أن يتعرف عليه، ويفضل أن يحاربه على أن يحاوره، ولكل منا مظلوميته وأحقيته المحضرة مسبقاً.
مفترق طرق
لقد أسقطنا الأسد كأيقونة لهذا الظلم، لكننا الآن أمام مفترق طرق، إما أن ننجر إلى هاوية أخرى، من الاقتتال المصالحي والفئوي والتي رأينا نتاجها على مر السنين في البلاد التي تجاورنا، فننتقل من حكم الفاسد باسم الحزب والشعب إلى حكم الفاسدين بمسميات فئوية، أو ديكتاتور جديد ينام بشراً ليصحو إلهاً دون أن يبذل أي جهد، فينخرط في دور الفساد والبطش ولو كان ملاكاً منزلًا، فظل الخوف الذي يحكمنا لن يسمح لمن يريد أن يبني على أسس سليمة بالبقاء على حاله، وإلا لن يسمح له بالبقاء في سدة الحكم. وخيارنا الثاني أن نثور على هذا والديكتاتور الذي يملأ عقولنا، وبعبع الوهم الذي يحكمنا بالخوف، ونثق ببعضنا ونتحاور وننبذ كل الأفكار التي لا تليق بكرامة العيش ولا ترقى إلى شعب ضحى بمئات الآلاف من أبنائه ليعيش كله بكرامة حقيقية وحرية ومسؤولية وعدالة اجتماعية؛ وهذه هي الثورة الأصعب... لأن خصم كل واحد منا هو نفسه، غير أنها لا تحتاج إلى أن نضحي إلا ببعض الوقت ولا تتطلب إلا الوعي والثقة والإدراك.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|