ماكرون يستعجل لحجز موقع في دمشق
يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تحقيق نجاحات في السياسة الخارجية تعوّضه النكسات المتلاحقة في البيت الداخلي. فاز الرجل بالرئاسة لولايتين. استفاد دائماً من حشد الناخبين الكارهين لوصول مرشّحة اليمين المتطرّف، مارين لوبن، إلى الإليزيه، ليحملوه رئيساً للبلاد. كان يملك أغلبية نسبيّة في البرلمان، فحلّ البرلمان في حزيران 2024 لتحسين أغلبيتّه، فخسرها، وبات تطرّف اليمين وراديكالية اليسار يتقاطعان في المطالبة باستقالته.
لن يستقيل. لكنه لم يعد يعوّل على أمجاد بيتيّة. بات يتوسّل اختراقات ولو مستحيلة في الخارج. في عهده تكاد فرنسا تغادر أفريقيا بعد ما طُردت قواتها ووجودها الدبلوماسي في دول عديدة. حتّى في شمال إفريقيا، تقدّم في المغرب وخسر في الجزائر، ويسعى لتدوير الزوايا والحفاظ على حدّ مقبول من الهيبة والنفوذ والاحترام في تلك المنطقة. ولئن يراكم، من دون يأس، إخفاقاً تلو آخر في لبنان، فإنّه يتطلّع إلى تحقيق “سبق” برفع مستوى العلاقة والتواصل مع “سوريا الجديدة”.
تمتلك فرنسا في سوريا كما في لبنان تاريخا وحكايات تعود إلى حقبة نهاية الدولة العثمانية وظهور خرائط سايكس-بيكو. وفيما ما زال في لبنان من يعتبر فرنسا “الأم الحنون”، فإنّ السوريين تعاملوا مع تاريخ فرنسا بصفتها حقبة احتلال تعمل مسلسلات الدراما على عرض بطولات “حارة” أجدادهم ضدّ وجودها. في لبنان قتلت دمشق، في عهد حافظ الأسد، سفير فرنسا في بيروت، لوي دولامار، في أيلول 1981، وسهّلت قيام أذرع إيران بتفجير ثكنة للقوات الفرنسية هناك في تشرين الأوّل عام 1983.
حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. اشتبهت فرنسا، في عهد الرئيس جاك شيراك، بضلوع نظام بشّار الأسد بالإثم إلى حدّ الاتهام والتجريم. كان الحريري صديقاً شخصياً لشيراك يسرّ إليه بأحوال الضغوط التي كان يمارسها عليه نظام الأسد، وخصوصاً قبل أسابيع من مقتله. عمل شيراك على حشد قطيعة غربية، وحتى أمميّة، ضد دمشق، وصلت إلى حدّ إنشاء لجنة تحقيق دولية وتمرير قرار في مجلس الأمن لإنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بهذه الجريمة لم يردع قيامها حاملو “حق النقض” في ذلك الحين.
ساركوزي يعيد التّواصل مع الأسد
سعى الرئيس نيكولا ساركوزي، نكاية بعهد شيراكيّ بات من الماضي، إلى إعادة الوصل مع سوريا ونظامها. دعا الأسد لحضور العرض العسكري لليوم الوطني، في 14 تموز 2008، إلى جانب شخصيات فرنسية ودولية عليا. غير أنّ فرنسا أعادت إكتشاف عبث رهان التغيير في سلوك النظام بعد 3 سنوات على سحب القوات السورية من لبنان، وصعوبة استمرار التواصل ببن باريس ودمشق بعد اندلاع الصراع داخل سوريا عام 2011، فاستدعت سفيرها من دمشق عام 2012 ولم يعد مذّاك.
رفع العلم الفرنسيّ
كان لافتاً، بعد أيّام على سقوط نظام بشّار الأسد، في 8 كانون الأول 2024، أنّ فرنسا أعادت رقع العلم الفرنسي فوق السفارة الفرنسية في دمشق. أعادت إنعاش تمثيلها الدبلوماسي من دون أيّ شروط، مكتفية بما أصدرته والأوروبييّن من مواقف تطالب الإدارة الجديدة بالالتزام بمعايير مكافحة الإرهاب، والحفاظ على حقوق الأقليّات، وتشكيل حكومة انتقالية تتمثل داخلها كافة مكوّنات الشعب السوري. بدت باريس مستعجلة في الوصل مع دمشق لتكون في الصفوف الأمامية للعودة إلى سوريا ونيل حصّة محتملة من أسواقها لاحقا.
قادت فرنسا لاحقاً مزاجاً أوروبيّاً داعماً لاحتضان التحوّل السوري، ومنحه الوقت، والفرص، وجعله نهائيّاً لا رجعة عنه. لم تكن صدفة أن يقوم وزيرا خارجية، فرنسا وألمانيا، وهما البلدان المؤسّسان للاتّحاد الأوروبي، بزيارة مشتركة لدمشق، في 3 كانون الثاني الماضي، لمقابلة قائد الإدارة الانتقالية آنذاك، أحمد الشرع، والتعرّف على مشروعه. عادت الوزيرة الألمانية لتبشّر في أوروبا بضرورة رفع العقوبات عن سوريا، فيما تولّى ماكرون، الأربعاء، الاتصال بالشرع، كأوّل رئيس غربي يعترف به رئيسا، مقدماَ له التهنئة بالمنصب الجديد.
قد يكون غريباً أن يتصل الرئيس الفرنسي بالشرع. فيما الرجل ما زال مدرجاً على لوائح الإرهاب. فيما يدور سجال بشأن دعوته الرئيس السوري لزيارة باريس. وسيكون مثيراً للاهتمام أن يجول الشرع بعد شهرين من مغادرته مقرّاته السرّية في إدلب، في قاعات الإليزيه متكلّماً إلى نخب الحكم في باريس ومنابر فرنسا الإعلامية. لكن الأمر، مع ذلك، يبدو من تقاليد باريس وفرادتها. سبق للرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، أن فاجأ فرنسا وأوروبا والعالم بدعوته، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لزيارة فرنسا عام 1989، وكان صيت الإرهاب لم يغادر بعد الزعيم الفلسطيني آنذاك.
لم يأتِ قرار ماكرون بالضرورة من ديناميّات فرنسية ذاتية. راقب الرجلّ بدقّة أداء الشرع، وتطوّر مواقفه، وتدرّج قراراته، وتوقيت تعيينه رئيساً. لكنّه أمعن قبل ذلك في معاني الموقف الحاضن الذي اتّخذته السعودية منذ اليوم الأوّل لتحرير دمشق وصولاً إلى استقبال وليّ العهد، الأمير محمد بن سلمان، الشرع رئيسا في عاصمة المملكة في 2 شباط الجاري. ومن يعرف العلاقة الشخصية الخاصة، التي اختبرتها تجارب عديدة، بين الرئيس الفرنسي والأمير السعودي لن يستبعد أن تكون همّة ماكرون باتّجاه الشرع هي وليدة إيحاءات من الأمير بأن تفتح باريس بوّابة الغرب أمام التحوّل السوري، كما فتحت الرياض أبوابها للشرق أمام الحدث التاريخي الكبير.
محمد قواص-اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|