الضمان: تعليق المهل القانونيّة والقضائيّة والعقديّة حتّى هذا التاريخ
أي شروط للخروج من الدولرة في لبنان؟ دروس من التجارب الدولية
وسط الأجواء التفاؤلية باستعادة الاستقرار في لبنان مع انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة وإعادة انطلاق العمل المؤسساتي، يطرح كثيرون السؤال حول إمكانية استعادة الثقة تدريجاً بالليرة اللبنانية، والخروج من الدولرة التي بلغت ذروتها وفرضت نفسها بشكل شبه كلي مع تغطية رسمية غير معلنة، أبرزها إصدار فواتير رسمية بالدولار الأميركي والقبول بالتسعير بالدولار الرسمي بل تسديد رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي.
الإشكالية الرئيسية تكمن في دراسة واقع الدولرة المزمنة في لبنان منذ الأزمة النقدية الأولى في الثمانينات، والانتقال من نظام سعر الصرف العائم إلى الربط بإنشاء مجلس نقد أو الدولرة الشاملة التي طغت تلقائياً... فما هي علمياً ونظرياً وتطبيقياً شروط الخروج من الدولرة المرتفعة المترسخة في الاقتصاد منذ سنوات؟ أي عوامل ومؤشرات أساسية ينبغي النظر إليها ومراقبتها وبحث إمكانية التأثير عليها؟ إلامَ تشير التجارب الدولية من عناصر فشل ونجاح محاولات إزالة أو خفض الدولرة؟ أي شروط يفترض تحقيقها قبل البحث باستعادة الثقة بالعملة الوطنية بشكل طوعي يعكس حقيقة السوق ولا يعاكسها؟
إنّ الخطوة الأولى نحو نزع الدولرة هي تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، مع التركيز على خفض التضخّم واستقراره بشكل موثوق. وتتضمّن سياسات الاستقرار تعزيز المالية العامة وسياسة نقدية مشدّدة بشكل مناسب لخفض معدّل التضخّم. ويعمل تعزيز المالية العامة على تقليل الحاجة إلى اقتراض الحكومة من البنك المركزي، كما تعمل السياسة النقدية الأكثر صرامة على الحَدّ من نمو الإئتمان. وتعمل كلتا السياستَين على كبح جماح الطلب الكلي، ممّا يؤدّي إلى انخفاض التضخّم، وفي نهاية المطاف، ارتفاع سعر الصرف الحقيقي و/أو الإسمي. وتعمل السياسات الموثوقة على كبح جماح التوقعات التضخّمية وخفض تكلفة الاستقرار. وعلى خلفية انخفاض التضخّم بشكل دائم، تنخفض الحاجة إلى التحوّط ضدّ التضخّم من خلال الاحتفاظ بالعملة الأجنبية بشكل كبير، ويمكن أن يتوسع الطلب على الأصول المقومة بالعملة المحلية.
إنّ سياسات إزالة الدولرة تحتاج إلى أن تُعَدّ بشكل مختلف تبعاً لنظام سعر الصرف. في ظل نظام سعر الصرف المرن فعلاً، تسعى الدولة عادة إلى استعادة استقلالية السياسة النقدية. إنّ ارتفاع سعر الصرف في أعقاب انكماش المعروض النقدي أثناء عملية الاستقرار يمكن أن يؤدّي إلى إعطاء دفعة لعملية إزالة الدولرة. وعليه، فإنّ التدخّل في سوق الصرف الأجنبي يجب أن يشير إلى أنّ البنك المركزي على استعداد لقبول ارتفاع سعر الصرف الإسمي (البرازيل والمجر). ويمكن للسلطات النقدية أن تتصوّر استهداف التضخّم بشكل مباشر، بالتالي تعزيز استقرار معدّل التضخّم، الذي يمكن التنبّؤ به بشكل أكثر دقّة، ممّا يعزّز فوائد الاستقرار الكلي.
في ظل أنظمة سعر الصرف الأقل مرونة، فإنّ الالتزام الموثوق به بسعر صرف ثابت من شأنه أن يقلّل من تكلفة الاستقرار الكلي، لأنّ السلطات لا تضطر إلى دفع تكلفة بناء السمعة. ومع ذلك، فإنّ النتيجة تعتمد بشكل حاسم على صدقية الربط.
إنّ توقعات خفض قيمة العملة من شأنها أن تزيد من مخاطر التخلّف عن السداد بالعملة الأجنبية، في حين أنّ توقعات التدخّل لمساعدة المقترضين على سداد ديونهم بالعملة الأجنبية بعد خفض قيمة العملة من شأنها أن تستمر في تشجيع الاقتراض بالعملة الأجنبية (الخطر الأخلاقي). وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الربط المستمر بالعملة الأجنبية لا يسمح بسياسة نقدية مستقلة (بالكامل). ومن خلال إزالة الدولرة، قد تهدف السلطات إلى استعادة حقوق إصدار العملة، وتكييف العملة المتداولة مع الاحتياجات المحلية، وإدخال نظام سعر صرف أكثر مرونة في نهاية المطاف، أو التخفيف من المخاطر التي تهدّد الاستقرار المالي.
وقد تستمر الدولرة حتى ولو أدّى الاستقرار الناجح إلى زيادة جاذبية العملة المحلية (راينهارت وروغوف وسافاستانو، 2003). وعلى رغم من أنّ الاستقرار يقلّل من مخاطر استخدام العملة المحلية، فإنّه لا يزيد من وعي القطاع الخاص بمخاطر الدولرة المالية. كما أنّه بمجرّد أن يعتاد الجمهور على استخدام العملة الأجنبية في المعاملات المحلية، فقد تكون هناك حاجة إلى تدابير إضافية لتغيير هذا السلوك الراسخ، وخصوصاً في سياق الدولرة المالية.
وكأثر جانبي للاستقرار الاقتصادي الكلي، فإنّ تعزيز الثقة في العملة المحلية قد يدعم أيضاً شكلاً معيناً من أشكال الدولرة المالية. وتوفّر توقعات الجمهور بارتفاع قيمة العملة المحلية رهاناً في اتجاه واحد للاقتراض بالعملة الأجنبية، ممّا يدعم الطلب على القروض بالعملة الأجنبية. وما دامت البنوك تستفيد من سهولة الوصول إلى التمويل الأجنبي (تدفّقات رأس المال)، فإنّها ستستفيد أيضاً من ارتفاع قيمة العملة المحلية من خلال الحفاظ على مركز مفتوح قصير الأجل، الأمر الذي يشجّع الإقراض بالعملة الأجنبية. وعلى رغم من أنّ تكافؤ أسعار الفائدة المغطاة قد يصمد في الأمد المتوسط إلى الطويل، فإنّ التحكيم يحدث عموماً في الأمد القريب، لأنّ فروق أسعار الفائدة غالباً ما لا تغطّي تقلّبات أسعار الصرف، الأمر الذي يشجّع العملاء الاقتصاديّين على دولرة ميزانياتهم العمومية.
إنّ السياسات والتدابير الإضافية يمكن أن تساعد في الحدّ من الدولرة بمجرّد وضع خطة موثوقة لاستقرار الاقتصاد الكلي. وقد تكون هذه السياسات والتدابير قائمة على السوق أو قسرية اعتماداً على مدى ترسخ الدولرة. وهي تشمل مجموعة واسعة من السياسات والتدابير التي تتراوح من سياسات سعر الصرف إلى التدابير الإدارية لضبط استخدام العملات الأجنبية.
وتؤكّد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة، أنّها تعتبر الدولرة المرتفعة السبب الأساس للانتقال من نظام سعر الصرف العائم إلى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أنّ الدولرة في لبنان تعكس حالَ هستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد... وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان، بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصاد اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.
علماً أنّ معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادة وصراعات تُفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشة، وهي معظمها أيضاً بلدان صغيرة الحجم منفتحة الأسواق ويطغى فيها قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير... وفق علم السياسة النقدية، تتطوّر الدولرة عموماً عندما لا تؤدّي العملة المحلية أداءها الأساسي لوظائفها كما يجب، مقارنةً بالعملات الأخرى التي يمكن الوصول إليها. الوظائف الأساسية للعملة هي القيمة الاحتياطية، ووسائل الدفع، ووحدة الحساب.
ومن أبرز التدابير التي فشلت في كثير من الأحيان:
• التحويل الإلزامي للودائع الأجنبية إلى العملة المحلية: أدّت هذه التدابير في كثير من الأحيان إلى زيادة هروب رأس المال وإلغاء الوساطة (بوليفيا والمكسيك في عام 1982 وبيرو في عام 1985). وفي بعض الحالات، اضطرّت السلطات إلى عكسها (بوليفيا وبيرو).
• تعليق الوصول إلى شهادات الإيداع بالعملة الأجنبية: يمنع هذا الإجراء المودعين من سحب ودائعهم بالدولار من البنوك لفترة زمنية معيّنة (لا يُحدّد طول هذه الفترة دائماً مسبقاً). يمكن فهرسة شهادات الإيداع بالعملة الأجنبية المجمّدة وفقاً للتضخّم (الأرجنتين) أو يمكن استردادها بالعملة المحلية (باكستان). تُعرّض هذه التدابير الثقة في النظام المصرفي المحلي إلى الخطر، وغالباً ما تؤدّي إلى عدم الوساطة وهروب رأس المال.
الإجراءات التي حققت النتائج المتوقعة بشكل متكرّر:
• فترة الاحتفاظ الإلزامية لأوراق النقد الأجنبية - يمكن أن يقترن هذا الإجراء بإدخال أدوات العملة المحلية المفهرسة (إسرائيل). أحد العيوب المحتملة لهذا الإجراء هو أنّه قد يُشجَّع الوكلاء الاقتصاديين على الاحتفاظ بالعملات الأجنبية نقداً بدلاً من إيداعها في حسابات البنوك.
• الاستخدام الإلزامي للعملة المحلية في المعاملات المحلية ولإدراج أسعار السلع والخدمات - يقترن شرط إدراج المعاملات المحلية بالعملة المحلية أحياناً بالالتزام بإجراء المدفوعات بالعملة المحلية (الملحق الأول، الجدول الرابع). إنّ منع استخدام العملة الأجنبية في المعاملات الداخلية هو إجراء شائع الاستخدام (أنغولا، إسرائيل، جمهورية لاو، بيرو، وغيرها). ومع ذلك، حتى إذا استمرّت المدفوعات بالعملة الأجنبية، فإنّ عرض الأسعار بالعملة المحلية يمكن أن يوفّر حافزاً إضافياً لإزالة الدولرة (جمهورية لاو).
• اللوائح التي تميّز ضدّ استخدام العملات الأجنبية: قد تشمل التدابير فرض حدود على الاقتراض أو الإقراض بالعملات الأجنبية (أنغولا، الأرجنتين، إسرائيل، لبنان، تركيا، وفييتنام)، واستبعاد الودائع بالدولار من نظام تأمين الودائع (فنزويلا). وما لم يكن الجمهور على علم جيد باستبعاد الودائع بالعملة الأجنبية من نظام ضمان الودائع، فقد يُشجّع ذلك البنوك على قبول المزيد من الودائع بالعملة الأجنبية.
• ضوابط رأس المال: إنّ فرض متطلبات الاستسلام الموقتة على عائدات النقد الأجنبي للمقيمين قد يؤدّي إلى انخفاض سريع في الودائع بالعملة الأجنبية. ويمكن تقييد الوصول إلى الودائع بالعملة الأجنبية على بعض الوكلاء الاقتصاديّين (المكسيك)، أو يُمكن حظر معاملات الائتمان عبر الحدود التي تجريها البنوك أو تتطلب موافقة مسبقة.
عادةً، يتطلّب إلغاء الدولرة مجموعة من سياسات الاقتصاد الكلي، والسياسات تَطال تدابير الاقتصاد الجزئي، لتعزيز جاذبية العملة المحلية مقابل العملة الأجنبية. وعلى خلفية استقرار الاقتصاد الكلي، اتُخذت تدابير عدة يمكن أن تعزّز إلغاء الدولار. وتتراوح بين التدابير القائمة على السوق التي توفّر الحوافز لعكس استبدال العملة، إلى التدابير التي تحظّر أو تحُدّ بشكل صارم من استخدام العملات الأجنبية العملة (إزالة الدولار قسرياً).
تُسهَّل عملية التخلّص من الدولرة من خلال التسلسل السليم للسياسات وتدابير الاقتصاد الجزئي. ومن الممكن أيضاً أن يتمّ التخلص من الدولرة بالتوازي مع سياسات الاستقرار الشامل.
في كلتا الحالتَين، يتعيّن على صنّاع السياسات أن يأخذوا في الاعتبار المخاطر، بما في ذلك هروب رؤوس الأموال، عدم الوساطة وعدم استقرار القطاع المصرفي.
الخطوة الأولى نحو التخلّص من الدولرة هي تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، مع التركيز على تخفيضٍ موثوق للتضخّم واستقراره. وتشمل سياسات الاستقرار المالية وتوحيد السياسة النقدية وتشديدها بشكل مناسب لخفض معدل التضخم.
خلال الدولرة ومع إلغائها، قد تهدف السلطات إلى استعادة رسوم سك العملات، تكييف كمية تداول العملة الوطنية مع الاحتياجات المحلية، إدخال نظام أكثر مرونة لسعر الصرف في نهاية المطاف، أو التخفيف من المخاطر التي تهدّد الاستقرار المالي.
توفّر توقعات ارتفاع قيمة العملة المحلية رهاناً أحادي الاتجاه لاقتراض العملات الأجنبية، ممّا يدعم الطلب على القروض بالعملة الأجنبية. طالما أنّ المصارف تستفيد من سهولة الوصول إلى التمويل الأجنبي (تدفّق رأس المال)، فإنّها ستستفيد أيضاً من ارتفاع قيمة العملة المحلية من خلال الحفاظ على مركز مفتوح قصير الأجل، وتشجيع الإقراض بالعملة الأجنبية. قد يساعد إدخال متطلبات الإحتياطي الإلزامي، والودائع الدائمة وتسهيلات الإقراض وعمليات السوق المفتوحة، في استقرار الاقتصاد المحلي وسعر الفائدة بين المصارف.
كما أنّ ضبط الأوضاع المالية يمكن أن يساعد في تقليل الحاجة الحكومية للاقتراض بالعملة الأجنبية، بالتالي تقليل دولرة الحكومة بشكل مباشر لالتزاماتها. كما أنّه يقلّل من الحاجة إلى تمويل البنك المركزي للديون الحكومية، ممّا يساهم في تقليل الفرق بين أسعار الفائدة المحلية والأجنبية.
فضلاً عن ضرورة إدارة نَشطة للدين العام، تهدف إلى إصدار سندات محلية، ومن شأن السندات المقومة بالعملة (إذا لزم الأمر، مع مؤشر التضخّم) أن تؤدّي إلى إلغاء الدولرة في الميزانية العمومية للحكومة، وتعزيز سوق الأوراق المحلية، والسماح بالمزيد من المرونة في سعر الصرف.
وفي ظل غياب الثقة بالعملة المحلية، فإنّ وجود نظام ربط موثوق به يمكن أن يعزّز الاستثمارات في مثل هذه الأصول. إنّ تحرير البنوك من الضوابط الإدارية على تحديد أسعار الفائدة يجعل من الأرجح أن تصبح أسعار الفائدة الحقيقية المحلية إيجابية، ممّا يساعد في تعزيز استخدام العملة المحلية.
ويجب أن تعمل الحكومة بالعملة المحلية إلى أقصى حَدّ ممكن، عبر زيادة الضرائب بالعملة المحلية التي يمكن أن تدعم زيادة الطلب على هذه العملة، وكذلك المدفوعات العامة للأجور والسلع والخدمات من خلالها. كما أنّ استخدام المساعدات الأجنبية بالعملة المحلية - المساعدات الخارجية إذا استُخدِمت بالعملة الأجنبية في البلد المتلقّي قد يَزيد من الدولرة. في البلدان الصغيرة أو في مرحلة ما بعد الصراع، التي غالباً ما تكون على درجة عالية من الدولرة، يمكن للمساعدات الخارجية أن تؤدّي دوراً كبيراً في الاقتصاد.
يبقى القول إنّ عملية الخروج من الدولرة المزمنة إذ ثمة «إدمان على التعامل بالدولار» تتطلّب استقراراً اقتصادياً كلياً موثوقاً وتنفيذ سياسات إصلاحية جذرية ووقتاً طويلاً للتأكّد من فعاليتها. والبرهان، أنّه حتى بعد تثبيت سعر الصرف في لبنان أكثر من 20 سنة لم تتراجع الدولرة أبداً بل ازدادت.
وفي بعض الحالات، قد يكون من الضروري تنفيذ تدابير لفرض استخدام العملة المحلية جنباً إلى جنب مع سياسات الاستقرار الاقتصادي الكلي، أو ربما تقبّل الدولرة الراسخة وحسن التعامل معها ومواكبتها بنظام سعر الصرف والتدابير الأنسب.
د. سهام رزق الله - الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|