"الأشغال": ملتزمون بتوضيح نتائج التحقيقات بِحادثة تجمع المياه
دروز سوريا مُستفرَدون… بانتظار الدّولة المدنيّة
تشهد المنطقة المشغولة بمشاريع تهجير فلسطينيّي غزة وتطويق مخيّمات الضفّة الغربية وتدميرها، انكشاف إحدى حلقات المشروع الإسرائيلي في الجنوب السوري من بوّابة دروز جبل العرب. الغالبيّة العظمى من طائفة الموحّدين الدروز في سوريا ولبنان المتمسّكين بوحدة بلدَيهم تجتاز مرحلة من المخاوف والتحدّيات غير المسبوقة في تاريخها. نعم المخاوف، التي عبّر عنها رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، تختصر المشهد والآتي أعظم.
الأسئلة المشروعة عند طائفة الموحّدين الدروز متعدّدة، ومنها: لماذا الدروز؟ وماذا تريد إسرائيل؟ وكيف نواجه؟ وهل هذه معركة الدروز وحدهم؟ وهل هناك إدراك ووعي عربيّان لمخاطر ما يجري في الجنوب السوري؟ وهل تُترك طائفة الموحّدين الدروز بمفردها في مواجهة المشروع الذي يستهدف سلخها عن عقيدتها ومبادئها وتاريخها ومحيطها؟ وهل من إدراك أنّ العبث الإسرائيلي بالبوّابة الدرزيّة في جبل العرب، هو عبث بوحدة سوريا ومفتاح لتقسيمها؟
يتساءل الدروز: هل هي لعنة الجغرافية أم لعنة المؤامرات؟ الأسئلة لم تتوقّف عندهم، وهناك إجماع بينهم على أنّ المسألة ليست الدروز فقط، بل سوريا والمنطقة، فهل مَن يسمع لهم؟
المشروع أبعد من حماية وحكم ذاتيّ للدّروز
إقامة دولة درزية في سوريا ولبنان حلم إسرائيلي قديم. الجديد في طرح هذا المشروع في سوريا اليوم أنّه يأتي في إطار التخطيط “لإسرائيل الكبرى” أو ما يطلق عليه الإسرائيليون “الشرق الأوسط الجديد”. وتشكّل “الجغرافية الدرزيّة” في الجنوب الشرقي من سوريا وصولاً إلى جرمانا في ريف دمشق مفتاحاً أساسيّاً لهذا المشروع. وتشكّل “الجغرافية الكردية” في الشمال الشرقي لسوريا المفتاح الآخر.
بعد سقوط نظام آل الأسد في 8 كانون الأوّل الماضي، لم تخلُ الصحافة الإسرائيلية من مقال أو أكثر يوميّاً يناقَش فيه مستقبل سوريا. وقد تراوحت الأفكار والمشاريع المطروحة بين النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل بين إقامة نظام فدراليّ وحكم ذاتي في المناطق الدرزية والكردية، وبين تقسيم سوريا كما يخطّط نتنياهو واليمين المتطرّف في حكومته.
ركّز عدد من المقالات على أنّ “مصلحة إسرائيل هي في تقسيم سوريا إلى أربع دويلات: دولة درزية بحماية إسرائيلية، ودولة علويّة في الساحل السوري بحماية روسيّة، ودولة كردية في الشمال الشرقي بحماية إسرائيلية أميركية، ودولة سنّية في الشمال والوسط بحماية تركيّة”.
ليست بعيدةً تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، التي تطالب الروس بعدم إخلاء قواعدهم في الجنوب السوري، عمّا يروّجون له من أنّ روسيا هي القوّة الوحيدة المؤهّلة لحماية الدولة العلويّة. يقع في إطار التحضير لتفتيت سوريا الخطُّ البيانيُّ كلُّه لأفعال بنيامين نتنياهو وتصريحاته منذ أن دمّر الأصول الاستراتيجيّة للجيش السوري، وأمر القوّات الإسرائيلية باحتلال المنطقة العازلة ومرتفعات جبل الشيخ تحت ذرائع مختلفة.
إذ صرّح أمام هيئة القضاة التي كانت تستجوبه في تهم الفساد الماليّ أنّه “منذ مئة عام تتغيّر للمرّة الأولى حدود سايكس بيكو”. يندرج في هذا السياق التصريح الذي أطلقه منذ أيّام في حفل تخريج الضبّاط، والذي طالب فيه بانسحاب قوّات السلطة الجديدة في دمشق من الجنوب السوري وادّعى حماية دروز جرمانا الذين لم يطلبوا الحماية بشهادات إسرائيلية، ويترافق مع التوغّلات البرّية وتوسيع الاختراقات في النسيج الاجتماعي لسكّان الجنوب السوري.
الدّعوة لحماية الدّروز ذريعة لصراع أكبر
لتأكيد استخدام ذريعة الحماية من أجل صراع أكبر تستعدّ له إسرائيل على أرض سوريا، كتب دروني شكيد في “يديعوت أحرونوت”: “مع تراجُع التأثير الإيراني، تجد إسرائيل نفسها في مواجهة واقع جديد يمكن أن يكون أكثر خطراً، وهو أن تتحوّل سوريا إلى ساحة نفوذ تركيّ، مع نظام إسلامي متطرّف يمكن أن يكون معادياً لها، مثل النظام الإيراني”. أضاف: “الصراع على النفوذ في سوريا لم ينتهِ بعد. لكن مع ازدياد طموحات رجب طيب إردوغان واستمرار دعمه للفصائل الإسلامية في سوريا، يبدو أنّ المنطقة تتّجه نحو تصعيد جديد يمكن أن يتوسّع، وأن يصل إلى قلب النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني”.
يُستنتج من هذا الكلام أنّ المشروع هو أكبر من حكم ذاتي للدروز أو دويلة أو حماية من هنا وهناك، بل تحضيرٌ للصراع الآتي على سوريا من خلال الجغرافية الدرزية والجغرافية الكردية. لكنّ الفارق الأساسي بين هاتين الجغرافيتين هو أنّ المشروع الذي ينخرط فيه أكراد قوّات سوريا الديمقرطية “قسد” والعلاقات الوثيقة بينها وبين الإسرائيليين يشكّلان نقيضاً لتاريخ جبل العرب المجبول بالتضحيات من أجل وحدة سوريا وعروبتها.
الفرق أيضاً أنّ “قسد” تمسك بالسلّة الغذائية لسوريا، وتقع أهمّ آبار النفط والغاز تحت سيطرة القوّات الأميركية التي تدعمها، بينما يرزح جبل العرب تحت الإهمال التاريخي الذي مارسه حكم آل الأسد. إذ تفتقر بلدات الجبل وقراه إلى الحدّ الأدنى من البنى التحتية، وتسجّل معدّلات الفقر والبطالة فيه أعلى نسبة بين المناطق السوريّة.
الدّروز جزء من نسيج أوطانهم
ثمّة موقف سياسي يحظى بإجماع أبناء طائفة الموحّدين الدروز من المشايخ والزمنيّين منذ قيام الدولة الوطنية في سوريا والأردن ولبنان، وهو أنّ الدروز في أوطانهم هم جزء لا يتجزّأ من النسيج الوطني، ولا يملكون أيّ مشاريع خاصّة خارج دولهم بغضّ النظر عن النظام السياسي القائم وطبيعته.
ثمّة إجماع أيضاً على أنّ دروز فلسطين، الذين قرّروا البقاء في أرضهم على الرغم من الأخطار الكبيرة، لهم وضعهم الخاصّ، وهم أدرى بكيفية الحفاظ على هويّتهم وتراثهم. يشهد تراث طائفة الموحّدين الدروز أيضاً الفصل بين الحقلين الزمني والديني. إذ ينحصر الدور السياسي بالحقل الزمني ويقوم الحقل الديني بدوره المعروفيّ. وهذا ما سارت عليه الطائفة ولم يسبق أن جرى تداخل بين هذين الحقلين.
يعلم الشيخ موفّق طريف حقيقة هذا الفصل القائم واستحالة كسره مهما بلغت الطموحات الشخصية وتداخلت مع المشاريع من هنا وهناك. دروز سوريا ولبنان الذين تمكّنت قياداتهم التاريخية من الحفاظ على بوصلتهم السياسية في أحلك الأوضاع وأصعبها، وقاوموا الاحتلالات والانتداب والوصايات وقدّموا التضحيات الهائلة، لم يفوّضوا أحداً تمثيلهم.
إلى ذلك لم يطلب أهالي جرمانا الحماية من أحد، وهذا ما تمّ تأكيده في عدد من الصحف الإسرائيلية التي تناقلت الجدل الذي أحدثه ادّعاء نتنياهو حماية دروز الجبل.
صحيح أنّ الدروز هم مثل طبق النحاس إذا دققت عليه ينتشر الصوت في كلّ أرجائه، والصحيح أيضاً أنّ التعاضد بينهم في الأزمات والمحن بقي في إطار الاحتفاظ بثوابتهم الوطنية والعربية والإسلامية، وهذا ما يعرفه جيّداً أبناء الطائفة في إسرائيل من زمنيّين ورجال دين. لذلك من الأفضل أن يبقى التعاضد بين الدروز على ما هو عليه من قيمة اجتماعية ورسالة في حفظ الإخوان تتميّز بها الطائفة، وألّا يتمّ استخدامه للتشجيع على الانفصال عن الأوطان خدمة لمشاريع التقسيم والتفتيت. الدروز الذين أطلق عليهم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لقب “سيف الإسلام” يتشبّثون بانتمائهم العربي والإسلامي ولن يسمحوا لنتنياهو والمعجبين بسياسته باستخدامهم حصان طروادة لتفتيت سوريا.
السّاحة الدّرزيّة السّوريّة محصّنة.. ولكن؟
إعلان نتنياهو حماية دروز سوريا لم يلقَ صدى إلّا في بعض الاختراقات القائمة، التي ما زالت محدودة، ومنها المجلس العسكري في السويداء الذي لا يملك حجماً تمثيليّاً حتّى الآن. إذ تشكّل القوى التي قاومت نظام الأسد وشاركت في إسقاطه الأكثريّة التي تمسك بالأرض.
تنسّق هذه الأكثريّة مع وزارة الدفاع السورية في إطار التفاهم القائم على مجموعة من المبادئ التي ترعى المرحلة الانتقالية. والتظاهرات التي جرت في ساحة الكرامة في مواجهة دعوات الحماية المشبوهة، تؤكّد أنّ تراث سلطان باشا الأطرش وشكيب أرسلان وكمال جنبلاط لا يزال حيّاً، وأنّ الجبل بغالبيّته النخبوية والشعبية يتمسّك بتاريخه وهويّته السورية والعربية.
السؤال: هل هذا يكفي للمواجهة؟ وهل علينا أن ننام على حرير؟ بالطبع لا، لأنّ حجم الرهانات التي يعقدها نتنياهو على نجاح هذا المشروع التقسيميّ كبير جداً، والمواجهة تتطلّب فهماً دقيقاً للواقع. إذ إنّ هناك نقاط ضعف تجب معالجتها. والآن ليس وقت المنافسة على الزعامة في الجبل، والقيادة الحقيقية تتطلّب القبول بأدوار الآخرين وعدم الوقوف في المنطقة الرماديّة. وتتطلّب أيضاً القناعة بأنّ ما يجري من استهداف للجبل ليس شأناً داخليّاً، بل قضية وطنية وعربية وإسلامية كلّنا معنيّون بها.
تمتدّ نقاط الضعف هذه إلى ما يعرض على دروز الجبل من حوافز اقتصادية للعمل في إسرائيل. وفي إطار لعبة الحوافز والإغراءات، بدأت هذه الأخيرة بتنفيذ شبكات مياه الشفة في عدد من البلدات في محافظتَي القنيطرة ودرعا التي أذلّها حكم آل الأسد، وتركها فريسة الحرمان والفقر والتخلّف.
أمّا الدور الذي يقوم به بعض قادة “قسد” في تقديم المساعدات إلى المجلس العسكري والتنسيق معه، فيعقّد الأمور ويؤكّد حجم المخطّط والربط الذي يقيمه الإسرائيليون في مشروعهم بين الجغرافية الدرزية والجغرافية الكردية في شمال شرق سوريا.
يندرج هذا الربط أيضاً في إطار تهيئة الظروف لتسهيل قيام ممرّ داود الذي يجتاز الحدود الشرقية لمحافظة السويداء وصولاً إلى مناطق الأكراد في الشمال الشرقي لسوريا. فهل من أحد يقدّم النصح إلى “قسد” بالتوقّف عن التدخّل في شؤون جبل الدروز؟
تبقى نقطة الضعف المهمّة أيضاً، وهي الخوف الذي يسيطر على معظم أبناء الجبل من المستقبل الذي لم يظهر لهم على حقيقته. تؤيّد الأكثرية الساحقة من دروز الجبل قيام نظام سياسي تعدّدي ودولة مدنية قائمة على نظام إداري لامركزي، والتأخير في انطلاق هذا المسار يضاعف مخاوفهم ويجعلها مصدراً للاستغلال في هذه المرحلة الحسّاسة.
التعامل مع الأقلّيات في سوريا كإرث من المسألة الشرقية خطأ كبير، والمطلوب الإسراع بتشكيل حكومة تعكس التنوّع في سوريا وتبعث على طمأنة كلّ الأقلّيات الخائفة. إذ لا يكفي أن نقول لهم لا تخافوا، بل يجب أن يشعروا بأنفسهم أنّهم غير خائفين.
التّاريخ المجبول بالتّضحيات باقٍ
وليد جنبلاط الذي ينتظر السادس عشر من آذار لطيّ صفحة اغتيال والده الشهيد كمال جنبلاط بعد انهيار حكم آل الأسد، رفع الصوت وحذّر وحدّد المواقف بوضوح. وسيذهب قريباً إلى الشام للقاء أحمد الشرع، والتأكيد أنّ الموقف الدرزي هو على الجانب الصحيح من التاريخ، وأنّ لعنة المؤامرات لن تمحو تاريخاً من النضال تعمّد بالدماء والتضحيات الكبرى، ولن تتمكّن من تحويل أحفاد سلطان باشا الأطرش إلى حرس حدود في المشروع الصهيوني.
بعد مواقف جنبلاط هذه، ينتظر الدروز من يلاقيهم إلى هذه المواجهة، لأنّ تداعياتها تطال مستقبل سوريا والمنطقة. صحيح أنّ مشروع تهجير أهالي غزّة خطوة على طريق إنهاء القضية الفلسطينية ويمسّ بالأمن القومي العربي، لكنّ مشروع السيطرة الإسرائيلية على الجنوب السوري يستهدف أيضاً أمننا القومي، ويفتح الطريق أمام تقسيم سوريا وإدخالها في فوضى وحروب أهليّة لا نهاية لها.
ليست هذه المعركة برسم الدروز بمفردهم، بل هي معركة السوريين، ومعهم العالم العربي. الجميع ينتظر موقفاً عربيّاً بحجم المشروع الخطير الذي يهدّد وحدة سوريا، وأن لا يتركوا الدروز مستفردين.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|