اتفاقية الهدنة كمخرج آمن
لم يشكّل الهجوم الجوي الأميركي على اليمن مفاجأة بالمعنى الفعلي للكلمة. فهو جاء مباغتاً أكثر منه مفاجئاً. فمنذ أيام معدودة أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنّ المرحلة النهائية لمعالجة الملف النووي الإيراني بدأت، وما من شك أنّ الهجوم الجوي الأميركي على الحوثيين يأتي في سياق توجيه رسائل نارية لإيران، ومفادها أنّ التعامل بالقوة وارد أيضاً.
لكن قبل التطرّق الى آخر معطيات التطورات الأميركية ـ الإيرانية، لا بدّ من قراءة المشهد بأبعاده العريضة، ما سيسّهل قراءة خلفيات التطورات في الشرق الأوسط. ذلك أنّ الإستراتيجية التي رسمتها إدارة دونالد ترامب تركّز على محورية البدء باحتواء تمدّد التنين الصيني. ووفق هذا المعطى برّر ترامب انفتاحه الغريب على روسيا، ولو على حساب العلاقة التحالفية التاريخية مع دول أوروبا الغربية، بأنّه يدخل في إطار اجتذاب موسكو وتقنياتها العسكرية لإبعادها عن بكين وحرمانها من تطوير قوتها العسكرية. رغم أنّ هذه العلاقة الغريبة بين البيت الأبيض والكرملين لم يهضمها بعد الرأي العام الأميركي. فوفق آخر استطلاع للرأي أجرته وكالة «رويترز» و»إيبسوس» أبدى 56% إعتقادهم بأنّ رئيسهم بات قريباً جداً من روسيا. وفي استطلاع آخر أجرته شبكة CNN أبدى 59% معارضتهم لنهج ترامب في تعامله مع موسكو وطريقة معالجة الملف الأوكراني. في الواقع تضع إدارة ترامب هذا الإنقلاب في سياستها التقليدية الخارجية في إطار «محاصرة» الصين تمهيداً لاستفرادها واحتواء نموها، قبل أن تنجح في تعزيز قدراتها العسكرية وتطويرها.
لذلك باشرت هذه الإدارة في تضييق الخناق على إمكانية وصول الصين إلى التكنولوجيا الأميركية المتطورة، وعلى استثماراتها في البنية التحتية الأميركية. وفي أحدث مذكرة وجّهها البيت الأبيض إلى عدد من الوزارات، تمّ الطلب بإعادة صوغ العلاقات الإقتصادية مع الصين من خلال اقتراح سلسلة قيود، بما في ذلك حظر استخدام رؤوس أموال أميركية لتحديث الجيش الصيني والتكنولوجيا والتصنيع المتطور ... ذلك أنّ الإدارة الأميركية تراهن على أنّ خفض الصادرات الصينية سيساهم في إبطاء النمو الصيني، وبالتالي سيخفف من تطورها العسكري السريع، على أن يحصل ذلك من دون التورط في صدام مباشر معها، في هذه المرحلة على الأقل. وبتعبير آخر، استبدال سياسة العقوبات بسياسة القيود الإقتصادية.
وفي مجلس النواب الأميركي عمد الحزب الجمهوري إلى تشجيع استخدام مصطلح «تايوان» بدلاً من «تايبيه الصينية»، في رسالة واضحة إلى بكين حول وضع تايوان كدولة مستقلة.
وفي تفسير جديد لحرب الرسوم الجمركية الدائرة مع كندا والمكسيك، ثمة كلام أميركي بأنّها تأتي في إطار قطع طريق الإلتفاف الصيني على الإجراءات الأميركية المباشرة على الصادرات الصينية. والمقصود هنا استخدام الصين لممرات غير مباشرة في اتجاه الأسواق الأميركية عبر شركات كندية ومكسيكية. واستطراداً فإنّ سعي واشنطن لاجتذاب روسيا ولو تضرّرت أوروبا، وأيضاً تضييق الخناق الإقتصادي الصيني ولو على حساب العلاقة مع الجارتين الشمالية والجنوبية، لا بدّ من استكماله من خلال إغلاق كل المساحة في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي كانت نجحت بكين في التسلل إليها تمهيداً للتغلغل فيها واستخدامها لاحقاً كجسر في اتجاه أفريقيا وأوروبا. وكانت بكين قد نجحت سابقاً في استمالة السعودية بسبب التعامل الأميركي مع ملف اليمن. كما أنّ الحضور الصيني قابل لأن يتطور عسكرياً من خلال إيران، وحيث أنّ الصين عقدت شراكة استراتيجية معها، وعملت في الوقت عينه على شراء النفط الإيراني الخاضع للعقوبات الأميركية.
وبالتالي، فإنّه بات ملحاً بالنسبة إلى البيت الأبيض معالجة النزاعات المفتوحة في المنطقة، والتي تشكّل إيران الطرف الأساسي فيها، والهدف الفعلي منع الصين من الإصطياد في مياه الشرق الأوسط العكرة. من هنا اعتبار ترامب أنّ المرحلة النهائية بدأت لإقفال الملف مع إيران، إن عبر التفاوض أو بالقوة. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير ارتفاع مستوى الحماوة مجدداً.
ومنذ فترة غير بعيدة، زار وزير الدفاع السعودي العاصمة الأميركية، حيث اجتمع بنظيره الأميركي ومسؤولين أمنيين وعسكريين. يومها تردّد أنّ السعودية عانت كثيراً بسبب «الميوعة» الأميركية أيام جو بايدن في الملف اليمني. وأنّ السعودية التي تستعد لنقلة ضخمة على المستويين الإقتصادي والسياحي ملزمة بالبحث عن كل السبل لحماية طموحها. وبعد مغادرته واشنطن بفترة وجيزة، توجّهت حاملة الطائرات الأميركية هاري ترومان مع المجموعة البحرية الهجومية التي تواكبها في اتجاه بحر الخليج، وكنا قد أشرنا يومها إلى ذلك. وانتقال هذه القوة البحرية الهجومية إلى المنطقة كان إيذاناً بأنّ تحركاً ما سيحصل ويتمّ التخطيط له بعناية، وهو ما تمّت ترجمته بالهجمات المباغتة، والتي أعلن البيت الأبيض أنّها ستكون ضمن سلسلة ولفترة مفتوحة.
صحيفة «وول ستريت جورنال» أدرجت ما يحصل في إطار أهداف ثلاثة:
ـ استهداف منصات إطلاق الصواريخ التي تطاول السفن التجارية في البحر. وهذا الهدف موجّه بالدرجة الأولى إلى الداخل الأميركي الذي يعاني من ارتفاع الأسعار بسبب التكلفة الإضافية التي تتكبّدها السفن لإضطرارها سلوك طريق بحري طويل ومكلف.
ـ استهداف قيادات الحوثي لإضعاف قدراته التنظيمية.
ـ توجيه رسالة نارية إلى إيران مفادها أنّها ستكون التالية. ما يعني أنّ ضرب قدرات الحوثيين (وليس ضرب الحوثيين) هو بديل أولي من ضرب إيران إذا لم تتجاوب مع ما يُعرض عليها للتفاوض. مع الإشارة هنا إلى رسالة ترامب إلى طهران عبر الإمارات، والتي قيل إنّها كانت رسالة حادة.
وفي موازاة ذلك، عمدت واشنطن إلى فتح خطوطها الخلفية مع الإدارة السورية الجديدة. وصحيح أنّ تركيا تحتضن الرئيس السوري أحمد الشرع، إلّا أنّه تمّ تسجيل انفتاح سعودي وأردني في اتجاهه. وتردّد أنّ الخط الخلفي المفتوح بين واشنطن والشرع طابعه أمني، وهو الذي مهّد وعبّد الطريق أمام المصالحة مع «قسد». وقيل إنّ أحد المطالب كان طلب إخراج كل العناصر من غير السوريين والذين ينضوون في تنظيمات إسلامية إلى خارج الحدود السورية. ويُحكى أيضاً أنّ واشنطن تعوّل جداً على الدور الأردني مع دمشق، وحيث أنّ الدوائر الأميركية تبدي تقديرها لحرفية العمل الأردني في هذا المجال. طبعاً، فإنّ التركيز الأميركي على الوضع السوري لا ينحصر فقط في إطار إغلاق الثغرات التي يمكن أن تتسلّل عبرها إيران للعودة إلى سوريا بل أيضاً بسبب وجودها في جوار العراق، وحيث لا تزال تحتفظ إيران بقوتها عبر عدد من الفصائل، وحيث من المحتمل أن تعيد تحريكها ضدّ القواعد والمصالح الأميركية في إطار الردّ الإنتقامي.
أما بالنسبة إلى الساحة اللبنانية، فهي تخضع للقواعد نفسها، خصوصاً مع وجود عدد من الإشارات التي تدلّ إلى سعي طهران لإعادة بناء القوة العسكرية لحزب الله ولو وفق الظروف المستجدة، في وقت بدت مواقف حزب الله واضحة حيال التمسّك بعدم تسليم السلاح خصوصاً شمال الليطاني تحت أي ظرف كان.
فواشنطن ومن خلفها إسرائيل، تدركان أنّ إيران وحزب الله يسعيان لابتكار أساليب جديدة لتهريب السلاح إلى لبنان. وفي الوقت نفسه ترفض إسرائيل إنجاز انسحابها الكامل تحت هذا العذر، وتطالب بمنطقة عازلة تمتد من الليطاني إلى الحدود.
وخلال الأيام الماضية ساد لغط كبير حول نية إسرائيل تتويج المفاوضات بإقرار لبنان التطبيع مع إسرائيل. وتعالت أصوات إسرائيلية عدة تدعو إلى ذلك. وما عزز هذا الكلام تلك الدعوة إلى تشكيل ثلاثة وفود للتفاوض، وعلى أن يجري تطعيمها بوجوه مدنية وليس فقط عسكرية. لكن من الواضح أنّ الذين يدعون لهذا التوجّه لا يعرفون لبنان جيداً ولم يقرأوا في تاريخه. في الواقع ليس هنالك من عاقل في لبنان يعتقد ولو للحظة أنّ البلد من الممكن أن يذهب في هذا الإتجاه. وموقف رئيس الجمهورية كما رئيس الحكومة واضح وثابت في هذا الإطار.
صحيح أنّ الوفود الثلاثة تهدف للتفاوض على المطالب اللبنانية الثلاثة، وهي إتمام الإنسحاب الإسرائيلي من التلال الخمس، وإطلاق جميع الأسرى، وتثبيت الحدود البرية، إلّا أنّ تطعيم الوفود بأخصائيين يهدف لتأمين مفاوضات دقيقة وليس الذهاب أبعد من ذلك.
واشنطن نقلت رغبة إسرائيل بأن تحصل المفاوضات خارج لبنان، كمثل قبرص أو بلد أوروبي آخر. لكن لبنان أبدى رفضه لذلك، وهو تمسك بالناقورة مكاناً للتفاوض. في الواقع قد يكون الهدف الذي يسعى إليه لبنان هو الذهاب إلى استعادة إتفاقية الهدنة التي تمّ إقرارها في 23 آذار 1949، ولكن مع تعديل أساسي. ففي المادة الخامسة من الإتفاقية تمّ تحديد القوات على جانبي الحدود بـ1500 ضابط وجندي. وهذا العدد لا يتناسب مع الواقع الحالي. مع الإشارة إلى أنّ المادة الأولى تنص على عدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية قضية فلسطين، وامتناع الجانبين عن اتخاذ أي عمل عدائي ضدّ الجانب الآخر. والمهم أنّ واشنطن أبلغت إلى المسؤولين اللبنانيين أنّ عدم تطبيق ما اتُفق عليه عند إعلان وقف إطلاق النار سيؤدي إلى عدم الضغط على إسرائيل، ما يعني احتمال عودة الحماوة وربما أكثر. كذلك لن تكون هنالك مساعدات مالية لإعادة الإعمار، أضف إلى ذلك أنّ واشنطن ستكون مضطرة للإبتعاد عن لبنان بسبب مشاغلها الهائلة على المستوى الدولي. وفهم أنّ واشنطن أعطت مهلة أسابيع لترتيب الأمور.
ويربط البعض بين مهلة الأسابيع التي أعطتها واشنطن للبنان والتطورات المتوقعة على المستوى الإيراني. فالمرحلة النهائية التي تحدث عنها ترامب من المفترض أن تستهلك فترة مشابهة، خصوصاً وأنّ معالجتها تحصل على نار اليمن، وحيث أعلنت واشنطن أنّ الغارات ستكون في إطار سلسلة وقد تمتد لأسابيع عدة. هذا إذا لم تتطورفي اتجاهات غير محسوبة.
وفي المحصلة، فإنّ الحجم الكبير للنزاع، والذي هو على المستوى الأميركي ـ الصيني، وهو ما دفع بروسيا إلى تعديل موقفها، هذا النزاع يحدّ من قدرة اللاعبين في الشرق الأوسط مهما كانت قوتهم الإقليمية مؤثرة، ويجعل اللعبة محفوفة بالمخاطر، ما يستوجب حسابات أكثر دقّة وواقعية. ألم يدفع نظام بشار الأسد ثمناً باهظاً لقاء رهانه على ثوابت معادلة تجاوزها الزمن؟
جوني منير-الجمهورية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|