الصحافة

الميديا تبدّل العادات... هل تُغلق صالونات العزاء؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تصطادنا صفحات التواصل الاجتماعي بعروض حيّة، تحوّلنا أدوات في رواج محتوياتها، حتى لو لم تكن مقرونة بقضايا تعنينا في معظم الأحيان. هي وسائط العصر الجديد التي اقتحمت حيواتنا بإرادتنا، وحولت خصوصيات البيوت، بحلوِها ومرّها، مشروع محتوى، عفوياً أو مفتعلاً، يلهث وراء الـ like والـ comment والـ share. هكذا شُرّعت شبابيك الميديا، حتى أمام أشد لحظات إنسانيتنا وضعفنا المتجسّدة بمواجهة حقيقة الموت المطلقة. فصار الموت أيضاً، محتوى آخر في العالم الافتراضي، ورواجه في الـ social media يلوّح بدفن تقاليدنا والعادات الموروثة، مغلّباً الفردية وفضوليتها على حساب التعاون الاجتماعي وتضامنه.

على الرغم من الاختلاف في تفاصيل مراسم الدفن بالنسبة لمكونات المجتمع اللبناني، فإنها تلتقي على التوجه إلى شبابيك الميديا والرائج فيها. إذ يكفي أن ينشر أحدهم خبراً أو نعوة أو مقطع فيديو لقريب فقد أو صديق، على أي صفحة من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، حتى يتحول حساب الناشر صالون مواساة وتلقّي التعازي من كل حدب وصوب. ليس التفاعل في هذه الحالة، مؤشراً لحجم المعزين المرتقبين في العالم الحقيقي، بل هو استسهال في استخدام الميديا في التعبير عن التضامن، وهذا ما جعل صالونات العزاء فضفاضة على أعداد المعزين المحدودة.

تتمظهر هذه الحالة تحديداً في المجتمعات المسيحية. حيث استُبدل العزاء في المنازل بفتح صالونات الكنائس والرعايا لعقود، إلى أن حلت جائحة كورونا، وبدأت تختزل المفاهيم الموروثة والتزاماتها.

التلصّص على أحزان الناس لكسب المناعة

"صار فتح الصالونات بلا معنى. ما عدنا نشعر برهبة الموت فيها. كل اثنين يتشاركان حديثاً على حسابهما. وفي النهاية تكون مشالحة سريعة مع أهل الميت، وكأنه فرض وواجب". نسمعها في كل مكان تقريباً في تبرير تخلينا عن عادة تقديم التعازي حضورياً لأهل الميت.

قد يسجل للميديا انها أخرجت التعازي من الصالونات المغلقة، لكن فضاءها المفتوح online، أقحم صانعي المحتوى في خصوصياتها، فصارت تفاصيلها متاحة لعموم الناس، من ألفها إلى يائها. إنه الـ REEL الذي يعوّل عليه في رفع نسب المشاهدة ومن دون أي جهد إضافي يبذل. فمحرك التفاعل هنا، يقترن بنزعتنا البشرية لمتابعة اللحظات الإنسانية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بفاجعة موت مفاجئ شغلت الرأي العام، كحادث سير مؤلم مثلاً أو انتحار، أو عندما يكون للمتوفى تأثير في مجتمعه. حتى لو لم تجمعنا بالميت أو عائلته أية معرفة أو روابط.

لدى اختصاصية علم النفس الدكتورة لوما النقاش شرح علمي لهذه الظاهرة. فـالموت كما تقول "هو الحقيقة الكونية الوحيدة التي لا يملك أيٌّ منا القدرة على تغييرها. كلنا سنموت، أو سنواجه موت من نحب. لذلك فإننا ننزع لفهم هذه الظاهرة "phenomenon" الراسخة في لاوعينا من خلال أشخاص لا تربطنا بهم أية علاقات مباشرة". هكذا يتحول التلصّص على أحزان الناس في الميديا "أبعد من مجرد حشرية سطحية، بل هي محاولة دفاع عن أحاسيسنا، لخلق مناعة تساعدنا على التأقلم مع حقيقة الموت والشعور المرافق للفقدان. من دون أن يعني ذلك بالضرورة أننا سنكتسب المناعة المطلوبة، إذ أن لا شيء يمكن أن يحضّرنا لفقدان من نحبهم".

شرخ في أهداف النشر وبين جيلين

بين أيدينا تمر يومياً هذه المشاعر التي ترافق فقدان أم أو أب أو شقيق وشقيقة وحتى طفل وولد. يتشارك الناس أحزانهم وكأنهم يبحثون عن عزاء في فضاء أوسع من ذلك المحيط بهم في العالم الحقيقي. تعتبر نقاش هذه النزعة التي ظهّرتها وسائل التواصل "مبررة. فعندما يموت شخص مقرّب لنا هناك حب للمتوفي، لا نعرف كيف سنتعامل معه. هو رحل. لذلك نتجه إلى التعبير عن أهمية الشخص بالنسبة لنا، وكم كان يعنينا، وكم أنه محبوب منا، وهي إحدى الطرق المساعدة نفسياً، عبر إيصال مشاعر الحب والوفاء. تماماً كمن ينظم مراسم دفن كبيرة، ويقوم بتزيين مكان العزاء في العالم الحقيقي. هذه أمور لا تعني الميت في الحقيقة، ولكنها تشكل نوعاً من إدارة المشاعر ومحاولة فهمها والتحكم فيها بطريقة إيجابية".

إلا أن بعض ما ينشر ليس مقتصراً على ما يشاركه أهل الفقيد. لا بل كلما كان الموت مفجعاً، كلما فتح الهواء على بث مباشر لخصوصيات الناس وطرق تعبيرها العفوية، حتى لو لم يُبدِ أهل الميت ممانعة لذلك، فإن الشرخ واضح جداً بين ما يبحث عنه الناشر، وعفوية الأهل ونوايا المشاهدين.

يبرز هذا الشرخ أيضاً بين جيلين ومفاهيمهما المختلفة حول إدارة المشاعر، فيضعنا أمام مجتمعات مزدوجة المعايير بالنسبة لمراسم الدفن والتقاليد المحيطة بها. فهناك جيل لا يزال متمسكاً بكل ما كان يحيط بمراسم الوداع والدفن من عادات وتقاليد موروثة، خصوصاً في المدن والقرى الريفية. يريد ورقة النعوة ملصقة على كل عمود. ويعتبر أن عدم فتح الصالون ليومين أو ثلاثة عيب. الصلاة الجنائزية بالنسبة له بنفس أهمية مراسم الدفن. وعزاء المحزونين والوقوف إلى جانبهم واجب.

يقابل هؤلاء "التقليديون" جيل يكتفي بتمرير ورقة النعوة على هاتفه، فيقدم التعزية أونلاين، مكتفياً بما يتيحه الفضاء المفتوح من قدرة على المؤاساة وتلقّي كلماته ومن دون الحاجة إلى التواجد الجسدي إلى جانب أهل الميت.

الحياة لم تعد تتسع لبعضنا البعض

ينسحب ما ذكر وفقاً لنقاش على كل مناسباتنا. وبالتالي تتوقع أن يتغلب أسلوب الحياة الجديد بشكل أكبر مع الوقت وتتحول التعازي عبر الميديا إلى ظاهرة طبيعية. وتشرح أن "حياتنا لم تعد كالسابق. لم يعد ترف الوقت متاحاً لكثيرين. متطلبات الحياة والمسؤوليات فيها تغيّرت أيضاً، وفي مكان ما لم يعد هناك مكان في حياتنا لبعضنا البعض". ولتعزيز رأيها، تدعونا إلى مقارنة بين عدد الأصدقاء الذين كنا نجمعهم سابقاً والذين نحتفظ بهم حالياً. لذلك تعتبر أن ذلك لا بد أن ينعكس في صالات التعزية بحالات الموت. فلم يعد يشارك بمراسم الوداع سوى أقرب المقربين، وهؤلاء أقلية، ولم يعد الجيل الجديد يعتب على أحد إذا لم يتلق تعزيته حضورياً، أصبح الناس أكثر تفهما وليونة. وهذا هو الفرق بين الجيل القديم الذي يتمسك بكل التقاليد والأصول، حتى لو كان ذلك على حساب الأشخاص وقدرتهم. وبين الجيل الجديد الذي ينزع إلى الفردية، فيلتزم بما هو أنسب له، وإذا كان ما يناسبه يناسب الآخرين، فجيد. ولكن من دون أن يكون ذلك هو الهدف.

لكن عاداتنا في الواقع لم تولد من عدم حتى لو لم يبنيها الأولون على دراسات علمية ونفسية، فلا بد أنها جاءت مراعية لاختبارات إنسانية واجتماعية".

وفقا لمخضرمين فإن فتح بيت أهل الميت في الماضي، لم يكن واجباً اجتماعياً فقط، إنما محاولة من الأهل لمشاركة جرحهم مع الآخرين. وقد عكس تهافت الناس نوعاً من التعاضد الاجتماعي حتى في مدّ يد المساعدة بتأمين متطلبات الدفن. وهذا ما جعل دور الآخرين في مناسبات العزاء مهماً جداً حتى عندما فرض التطور السكاني انتقال التعازي إلى الصالونات. إلى أن جرت مأسسة هذه التحضيرات، وصارت "بيزنس" يؤمن الخدمة المتكاملة.

بيزنس دفن الموتى واختراقه العالم الافتراضي

يقول جان سعادة أحد أصحاب هذه المؤسسات صار "الميت من عند أهله والباقي علينا" شارحاً المسؤوليات التي تلقتها مؤسسات دفن الموتى نيابة عن الأهل والأصدقاء، ولم تعد مسؤوليتها تأمين التابوت وباقات الورد، إنما أيضاً تحضير أوراق النعوة وطباعتها ولصقها، تأمين خدمة الصالون من قهوة ونظافة وغيرها، وتحضير الطعام.

نشطت حركة مؤسسات دفن الموتى أيضاً في الفضاء الافتراضي. وأبعد من محاولاتها التسويق لخدماتها التنافسية، فتحت نوافذ صفحاتها صالونات تعزية موازية في وسائل التواصل الاجتماعي. تطور الأمر إثر جائحة كورونا، فدرج نقل بعض الجنازات online.

برأي البعض فإن جائحة كورونا تسببت بصدمة لمختلف عاداتنا، وشكلت ذريعة للتخلي عن بعضها، والتحول بها من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي.

إلا أنه بحسب نقاش "لم تكن كورونا ذريعة بقدر ما كانت واقعاً كشف لنا شيئاً لم نكن نتنبه له وهو أن التواجد الجسدي يمكن استبداله بتواجد افتراضي". وهذا وفقاً لنقاش يشير أيضاً "إلى أننا كنا نفتقد في حياتنا لمثل هذا الشيء، وما إن أمّنت كورونا البديل انتقلنا إليه فوراً".

إلّا أن التباعد الناتج عن الجائحة، قابله تباعد فرضته أيضاً الظروف الاقتصادية، وخصوصاً على الجيل الشاب، الذي تأثر بموجات الهجرة الكبيرة بحثاً عن فرص العمل في الخارج. وعليه أمنت السوشيال ميديا حتى لهؤلاء، فرصة لإبقاء حلقة التواصل مع مجتمعاتهم، خصوصاً في آلامها.

حمل الميت صار أيضاً مهنة

يتحدث مخضرمون في المقابل عن تراجع عنصر الشباب في مراسم الدفن بشكل كبير. بينما كان هؤلاء الكتف الذي يعتمد عليه في حمل نعش الميت. اليوم لم يعد أحد يتهافت على مؤاجرة الميت بحمله، إلّا في حالات الموت المفجع. وجرى التعويض عن غياب السواعد بتوسيع موكب السيارات المرافق لنعش الميت، والذي شكل أيضاً خدمة إضافية لمؤسسات دفن الموتى، إلى جانب استئجار الأيدي لحمل النعش عند الحاجة.

لا يتخلى الجيل الأول على الرغم من كل ما ذكر عن تأدية الواجب، في المجتمعات الريفية خصوصاً. يشكل هؤلاء وفداً دائماً إلى صالونات التعزية. يقدمون التعزية لمجرد معرفتهم بالميت أو بأفراد عائلته، حتى لو كانت هذه المعرفة سطحية. يفتقد هؤلاء تحديداً إلى تقاليد الجناز الذي كان يقام حصراً في يوم أحد. حيث يقول أحدهم "كانت عائلاتنا تؤجل موعد الغداء إلى أن تنجز المهمة. وعندما يعود المجنزون تكون البطون قد امتلأت قرباناً. تراجعت هذه العادة أيضاً بشكل كبير، وصار بعض الجنازات يقتصر على أفراد العائلة، نقل موعدها إلى مساء السبت واختزلت لقمة الرحمة بقربانة، بدلاً من السُفر التي كانت تحضّر عن روح الفقيد. وكل هذا بمقابل تضخم دور السوشيال ميديا في تقديم التعازي". فهل تحقق هذه التعزية نفس النتيجة بالنسبة لأهل الميت؟

التضامن الحضوري حاجة للمتألمين؟

تجيب نقاش على هذا السؤال بشرح المراحل التي يمر بها أهل الميت المحزونون، وارتباطها بإرساء عادات الدفن والتعزية. "إذ إنه في المرحلة الأولى للوفاة يكون أهل الميت في صدمة. وبالتالي تواجد الناس من حولهم يلهي هؤلاء عن أحاسيس الحزن الشديد والمفاجئ ويساعدهم على تقبله تدريجياً، ليبدأ الانتقال إلى المرحلة الثانية من مراحل ما بعد الوفاة وهي مرحلة الغضب". وبالتالي تعتبر نقاش "أنه من الممكن أن تكون هذه العادات قد ولدت، لتمرير وقت مستقطع قبل أن نغرق في حزننا ونواجه الحقيقة. لأننا في النهاية سنواجه كلنا هذه الأمور". ولا تسلّم نقاش للمقولة الشعبية "بأن الحزن إذا تمت مشاركته مع الناس يهون. لكنها تعتبر أن السوشيال ميديا لا يمكن أن تكون عاملاً يساعد أهل الميت على اجتياز المراحل المذكورة، وبالتالي هناك حقيقة سيواجهونها وربما تكون أصعب في ظل تبدل العادات". ومن هنا تعتبر "أن حالة الأسى أو الـ grief التي يعيشها أهل الميت تتطلب وجود الأشخاص من حولهم جسدياً. وهذا ما يجعل أقرب الناس موجودين ولو في ظل تفشي ظاهرة تقديم التعازي عبر السوشيال ميديا".

على رغم نزعة معظم مجتمعاتنا، وحتى الريفية، للتخلي عن عادة التعزية، فهي تبقى محرَجة أمام من يتمسكون بها. لذلك يقول سعادة إنه "يتفاوت حضور المعزين في الصالونات قياساً إلى السلوك الاجتماعي للميت نفسه أو أقرب مقربيه. فنجد أن بعض الصالونات تغص بالمعزين إذا كان هؤلاء ممن واظبوا على تقديم التعازي على رغم كل التبدلات، بينما قد لا نجد في جنازة أحدهم سوى عشرات الأفراد".

لتبقى المفارقة أخيراً أن الغرق خلف الهواتف، لا شك أنه خفف أعباء اجتماعية عن عاتقنا، لكنه أيضاً أفقدنا عصب التضامن المحسوس، على حساب قيم اجتماعية، لا نتذكرها أحيانا إلا في مناسبات الأحزان أو الأفراح. وهذا ما يستدعي ربما دراسات اجتماعية أكثر عمقاً، تعرّفنا أقله على أي نوع من الوحشة ستواجهنا في عالم تبدل "الميديا" مفاهيمه وبسرعة قياسية.

لوسي بارسخيان - نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا