بين الاحتياطي النقدي والذهب… هل يعيد لبنان أخطاء الماضي؟
لطالما اضطلع الذهب بدور الملاذ الآمن في أوقات الاضطرابات الاقتصادية، ومثل مخزوناً استراتيجياً لتعزيز الاستقرار المالي. إلا أن أهمية الذهب في لبنان، خصوصاً مع تخطيه حاجز الـ 3000 دولار للأونصة وارتفاع قيمته السوقية بصورة ملحوظة، تتجاوز هذا الدور التقليدي ليصبح عنصراً محورياً في أي تصور يهدف إلى ترميم الثقة المتآكلة بالقطاع المصرفي ومعالجة أزمة الودائع المستعصية. ففي ظل استمرار الأزمة الاقتصادية والنقدية الخانقة، تتعاظم قيمة الاحتياطي الذهبي كمورد استثنائي يمكن الافادة منه.
وهنا يتبلور السؤال حول كيفية تفعيل هذا الأصل المهم، الذي اكتسب زخماً إضافياً مع ارتفاع أسعاره العالمية، في إعادة هيكلة دعائم الاقتصاد، وتحقيق توازن دقيق بين ضرورة الحفاظ على الاستقرار النقدي والتزام ضمان عودة حقوق المودعين. لكن يبقى السؤال الأهم كيف يمكن تجنب تكرار أخطاء الماضي وضمان أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستكون جزءاً من إصلاحات جذرية ومستدامة؟
مخزون استراتيجي وحل محتمل لأزمة الودائع
يمتلك لبنان نحو 286.8 طناً من الذهب أي حوالي 9.25 ملايين أونصة، ما يجعله من بين الدول ذات احتياطيات الذهب الأكبر عالمياً مقارنة بحجم اقتصاده. ومع تفاقم أزمة الودائع المصرفية وانعدام الثقة بالنظام المالي، تزايدت الدعوات الى استخدام هذا الاحتياطي كوسيلة لاسترداد جزء من أموال المودعين أو لدعم استقرار القطاع المصرفي.
لكن اللجوء إلى الاحتياطي الذهبي يجب أن يتم بحذر شديد، نظراً الى المخاطر الكبيرة التي قد تترتب على ذلك. فالذهب يمثل الضمانة الأخيرة للاستقرار المالي، وأي خطوة غير مدروسة قد تؤدي إلى استنزاف هذا الأصل الاستراتيجي من دون تحقيق التعافي المنشود. لذا، من الضروري تبنّي استراتيجية متكاملة تجمع بين استثمار الذهب بآلية مدروسة وتنفيذ إصلاحات هيكلية شاملة تعيد الثقة إلى الاقتصاد وتضعه على مسار مستدام.
استثمار الذهب بدلاً من التصرف فيه
بدلاً من بيع الذهب أو استخدامه مباشرة لتغطية الودائع، تبرز فكرة استثماره عبر أدوات مالية مبتكرة تتيح تحقيق عوائد مستدامة من دون التفريط في المخزون الاستراتيجي. وقد اقترح بعض المؤسسات المالية الدولية استثمار جزء من الذهب اللبناني، خصوصاً المخزون المودع في الخارج، عبر آليات تضمن أرباحاً ثابتة تُستخدم في تمويل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع الحفاظ على ملكيته تحت إشراف مصرف لبنان.
وفي هذا السياق، يمكن توظيف استثمارات الذهب من خلال آليات مثل إعادة شراء الذهب (Gold Swap) أو عقود الإقراض بضمان الذهب (Gold Leasing)، وهي أدوات يستخدمها العديد من الدول لتعزيز السيولة من دون الحاجة إلى بيع الأصول الاستراتيجية. ويمكن أن توفر هذه الأدوات لمصرف لبنان موارد إضافية لدعم إصلاح القطاع المصرفي، شريطة وجود إطار قانوني واضح وآليات حوكمة صارمة تضمن إدارة المخاطر بصورة فاعلة وتحافظ على الاستقرار المالي.
لكن هذه الخطوة تتطلب تعديلات قانونية، إذ إن القانون رقم 42 لعام 1986 يمنع التصرف باحتياطي الذهب إلا بتشريع خاص. وعلى الرغم من أن هذا القانون يشكل عامل أمان يمنع الاستخدام غير المسؤول لهذا المورد الثمين، إلا أن تعديله ليتيح استثمار الذهب في مشاريع ذات عوائد مضمونة قد يكون أحد الحلول الممكنة لمعالجة أزمة السيولة المصرفية.
تأثير استثمار الذهب على العملة الوطنية
يمثل الذهب خط الدفاع الأول عن العملة الوطنية، وأي استخدام عشوائي سينطوي حتماً على مخاطر جسيمة، بحيث قد يؤدي إلى تقويض ثقة الأسواق بالليرة اللبنانية، وتأجيج معدلات التضخم المرتفعة أصلاً، وتسريع وتيرة التدهور الاقتصادي. لذا، فإن أي قرار بشأن استخدام الاحتياطي الذهبي يجب أن يندرج ضمن إطار خطة إصلاحية شاملة ومتكاملة، تعالج جذور الأزمة من خلال إعادة هيكلة الدين العام المرهق، وإصلاح النظام المصرفي المتداعي، ووضع سياسات نقدية رشيدة وفاعلة تستهدف استعادة الاستقرار النقدي.
وفي هذا السياق الحذر، يمكن استلهام تجارب دول أخرى لجأت إلى توظيف احتياطياتها الذهبية بصورة مبتكرة، مثل إصدار سندات سيادية مدعومة بالذهب (Gold-backed Bonds). وتقوم هذه الآلية على إصدار أدوات دين حكومية تستمد جزءاً من ضمانها من الاحتياطي الذهبي للدولة، وهو ما يهدف إلى تعزيز ثقة المستثمرين المحليين والدوليين وجذب تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية الضرورية. ويمكن لمثل هذه الخطوة أن توفر سيولة مباشرة وحيوية للنظام المالي اللبناني المتعثر، وتساعد في تمويل مشاريع إعادة الإعمار والتنمية.
ومع ذلك، يبقى نجاح هذه المبادرة مرهوناً بقدرة الحكومة على تحقيق تقدم ملموس في تنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية هيكلية شاملة، تضمن استدامة الدين العام وتعزز مناخ الاستثمار وتكافح الفساد، ما يخلق بيئة جاذبة للمستثمرين ويعزز مصداقية السندات المدعومة بالذهب على المدى الطويل. كما أن استثمار الذهب يجب أن يتم في إطار شراكات دولية موثوقة تضمن تحقيق الافادة القصوى من دون تعريض الاحتياطي الوطني للمخاطر. ويُفضَّل أن يكون هذا الاستثمار موجهاً لدعم قطاع الإنتاج والبنية التحتية، بدلاً من استخدامه كغطاء مؤقت للودائع، ما قد يؤدي إلى استنزافه من دون تحقيق فوائد طويلة الأمد.
استثمار الذهب أم استنزافه؟
ثمة تساؤلات مشروعة تطرح حول الدوافع الحقيقية لاستخدام الذهب، خصوصاً في ظل احتفاظ مصرف لبنان باحتياطي نقدي يُقدّر بـ10 مليارات دولار. فقد يكون اللجوء إلى الذهب مجرد محاولة لكسب الوقت وتأجيل الاصلاحات الضرورية، تماماً كما حدث مع الاحتياطي النقدي الذي استُنزف في سياسات قصيرة الأجل لم تحقق أي تغيير هيكلي في الاقتصاد وأدت إلى خسارة المركزي أكثر من 20 مليار دولار.
وفي ظل غياب الشفافية والمحاسبة، يزداد القلق من أن يتحول الذهب إلى أداة تُستخدم على حساب المصلحة العامة، سواء عبر تغطية خسائر المصارف أو من خلال حلول ترقيعية لا تعالج جذور الأزمة المالية. وهكذا، فإن أي استخدام غير مدروس لهذا الأصل الاستراتيجي قد يؤدي إلى استنزاف آخر ما تملكه الدولة من موارد، من دون أي ضمان لتحقيق استقرار مالي حقيقي. ومثل هذا النهج قد يؤدي بطبيعة الحال إلى تآكل الذهب تدريجياً، ما يجعله عرضة للمصير نفسه الذي لاقاه الاحتياطي النقدي.
بين الدروس الماضية والقرارات المستقبلية
لذا، يبقى السؤال الأهم ليس ما إذا كان يجب استخدام الذهب وحسب، بل كيف يمكن تفادي تكرار أخطاء استنزاف الاحتياطي النقدي، الذي فقد أكثر من 20 مليار دولار من مخزونه؟ وعليه، فإن الاستثمار الأمثل لهذا الأصل الاستراتيجي يستوجب رؤية اقتصادية متكاملة، تضمن توظيفه ضمن خطة واضحة تعزز الاستقرار المالي، بدلاً من تعريضه لخطر الاستنزاف.
وقبل كل ذلك، وقبل الخوض في أي خيارات تتعلق بالاحتياطي الذهبي، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة بناء الثقة الراسخة بالاقتصاد اللبناني عبر معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، بدلاً من الاكتفاء بحلول مؤقتة ذات طابع تسكيني. فالإصلاحات الهيكلية العميقة في القطاعات الحيوية، إلى جانب مكافحة الفساد المستشري وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة في جميع المؤسسات، تمثل حجر الأساس في توفير بيئة اقتصادية مستقرة قادرة على استيعاب الحلول المستدامة.
فقط في ظل هذه البيئة المتينة، يمكن التفكير بتمعّن في استخدام الاحتياطي الذهبي بطرق مدروسة وفاعلة، تضمن تحويله من مجرد احتياطي جامد إلى ركيزة أساسية للنهوض بالاقتصاد اللبناني.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|