محور الشياح- عين الرمانة: تصافحوا... فهل تصالحوا؟
في أسبوع "خمسينية" الحرب اللبنانية نجول على المحاور. واليوم نتوقف في الشياح- عين الرمانة. فماذا في تفاصيل الذاكرة والحاضر؟
من هناك، من خط الشياح- عين الرمانة الذي أصبح محوراً، انطلقت شرارة الحرب اللبنانية ليل 13 نيسان 1975 وتحوّل طريق صيدا القديم الذي كان يعجّ بالسيارات والناس والمحال التجارية من مجرد شارع يفصل بين منطقتين إلى جبهة قتال دموية استمرّت مشتعلة على تقطع طوال خمسة عشر عاماً. المتاريس، نقاط القنص، والمباني المنخورة بالرصاص كانت جزءاً من واقعه اليومي، وامتلأت تفرعاته المهجورة بصدى الاشتباكات وبقصص الناس الذين عايشوا أهوالها. انتهت الحرب واستعادت الشياح وعين الرمانة نبضهما المشترك وخطهما المشترك لكنّ أحوال الخط تغيّرت وارتدى حلّة غريبة عن ماضيه.
دخل خط الشياح - عين الرمانة التاريخ وانغرز عميقاً في الذاكرة الجماعية، تحوّل رمزاً لانقسام قيل عنه يومها إنه طائفي. مع نهاية الحرب وعودة الحياة إلى خط تماس تغيّر ناسه، لكن من بقي حاضراً من تلك الأيام يتذكر جيداً ما حصل منذ خمسين عاماً ويستذكر الماضي بتفاصيله التي أبهتها الزمن لكنه لم يمحها. إلى خط الشياح - عين الرمانة توجّهنا وفي الذاكرة أسماء ما زال صداها يرنّ: شارع أسعد الأسعد، محمصة صنين، غاليري زعتر، سينما دنيا، شارع عبد الكريم الخليل، الريد شو، معمل غندور... ترى كيف عاش أهل تلك النقاط الحرب وكيف يعيشون السلم المخضّب بحروب مستمرّة؟
شهادة ابن "كنج" وصاحب محمصة صنين
"الفلسطيني خرب بيتنا". تلك كانت العبارة الأولى التي سمعناها لجهة الشياح وتبيّن أننا سنسمعها ذاتها حين نعبر إلى الجهة المقابلة في عين الرمانة. أبو بلال كنج، ابن الشياح وصاحب الدكان الصغير على الخط، يعود بنا إلى الفترة التي سبقت بداية الحرب. وفي تفاصيله "حصلت حينها تظاهرات عمالية في معمل غندور وأتى رجال الدرك لفضّ التظاهرة ودخلوا مركز الحزب الشيوعي في شارع أسعد الأسعد وأوقفوا قسماً من شبابه واصطحبوهم إلى مخفر الأشرفية. استنفر يومها الفلسطينيون الذين كانوا قد أخذوا على عاتقهم تدريب شباب المنطقة لحماية المقاومة الفلسطينية من محاولة تصفيتها كما كانوا يدّعون، وامتلأ شارع حسن كنج الذي صار يعرف باسم أسعد الأسعد بشباب ملثمين لبنانيين وفلسطينيين بإمرة فلسطينية. وقفوا قرب ملعب الخليل وبدأوا يصوّبون رصاصهم نحو الجهة المقابلة وكانت تلك الحادثة سابقة وممهّدة لحادثة البوسطة في ما بعد".
يستعيد أبو بلال حياة الشارع قبل الحرب ويروي أنه "كان أنيقاً - أجمل من شارع الحمرا - فيه صالتا سينما، لبنان ودنيا، أصحابهما من أهل الفكر كانا يتفقان مع مديري المدارس لعرض أفلام تناسب الطلاب... وفيه مصانع كبيرة: غندور، Red Shoe، مصنع للبرّادات والغسّالات وكان شارعاً جامعاً لكل الطوائف. مسيحيون ومسلمون، شيعة وسنة ودروز، يملكون فيه وخلفه عمارات متوسطة وشقق وبيوت، ويعيشون في تفاهم وألفة كأنهم في ضيعة واحدة". الأمر الذي يؤكده من الطرف الآخر سليم الحموي صاحب محمصة صنين الشهيرة الذي يروي أنه رغم كونه مسلماً سنياً ولد وعاش في عين الرمانة وكان يعتبر نفسه واحداً من أبناء المنطقة حتى أنه حارب مع الكتائب والأحرار فيها. وكانت الشياح تقسم إلى قسمين الشياح "برّا" أي الخط الخارجي والشياح "جوّا" وهي الأحياء الداخلية وكلّها تعيش كعائلة واحدة لم تنخرها الطائفية. على إثر حادثة البوسطة بدأت مناوشات مسلحة بقيادة الفلسطينيين وكان معهم الشيوعيون والبعثيون والقوميون من جهة الشياح يقابلهم الكتائب والأحرار والتنظيم وحراس الأرز من جهة عين الرمانة، وامتدّت من شارع أسعد الأسعد إلى شارع عبد الكريم الخليل وساحة البريد وكانت محصورة ضمن هذه المسافة. لم تستمر المعارك طويلاً وفق ما يرويه كنج وكانت المنطقة تشهد فترات هدوء في البداية، فيعود إليها كلّ من غادرها لتفقّد بيته وترميم متجره. هو نفسه رمّم محله أكثر من خمس مرات واستمرّ يعبر عين الرمانة ليتوجه إلى عمله في ستوديو بعلبك.
مناوشات فهدوء فعود على بدء
أبو جورج الذي كان يسكن فوق سينما دنيا أصيبت أركيلته المنتصبة أمامه برصاصة في إحدى الجولات، "استحقها" يومها كما تروي ابنته وعرف أن الوقت قد حان ليهرب بعائلته وصغاره نحو الأشرفية. أمضوا هناك بضعة أيام آملين العودة السريعة إلى البيت وحين عاد ربّ العائلة لتفقد منزله كانت جولة قتال جديدة قد بدأت فاحتمى طوال الليل في بيت الدرج وحين سمح هدوء حذر بالتنقل صعد ليتفقد بيته ووجد ما سيصبح في ما بعد قدر كل المنازل الواقعة على طرفي خط الشياح - عين الرمانة. تدمير مقصود للأثاث وبداية سرقات اجتاحت المنطقة في ما بعد. لم تشفع له جيرة طويلة مع أبناء الشياح، فالتفلّت الأمني كان قد بدأ يتحوّل إلى كرة ثلج واعتداءات خرجت عن السيطرة. كان المسلحون ومن معهم يفتحون المحلات من الجهة الخلفية وينهبونها ويسرقون البيوت التي هجرها أهلها.
سليم الحموي يروي بدوره البدايات من منظاره الخاص في عين الرمانة "بين مخيمي صبرا وتل الزعتر كان طريق الفلسطينيين يمرّ من أمام محمصة صنين ليكمل مساره في شارع الصنوبرة أو المراية أو شارع مارون مارون. كان مرور هؤلاء استفزازياً، كلاشينات ومسدسات وقاذفات آر بي جي وحركات وأناشيد. رفعنا الصوت أكثر من مرة ومع انتشار خبر محاولة اغتيال الشيخ بيار واستشهاد الشباب معه، استنفرنا وحملنا السلاح ومنذ ذاك الحين لم يعد السلاح ينزل عن أكتافنا. وحين بدأت المناوشات بين شارعي أسعد الأسعد ومارون مارون استعنّا بالمستوعبات وعربات القطار التي أتى بها الشباب من مرفأ بيروت لبناء المتاريس في محيط محمصة صنين". من جهتهم، كان الفلسطينيون قد تحضّروا لجولة قتال جديدة وانتشر مسلحو جبهات الرفض على اختلافهم مع أنصارهم من الأحزاب اللبنانية في شوارع جهة الشياح وتوسّعت الجبهة لتمتدّ من الطيونة إلى مار مخايل وتستمرّ لمدة سنة ثم تهدأ لتعود من جديد.
أيام الـ "راميك" والهواوين
كان خط تماس يشهد فترات هدوء يعود فيها الناس إلى منازلهم لكن حين بدأت تتكثف الهجومات ويستعمل السلاح الثقيل بدأ سكان المنطقة من الجانبين يتركون بيوتهم نحو الشوارع الخلفية أو إلى مناطق أكثر أمناً وهدوءاً. "سنيّة" تركت منزلها في شارع البريد وصعدت إلى القماطية لتكون بين جماعتها الدروز. آل رعد في الشياح تراجعوا إلى الأحياء الخلفية ويروي أحد أبنائهم كيف ارتفعت السواتر الترابية على بعد ثلاثين أو أربعين متراً من الخط الرئيسي لتتيح للناس العبور من خلفها تجنباً للقنص الذي كان يأتي من الجهة المقابلة ويقابله قنص من هذه الجهة يمنع أية حركة على خط صيدا وكل متفرعاته.
أوديت صعب التي كانت تسكن في بناية قريبة من سيدة لورد على الطرف الشمالي لعين الرمانة، على تخوم خط تماس، تروي أنها لم تغادر بيتها في البداية لأن المعارك كانت محصورة بين شارعي الأسعد والخليل وكانت تنزل مع الجيران إلى الملجأ حيث لكل عائلة ركن وفرشات وخبز وعلب "راميك" وغاز صغير للقهوة. لكن حين بدأت المعارك تمتدّ نحو الريد شو وغندور والطيونة شمالاً، ونحو كنيسة مار مخايل جنوباً وغاليري سمعان شرقاً عرفت أن الحرب لم تعد مجرّد مناوشات. صارت الأصوات أقوى والإصابات في المباني أكثر تدميراً والهواوين كما كان يشرح لها زوجها ما عادت ستين و82 صارت 120 تسبب أذى ودماراً.
خط سكنته الأشباح
"كان القنص أكثر من القمح" يروي الحموي و "ما عادت تمرّ ذبابة في خط التماس الفاصل بين المنطقتين. تحوّل الخط مدينة أشباح تحدّه هياكل بنايات نخرها الرصاص والقذائف الصغيرة لكنها بقيت واقفة. لم تكن الأضرار كبيرة كما هي اليوم والشاهد على ذلك مبنى قديم لا يزال على حاله منخوراً كالمنخل بالرصاص وقريباً منه بناية حديثة انهارت طوابقها السفلية إثر الحرب الإسرائيلية الأخيرة".
"اجتمعنا شباب المنطقة لنرفع المتاريس أكثر تجاه البريد وملأناها بالرمل والملح" يضيف الحموي "عدنا إلى بيوتنا ومراكزنا لنستيقظ في اليوم التالي على صوت الجرافات تزيل المتاريس والردم. قيل لنا إن الحرب انتهت". من جهته، يخبر كنج "أن عسكر إميل لحود فتحوا الطريق وأزالوا الألغام ونزعوا الردم وأعيد فتح خط الشياح - عين الرمانة، الذي شهد تقلبات الحرب وتبدل الفرقاء: منظمة التحرير رُحّلت عن لبنان وتضاءل الدور الفلسطيني وحلّت محله أحزاب الحركة الوطنية ودخلت حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي على خط الجبهات وفي الجهة المقابلة تراجع دور الكتائب والأحرار وحراس الأرز الذين انضووا تحت لواء القوات اللبنانية". وشهدت المنطقتان المتحاربتان حروباً داخلية بين الإخوة وأبناء الصف الواحد حتى أن المقاتلين وفق بعض الروايات كانوا يعبرون الخط ويلتجؤون إلى المنطقة الأخرى حين يشتدّ عليهم ضغط الإخوة.
شهداء كثر سقطوا لا تزال اللوحات التذكارية تخلّد ذكراهم. قصص حزينة سطرت من الجهتين، بيوت دمّرت، ذكريات سرقت وناس هجّروا. العودة كانت مختلفة. بعض أصحاب الإيجارات القديمة عادوا إلى محالهم وبيوتهم، شيّدت عمارات عالية على الجانبين بات أكثر سكانها ومالكيها من الشيعة، محلات كثيرة لتجارة متنوعة رأت النور وصار خط الشياح عين الرمانة شارعاً تجارياً شعبياً، فقد هدوءه القديم وصار يشبه كل شوارع الضاحية. شعارات "أمل" و "حزب اللّه" تحتل واجهات المحال وجدرانها وفي عين الرمانة تماثيل السيدة العذراء والقديسين ترتفع في الزوايا وأعلام القوات اللبنانية تملأ الشوارع. "نحن هنا" يقول إدغار ابن عين الرمانة وسنبقى هنا ولو باتت الشوارع الأمامية تشهد خلطة عجيبة بين أهل عين الرمانة وأهل الضاحية.
فهل انتهت الحرب؟ هل زالت النعرات الطائفية؟ في خمسينية اندلاع الحرب اللبنانية ليس لنا إلّا أن نردد: تنذكر. فقط تنذكر. وتبقى في الذاكرة وما تنعاد.
زيزي اسطفان -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|