غسان سلامة يخرج عن بيان حكومة سلام
كان الرئيس سلام يدرك تماماً أن حكومته ستخوض نزالاً سياسياً قاسياً ومعقداً على جبهتين: مواجهة مقاومة "حزب الله" السلبية لبند بسط سلطة الدولة وحدها على جميع أراضيها، في ظل امتلاكه العديد من الأدوات التي يبرع في توظيفها للهيمنة إلى حد كبير على طريقة تكوين المناخ السياسي في البلاد. في موازاة معركة سياسية – دبلوماسية مع إسرائيل لإلزامها تطبيق التعهدات التي قدمتها ضمن تفاهم وقف إطلاق النار، وعلى رأسها الانسحاب من النقاط الجغرافية التي احتلتها، وصولاً إلى حل مسألة النقاط المختلف عليها في الحدود البرية.
ولأن الرئيس سلام يعرف بحكم خبرته وتجربته أن المواقف الصادرة عن أعضاء حكومته ستكون تحت المجهر على الصعيدين العالمي والعربي، تمسك باختيار الدكتور طارق متري وغسان سلامة بالذات لخوض هذه المعركة السياسية – الدبلوماسية، وتظهير الموقف الحكومي بأفضل شكل وبأدق المصطلحات، انطلاقاً من حنكتهما وخبرتهما وتمرّسهما في معارك من هذا النوع، يكون فيها كل كلام صادر عن الحكومة هو بمثابة التزام عليها وعلى الدولة اللبنانية واجب إيفاؤه.
في الواقع يمتلك متري وأكثر منه سلامة رصيداً هائلاً يعدّ مفخرة لأبناء السلك الدبلوماسي ويجعلهما الخيار الأنسب. لكن، وفيما كان الرئيس سلام يتوسّم في كل منهما أن يكون ردءاً له، فإذ بهما يحرجانه أمام المجتمعين الدولي والعربي، وكذلك الرأي العام المحلي في المواقف التي اتخذها كل منهما في أدق قضية تواجهها الحكومة وأكثرها تعقيداً، وهي وضع جدول زمني محدد لتسليم سلاح "حزب الله" إلى القوات المسلحة الشرعية.
بسبب هذا البند بالذات ترزح الحكومة تحت وطأة ضغوط أميركية ودولية يعمل الرئيس سلام على احتوائها وتفكيكها بتؤدة، رامياً تحويلها إلى فرصة لتطبيق ما تأبّطه معه منذ دخل القصر الجمهوري لإبلاغه التكليف: الدستور وفي القلب منه "وثيقة الوفاق الوطني"، الذي ينص البند الأول في مادته الثانية على "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال 6 أشهر"، تبدأ بعد تصديق الوثيقة وانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة.
وها نحن ذا في ظروف مشابهة، حيث أورد الرئيس جوزاف عون هذا البند ضمن خطاب قسمه، وركّزت عليه "حكومة الإنقاذ" في بيانها الوزاري. بيد أن نائبه طارق متري سرعان ما ارتكب "فاولاً" سياسياً كارثياً، بإعلانه من على منبر قناة "الحرة" بالذات نسف مسألة الجدول الزمني من جذورها، مما سبّب إحراجاً لصديقه رئيس الحكومة من دلالاته بيان متري الاستدراكي.
نجح سلام في رتق هذا الخرق وتكوين موقف جريء وموزون بإعلانه من على منبر قناة "العربية" طيّ صفحة سلاح "حزب الله"، ومعها طبعاً كل الجماعات الرديفة. فحصل على جرعة دعم سعودي استثنائية تتيح له التقدم خطوة أخرى نحو وضع جدول زمني محدد لإقفال هذا الكتاب من جذوره، خصوصاً أنها حيدت السنّة من درب المعارضة، وهم الذين تدثّروا برداء "القضية الفلسطينية" طويلاً.
أردفه بموقف آخر على نفس الوزن لكبح جماح الحملة التي شنت عليه بصواريخ نارية وإعلامية، واتهامه بالمضي في التطبيع، لإرباكه وعرقلة مسار المفاوضات الخارجية الدقيقة التي يقودها لإنقاذنا من الكارثة التي أوقعنا فيها "حزب الله"، حيث أكد بأن حكومته ليست في وارد التطبيع. ما بين الموقفين هامش يمكن توسعته لاستخدام أدوات سياسية – دبلوماسية تساعد على التوصل إلى اتفاق شبيه بترسيم الحدود البحرية.
وهذا ما مكّنه من طرح فكرة "الدبلوماسية المكوكية" أمام موفدة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مورغان أورتاغوس، وهي ليست مستقاة من تجربة سلفها آموس هوكستين فقط، بل كذلك من تجربة "خطوة بخطوة" للموفد الأميركي الشهير فيليب حبيب لإخراج "منظمة التحرير" من بيروت، والتي خَبِرها الرئيس نواف سلام حينما كان ضمن فريق عمّه الرئيس صائب سلام، الذي لعب دوراً بارزاً في إبرام الاتفاق بشكل يضمن خروجاً مشرّفاً لأبو عمار وصحبه.
إلا أن وزير الثقافة شكلاً، ووزير السياسة والدبلوماسية مضموناً، غسان سلامة، سدّد ضربة ثقيلة إلى موقف الرئيس سلام غداة سويعات من إشادة أورتاغوس بحكومته، من خلال ربطه في إطلالاته الإعلامية مساء الأحد مسألة تسليم سلاح "حزب الله"، بعملية إعادة إعمار ضخمة تشمل البنية التحتية و"الأفئدة" تحتاج زمناً طويلاً يتجاوز عمر الحكومة نفسها.
لم يكن أحد أعلام الدبلوماسية المرموقين في "الأمم المتحدة" موفّقاً في المثال الذي ساقه عن ليبيا وعدم انطباقه على الحالة اللبنانية، حيث المطلوب جمع السلاح الثقيل من صواريخ باليستية ومسيّرات وخلافه وليس السلاح الفردي، فضلاً عن وجود حكومة واحدة وليست حكومات لدولة واحدة.
لا جَرَمَ أن هذا الموقف سيكون أمام أورتاغوس أثناء إعداد الإحاطة التي ستقدمها لإدارتها عن زيارتها إلى بيروت، بما يقوّض جهود الرئيس سلام ويضع مصداقية تعهدات حكومته على المحك.
ربما لا يزال هناك بقية أثر من اليسارية الممزوجة بالعروبة التي شكلت وعي الجيل الذي ينتمي إليه سلامة ومتري وغيرهما من النخب السياسية تؤثر على مواقفهما، في حين أننا بتنا في عصر طوى تلك الصفحة ومن خلفها "الجهادية الإسلامية" التي ورثتها، ويضع اليوم "شاهدة قبر" المشروع الإيراني الذي أرهق الأمتين العربية والإسلامية والمنطقة بأسرها تمهيداً لنظام إقليمي جديد. وهذا ما يستوجب مواقف أكثر انسجاماً مع هذه التحولات تساعد الحكومة على اكتساب المزيد من جرعات الدعم العربي والدولي وتوظيفها لصياغة سياسات عملانية وصلبة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|