السِلاح والحِوار ثُنائية الانتِحار السياسي
"راحت السكرة وإجت الفكرة" - مثل شعبي يختزل الواقع اللبناني كما هو عليه اليوم. فبعد نشوة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، جوزاف عون، وتَكليف نواف سلام تَشكيل الحكومة، خُيِّل إلى الأكثرية المطلقة من اللبنانيين أنَهم أمام فرصة للانفراج. ولكن سرعان ما تَبيّن أن الأمل هذا قد يكون واهماً، بل إن الواقعَ أشدّ تعقيداً مما يعتقد البعض، لا سيما أن جزءاً كبيراً من الأزمة الحالية ناتجٌ عن تخاذل جماعي - تخاذل في محاسبة الطُغمة السياسية، وفي منع تحويل لبنان إلى منصة حروب عبثية، وفي الرضوخ لتوغّل مشروع "حزب الله" داخل بُنية الدولة.
زيارة مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، إلى بيروت الأسبوع الماضي، جاءت لِتَضَع النقاط على الحروف. فلبنان الرسمي، كما بَدا لها، لا يتخبطُ فقط في عجزه السياسي المُزمن، بل إنَهُ عاجزٌ حتى عن تَلَقُف الرسائل المباشرة، ومنها ضرورة نَزع سلاح "حزب الله" فوراً والاستعداد لمفاوضاتٍ بشأن اتفاقية سلام مع إسرائيل. الرسائل لم تكن مُوَجَهة فقط من الإدارة الأميركية بل من حُلفائها في الخليج، الذين يرون أن لبنان لا يُمكنه استعادة استقراره ميدانياً على الخريطة وهو يَخطو خُطاه على حدّ سيف ميليشيات خارجة عن الدولة.
لكن اللافت أن الطبقة الحاكمة في لبنان ما زالت تقارب الأزمات بالأدوات البالية ذاتها. فكما حدث قبل الحرب الأهلية عام 1975، يُعاد اليوم استحداث المناورات نفسها التي فَشِلت أصلاً. نَكادُ نحتفي بالذكرى الخمسين لاندلاع تلك الحرب، فيما تَعكِس ممارسات السلطة إنكاراً تاماً للتحولات الإقليمية والدولية، وانفصالاً عن واقع لبنان الجيوسياسي الذي تَبَدّل بشكل جذري.
والأخطر من ذلك يكمن في أن الحُكمَ الجديد، بوَجهَيهِ الرئاسي والحكومي، يبدو وكأنه يكرر الغلطة القاتلة عينها: التذاكي بدل الحسم في اتخاذ القرار. ففي حين وَعَد الرئيس عون باستعادة الدولة لقرارها السيادي، تَحوّل الخطابُ الرسمي إلى "ضرورة الدعوة لعقد حوار لبسط السيادة" - أي الإقرار الضمني بوجود دويلة داخل الدولة، ينبغي التفاهم معها لا مواجهتها. وهكذا، يُفَرّغ خطاب القسم والبيان الوزاري من مضمونهما، ويستبدل الوضوح السياسي بمفردات مراوغة، تطيل عمر الانهيار ولا تقضي عليه.
المفارقة أن الوزراء المحسوبين على الحكومة الحالية يتجنبون حتى التلفظ باسم "حزب الله" أو "السلاح"، ويلجأون إلى عبارات ضبابية كـ"المرجعيات" أو "المكونات". إنها نفس الاستراتيجية التي يتّبعها اللبنانيون لتجنّب الحديث عن مرض السرطان، حين يكتفون بالقول "هيداك المرض". وكأن مواجهة الحقيقة أصبحت محرّمة. لكن الواقع أبسط مما يبدو: لا يمكن علاج سرطان سياسي عبر الاستمرار في تعاطي مسبباته. السلاح الخارج عن الدولة ليس ضمانة بل هو انتحار وطني.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا يتصرّف عون وسلام بهذه الطريقة؟ ما الذي يمنعهما من اتخاذ خطوات جريئة لحماية البلاد من الخطر الداهم؟ هل هو الخوف من انفجار أمني؟ أم سعي للحفاظ على تسوية هشة لا يملك أحد فيها زمام القرار؟ في كل الأحوال، الخشية من الحرب الأهلية لا تُبرر تسليم الدولة بالكامل إلى حزب مسلّح. بل لعلّ تحرير الطائفة الشيعية من عبء هذا السلاح - الذي يدفع اللبنانيون جميعاً ثمنه - هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة حقيقية.
إن المراوحة في المكان، ومحاولة شراء الوقت، لن تفضيا إلا إلى سيناريو كارثي: موت "المريض" لبنان، وتخلّي العالم عنه، وربما إلى الأبد. فالحوار يبقى ضرورة، لكنه لا يُجدي حين يكون أحد أطرافه مسلحاً، مدعوماً من خارج الحدود، وغير معنيّ بمفهوم الدولة أصلاً. في هذه الحالة، الحوار يصبح هرطقة سياسية، لا تُنتج حلاً بل مآزق جديدة.
آن الأوان لتسمية الأشياء بأسمائها. وآن الأوان لأن نطالب الحكم الجديد بأفعال لا خطابات. لبنان لا يحتمل بعد اليوم المزيد من المجاز، بل يحتاج إلى قرار واضح: إما دولة لكلّ أبنائها، أو دويلة تبتلع الجميع. وليس بينهما خيار ثالث.
مكرم رباح-نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|