أبعد من رفيق نصراللّه..
المقابلة الأخيرة لرفيق نصراللّه تستحقّ التوقّف عندها. لا لأنّ الشخص مهمّ بمعادلة سياسة لبنان؛ هو ليس أكثر من طامح آخر للنيابة ضمن جيش من الطامحين لها، من دائمي الحضور على الشاشات. ولا لأنّ تحليلات نصراللّه نبيهة أو أنّ فيها ما يفيد؛ هو واحد من عشرات روّجوا للأداء العسكري البطولي المفترض لـ "المقاومة"، قبل أن تظهر حقيقته الفضائحيّة. وليس كلام رفيق نصراللّه مهمّاً، أخيراً، لأنّه يتمتّع بمصداقيّة عالية. من تجربة حزب البعث بسوريا، إلى تجربة جريدة "الأخبار" بلبنان، عرف البلدان بالعقود الأخيرة مئات الوجوه الإعلاميّة والسياسيّة التي تدثّرت برداء "القوميّة العربيّة"، أو "اليسار"، كقناع لعتاة الطائفيّين. هذه المدرسة تافهة، فضلاً عن كونها شرّيرة، ورفيق نصرالله بصلبها.
لماذا كلامه مهمّ إذاً؟ الجواب أنّ المقابلة تعبّر عمّا يعتمل بصدور نخب سياسيّة وإعلاميّة شيعيّة تتجاوز نصراللّه نفسه، بدليل أنّ الرجل، الذي لا ينتمي لـ "حركة أمل"، تلاقى مع طروحات نبيه برّي، المستفيق مؤخّراً، على ضرورة إلغاء الطائفيّة السياسيّة. هذا ما قاله رفيق نصراللّه بالحرف: "نريد حقّنا السياسي بالبلد. البلد مش راكب. نريد تبادلاً بالمناصب. نريد نظاماً سياسيّاً جديداً بالبلد، من قانون انتخاب، إلى إلغاء الطائفيّة، إلى تبادل بالرئاسات. السنّة يريدون ذلك أيضاً. الدروز يريدون مجلس شيوخ. المشكل لا يزال مع رأس المارونيّة السياسيّة. تريدون السلاح؟ خذوه. ولكن تعالوا نتشارك بالحكم".
يعبّر هذا الكلام عن وعي شيعي يحرّكه عاملان:
1) إصرار لم يتغيّر على حكم لبنان رغم الهزيمة العسكريّة. قبل تسليم السلاح، لم تكن مسألة النظام مطروحة بإلحاح عند أصحاب هذا الوعي، لأنّ وجود السلاح كان يضمن لحامليه حكم لبنان، على أن يبقى الدستور خرقة ورق. أمّا وأنّ السلاح يخرج تدريجيّاً من المعادلة اللبنانيّة، فقد حان وقت لعب ورقة الديموغرافيا والعدد وتغيير النظام، للوصول بطريقة مختلفة للهدف عينه، أي حكم البلاد.
2) عداء عميق للمكوّن المسيحي اللبناني. لا يهمّ أنّ صلاحيّات رئيس الجمهوريّة بعد الطائف لم تعد كما كانت عليه قبله. ولا يهمّ أنّ مناصب أساسيّة كالمديريّة العامّة للأمن العام، أو رئاسة الجامعة اللبنانيّة، انتقلت من حصّة المسيحيّين، إلى حصّة الشيعة. يعلم رفيق نصراللّه أنّ المسيحيّين خسروا كثيراً بالنظام، ولكنّه يريد لهم أن يخسروا أكثر. المعنى المضمر بمقابلته الأخيرة هو أنّ المسيحيّين لم يخسروا بما يكفي طالما أنّهم لم يخسروا كلّ شيء. وإذ يستقوي بالسنّة والدروز، فلأنّ التوسّع الذي يشتهيه للشيعة يريده على حساب المسيحيّين الآن، قبل أن ينقضّ لاحقاً على سواهم.
والحال أنّ لبنان يحتاج إلى الهدوء بعد عقود من المآسي المتناسلة. اللبنانيّون بكلّ طوائفهم شعب منهوب، منهك، ومشتاق لالتقاط أنفاسه. لكنّ وعي رفيق نصراللّه، الذي تفتّح على السياسة قبيل الحرب الأهليّة وأثناءها، لم يخرج ذهنيّاً منها. وعيه، بمعنى آخر، وعي حرب أهليّة دائمة. لذلك ينتقل بسرعة قياسيّة من الاستقواء بالسلاح، للتهديد بالعدد.
ما العمل تجاه ذلك؟ أوّلاً، ينبغي على المسيحيّين أن يتخلّصوا نهائيّاً من مجرّد طيف فكرة "حلف الأقليّات". بالماضي كما بالحاضر، أسوأ النوايا ضدّ المسيحيّين، وأخطر الكلام، يصدر دوماً من جهات أقليّة. وبالحالة الشيعيّة تحديداً، فإنّ ميراث قرن من خطاب المحروميّة، التي يزعم أصحابها أنّ الموارنة تسبّبوا بها، لن يختفي بأيّ وقت قريب، هذا فضلاً، طبعاً، عن ميراث أربعين سنة من بروباغاندا "حزب اللّه"، وما خلّفته بالنفوس والعقول. وثانياً، ينبغي على المسيحيّين أن يتصالحوا مع حقيقة مؤسفة مفادها أنّ الصراع الطائفي بلبنان والمشرق لا ينتهي. صحيح أنّ هذا الصراع يدخل بأطوار جديدة حسب الظروف، ولكنّ جوهره دائم. الهرب من المسألة الطائفيّة للتركيز حصراً على مسألة الفساد (خطاب الإصلاحيّين)، أو مسألة رفض التبعيّة للخارج (خطاب السياديّين)، لا ينفع. وليس المطلوب بالمقابل التركيز الحصري على مسألة الهويّة كأنّ المسائل الأخرى كلّها تفصيل. ما ينفع، بالمقابل، هو التصدّي بآن لثلاثة أخطار كلّها داهمة، عنيت رغبة الخارج باستتباع لبنان، ورغبة بعض الداخل بالهيمنة الطائفيّة، وجشع مافيا تستفيد من التوتّر الدائم الذي يخلقه أمثال رفيق نصرالله، لمنع ضحاياها من كلّ المكوّنات من التوحّد ضدّها.
هشام بوناصيف - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|