الصحافة

"مواجهة القرن" والصدام شبه المحتوم

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

ما زالت الولايات المتحدة الأميركية "الإمبراطورية الرومانية الجديدة" التي تتربّع على "عرش العالم" حتى اللحظة. لا تهاب واشنطن من أي قوّة موازية تستطيع مزاحمتها على المسرح الدولي سوى الصين، التي تمتلك المقوّمات الكفيلة بجعلها الدولة الوحيدة القادرة على تهديد مكانة أميركا، خصوصاً إن لم تحسن واشنطن قيادة سفينة مصالح البلاد وسط "المحيطات الجيوسياسية" الهائجة. يُدرك سيّد البيت الأبيض دونالد ترامب هذا الأمر جيّداً، ويضع نصب عينيه بكين التي يولي "دوزنة" العلاقات معها، أهمّية قصوى. التنافس الأميركي - الصيني الاستراتيجي المفتوح على مصراعيه اليوم، يُفسّر إلى حدّ كبير سياسات ترامب التجارية وقراراته التي زلزلت الأسواق في أنحاء المعمورة وأثارت مخاوف من دخول الاقتصاد العالمي في ركود.

يعمل ترامب على إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية وتسوية العلاقة مع موسكو بغية "فصل" روسيا عن الصين، إلّا أن تطبيق استراتيجية كيسنجر معكوسة لن تؤتي ثمارها كما حصل حين عمّقت واشنطن الشرخ بين الصين والاتحاد السوفياتي إبّان الحرب الباردة. لكن جهود ترامب تجاه الكرملين، إن تكلّلت بالنجاح، قد "تفرمل" تعزيز العلاقات أكثر بين موسكو وبكين، علماً أن الشراكة بينهما بلغت مستويات تاريخية سرّعها الغزو الروسي لأوكرانيا و"العزلة العقابية" التي فرضها الغرب على موسكو، التي اتجهت شرقاً نحو أسواق بديلة، وعلى رأسها الصين والهند. الرهان الأميركي هنا محفوف بالمخاطر، فترميم العلاقة مع موسكو أمامه عقبات هائلة وتضارب مصالح جسيم، في وقت يتعرّض فيه "التآلف الاستراتيجي" على ضفتي الأطلسي لتصدّعات تهدّد صلابة حلف "الناتو".

هادن ترامب العالم في "الحرب التجارية"، باستثناء الصين، لفتح باب التفاوض وإبرام الصفقات، خصوصاً مع حلفاء بلاده الآسيويين الذين بعثوا برسائل تحذير، علنية ومبطّنة، إلى واشنطن، بأن هذه السياسات تدفعهم أكثر في اتجاه بكين وليس العكس. سارع بعدها ترامب لإعطاء الأولوية للمفاوضات التجارية مع اليابان وكوريا الجنوبية والهند وغيرها من دول المنطقة (ودول خارج المنطقة طبعاً)، ما أثار حفيظة الصين التي تتوجّس من أن تنتج تلك المحادثات اتفاقات تكون على حسابها، الأمر الذي دفعها إلى رفع الصوت والتوعّد باتخاذ إجراءات مضادة حازمة.

كانت لافتة ومعبّرة جولة الرئيس الصيني شي جينبينغ الخارجية على كلّ من فيتنام وماليزيا وكمبوديا الأسبوع الماضي، حيث وقّع اتفاقات متعدّدة ومتنوّعة تهدف إلى تعزيز علاقات بكين مع شركائها في جنوب شرق آسيا، بينما لم يتأخّر رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا بتنظيم جولة له تبدأ الأحد المقبل بزيارة إلى فيتنام والفيليبين لتعزيز علاقات طوكيو معهما، ما يؤشّر إلى حدّة الصراع الجيوسياسي في منطقة استحالت نقطة تجاذب بين القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، لما تمثله من ثقل ديموغرافي واقتصادي وتجاري.

استراتيجية واشنطن في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ ترتكز على تمتين تحالفاتها مع شركائها الأساسيين من اليابان وكوريا الجنوبية مروراً بتايوان والفيليبين وصولاً إلى أستراليا، فيما تسعى أميركا إلى جذب دول في جنوب شرق آسيا إليها أكثر فأكثر، كفيتنام وإندونيسيا وغيرهما. "تطوّق" الولايات المتحدة، الصين، جيوسياسياً وتجارياً، لاحتوائها ومنع انفلاش نفوذها بما يمسّ مصالح أميركا الحيوية، في حين يُثير احتمال فرض بكين "حصار دائم" حول تايوان قلق صنّاع القرار في واشنطن، مع ما سيترتّب عن مثل هكذا خطوة من "نكسة" بالنسبة إلى أميركا بضرب إمدادات أشباه الموصلات المتطوّرة، السلعة الاستراتيجية التي تراهن تايبيه عليها لدفع واشنطن للدفاع عنها.

سيناريو فرض الصين "حصاراً دائماً" على تايوان بعد ما يبدو في بادئ الأمر أنها مناورات عسكرية ضخمة، يبقى في مراحله الأولى أقلّ كلفة على النظام الشيوعي الصيني من شنّ غزو شامل لا يُمكن التنبّؤ بنتائجه، لكن تداعياته ستكون بلا شكّ كارثية بكلّ المقاييس. سترمي بكين إلى إخضاع تايوان مع الوقت بـ "حصار خانق"، بيد أن كلّ الاحتمالات ستكون على الطاولة، خصوصاً أن تايبيه لن تقف مكتوفة الأيدي لوقت طويل، وستحاول كسر الحصار عسكرياً متى دقت ساعة المواجهة في حساباتها. إن أي مواجهة عسكرية بين الصين وتايوان، ستتسبّب بتدهور البيئة الأمنية الإقليمية دراماتيكياً مع احتمال دخول أميركا واليابان في الحرب، إذا ما دعت الظروف ومصالحهما إلى ذلك.

يُحضّر ترامب العدّة على أكثر من جبهة ومستوى لـ "مواجهة القرن"، فهو يرغب بإنهاء حرب غزة وتوسيع "اتفاقات أبراهام" وإبرام "صفقة نووية" مع إيران و"تركيب" نظام شرق أوسطي جديد أكثر استقراراً يُريح إسرائيل ودول المنطقة على السواء، وتالياً يُخفّف "الأعباء" عن كاهل أميركا لتركيز أصولها العسكرية في أقصى شرق آسيا. تجدر الإشارة إلى أن زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى المملكة العربية السعودية الثلثاء الفائت، وجولة ترامب المرتقبة منتصف الشهر المقبل على كلّ من المملكة وقطر والإمارات العربية المتحدة، تعيدان إحياء، إلى جانب قضايا أخرى، الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، المنافس الطبيعي لـ "مبادرة الحزام والطريق" الصينية.

صحيح أن الصراعات والحروب تتخذ أشكالاً مختلفة عبر العصور، بيد أن علاقات القوى المتصارعة غالباً ما تصل إلى نقطة الانفجار في سياق التنافس على المصالح والنفوذ. المواجهة الأميركية - الصينية ما زالت باردة حتى الآن، وقد تتخلّلها "محطّات هدنوية" تجارية وغير تجارية في المدى المنظور، إلّا أن الصدام بينهما يبقى شبه محتوم في المستقبل، فخلافات واشنطن مع بكين كثيرة، تبدأ بـ "الفنتانيل" والمعادن الأرضية النادرة ولا تنتهي بـ "سرقة الملكية الفكرية" وسباق الذكاء الاصطناعي، والعالم قد لا يتّسع لطموحاتهما التوسعية معاً. التاريخ يحرص على تذكيرنا دائماً بأن الإنسان لا يتعلّم شيئاً منه، وإن أفلحت أميركا والصين باستخلاص العِبر اللازمة وتقاسمتا "قالب الحلوى" بالتراضي وأسّستا نظاماً دولياً جديداً، سلمياً، تكونان قد حققتا "معجزة عالمية نادرة" تناقض الطبيعة البشرية المشبّعة بالجشع و"المعمّدة" بالدماء والمتمرّسة بتكرار ارتكاب الأخطاء والخطايا.

جوزيف حبيب- نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا