ما وراء "التريند": بيلاتس وماتشا على الطريقة اللبنانية... شغف أم مجرد "بابازيات"؟
يبدو أن لبنان، بالإضافة إلى فصوله الأربعة (هل يا ترى ما زالت أربعة؟ فالطقس يخبرنا قصصاً أخرى)، يتمتع بموهبة خارقة في اختراع "تريندات" وتسويقها بسرعة البرق، وكأنها وحيٌ نزل من السماء. فجأة، تصبح البيلاتس التي طورت منذ بضعة عقود، الرياضة التي تحدد هوية العصر. ومن لا يتقن حركاتها، أو حتى لم يسمع بها، فهو بالتأكيد من سكان الكهوف.
ولم تكتفِ هذه الموجة الرياضية بفرض نفسها، بل جلبت معها رفيقاً لا يفارقها؛ ألا وهو المشروب الأخضر، "الماتشا". أصبح هذا الثنائي المقدس يزين صور "إنستغرام" و"تيك توك"، وكأنه سر الحياة السعيدة والصحة الأبدية. وفي خضم هذا الهوس الجماعي، يرتفع صوت الدهشة والاستغراب: كيف يمكن لأحد أن يجهل هذه "الضروريات"؟ نعم أيها السادة، صدقوا أو لا تصدقوا، ما زال هناك من لم يسمع بالبيلاتس ولا بالماتشا. لذا، تفضلوا لنتعرف على هذه "التريندات" التي تشغل اللبنانيين في هذه السطور.
لم تنبثق البيلاتس فجأة من فراغ مواقع التواصل؛ بل من أوائل القرن العشرين، حيث طور الألماني جوزيف هوبرتوس بيلاتس هذه المجموعة من التمارين. كان بيلاتس شغوفاً بالصحة الجسدية والعقلية، وقد جمع بين عناصر من الجمباز واليوغا والباليه لإنشاء نظام أسماه في البداية Contrology أو "علم التحكم"، مشدداً على أهمية التحكم في العضلات وتقوية مركز الجسم. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل بيلاتس كممرض يدرب الجنود على هذه التمارين لتحسين قوتهم وتعافيهم. لاحقاً، هاجر إلى الولايات المتحدة في عشرينات القرن الماضي وافتتح ستوديو في نيويورك، حيث بدأت طريقته في الانتشار بين الراقصين والممثلين الذين أدركوا فوائدها في تحسين المرونة والقوة والتوازن. ومع مرور الوقت، ذاع صيت البيلاتس وتجاوزت الأوساط الفنية لتصبح ممارسة رياضية معترفاً بها عالمياً.
أكثر من مجرد "ستريتشينغ"
في لبنان، لم تكن رياضة البيلاتس يوماً حديث الساعة أو محط أنظار الجميع. انطلقت بهدوء في عام 2003، لكن عدد الاستوديوات ظل محدوداً وشعبيتها محصورة بفئة قليلة. مقارنةً باليوغا أو الزومبا، كانت البيلاتس دائماً الوافد الجديد الذي يحتاج إلى تعريف وتوضيح.
لكن، وكما هي طبيعة العصر الرقمي، تغيرت الصورة جذرياً في السنتين الأخيرتين. فجأة، وجدنا البيلاتس في كل مكان: صور مثالية على "إنستغرام"، فيديوات قصيرة على "تيك توك"، إعلانات مكثفة من استوديوات جديدة انتشرت كالفطر. فما الذي حول هذه الرياضة الهادئة والمركزة إلى "تريند" يجب مواكبته؟
تجيب مدربة البيلاتس ميرنا غلاييني قائلةً: "الكثيرون يظنون أنها مجرد "ستريتشينغ" أو يوغا وهذا خطأ كبير". وتتابع حديثها مصححةً المفاهيم الخاطئة الشائعة: "من لم يمارس البيلاتس ويتابع فقط ما يُعرض على السوشيال ميديا، قد يقع في هذا الوهم". وتعزو الزيادة الهائلة في شعبية البيلاتس إلى عاملين رئيسيين: "مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً، بالإضافة إلى زيادة عدد الستوديوات التي تعتمد بشكل كبير على التسويق عبر هذه المنصات، وحتى من خلال المؤثرين. مع الاشارة الى أننا نجد في لبنان الكثير من الستوديوات التي تقدم حصص بيلاتس مات (على الأرض باستخدام وزن الجسم أو أدوات بسيطة) وحصص بيلاتس باستخدام الأجهزة المتخصصة (مثل الريفورمر والكاديلاك). كلا النوعين يقدمان فوائد فريدة ويمكن دمجهما لتحقيق أفضل النتائج".
تستقطب البيلاتس شرائح متنوعة من الأعمار والخلفيات الاجتماعية، حيث تبدأ أسعار الحصص من 15 إلى 30 دولاراً، وبحسب ميرنا "هناك من يتسجلون بدافع الفضول ومواكبة "التريند" والتقاط الصور فحسب. أمّا من يستمر، فغالباً ما يكون قد استمتع بالرياضة بالفعل".
وهنا، تجد ميرنا وفريقها أنفسهم أمام مهمة نبيلة، ألا وهي نشر الوعي الحقيقي حول ماهية البيلاتس وفوائدها. "هناك فئة تبدي مقاومة تجاه هذه الموجة وما يتم تداوله على السوشيال ميديا"، تشرح ميرنا، "وهذا يمثل تحدياً لنا في سبيل تثقيفهم وتعريفهم بالمنافع الحقيقية للبيلاتس". وتتوقف في حديثها على نقطة بالغة الأهمية، وهي أن المظهر الهادئ والبسيط لحركات البيلاتس قد يكون مضللاً للبعض، لا سيما أولئك القادمين من خلفيات رياضية أخرى. "قد يظنون أن قوتهم البدنية كافية لاقتحام عالم البيلاتس بسهولة، لكن الحقيقة غير ذلك. فالبيلاتس تتطلب نوعاً مختلفاً من التركيز والتحكم الدقيق بالجسم والعضلات".
الماتشا فوائد متنوعة
بعدما استعرضنا قصة صعود البيلاتس المفاجئ، حان دور مشروب آخر يشاركه الأضواء الخضراء، "الماتشا"، الذي شق طريقه هو الآخر إلى مقاهينا وحساباتنا الرقمية. على عكس البيلاتس التي نشأت في أوائل القرن العشرين، فإن تاريخ الماتشا يضرب بجذوره عميقاً في الصين، وتحديداً في عهد أسرة تانغ (القرن السابع إلى العاشر الميلادي). خلال هذه الفترة، كان الرهبان البوذيون يطحنون أوراق الشاي على شكل مسحوق ويخفقونه في الماء الساخن كجزء من ممارساتهم التأملية. في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، سافر الراهب البوذي الياباني إيساي إلى الصين وعاد ومعه ببذور شاي الماتشا وتقنيات زراعته وتحضيره. سرعان ما تبنى الرهبان البوذيون في اليابان هذه الممارسة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من طقوس الشاي البوذية الزينية. مع مرور الوقت، انتقلت الماتشا من الأديرة البوذية إلى طبقة الساموراي النبيلة في اليابان، حيث أصبحت رمزاً للثقافة والرقي. تطورت طقوس الشاي اليابانية المعقدة (Chanoyu) حول تحضير وتقديم الماتشا، وأصبحت فناً بحد ذاته يحمل قيماً مثل الانسجام والاحترام والنقاء والهدوء.
نسأل اختصاصية التغذية ريتا نصر عن هذا المشروب، فتقول: "مذاقه ليس مستساغاً للجميع، بل إن البعض يصفونه بأنه غير لذيذ إطلاقاً". وأضافت مازحة: "غالبية محبي البيلاتس يشربونه على مضض، فقط من أجل التقاط الصور المثالية".
تُسلط هذه الملاحظة الضوء على زاوية أخرى لهذه الظاهرة، وهي أن الاستهلاك قد يكون مدفوعاً برغبة في مواكبة الموضة أكثر من كونه نابعاً من متعة المذاق أو حاجة حقيقية. ومع ذلك، تؤكد نصر الجانب الإيجابي للماتشا قائلة: "لا يختلف اثنان على الفوائد الصحية الهائلة التي تحملها"، مشيرةً إلى قدرتها على تنظيم مستويات الكوليسترول والسكر في الدم، وتعزيز المناعة، والمساهمة في نضارة البشرة، وحتى المساعدة على الاسترخاء وتخليص الجسم من السموم، بالإضافة إلى دورها المحتمل في محاربة السرطان ومنح الطاقة وتأخير علامات الشيخوخة. ولا شك أن هذه الادعاءات، المدعومة بحقيقة احتواء الماتشا على نسب مضادات أكسدة تفوق الشاي الأخضر بعشرة أضعاف، قد لعبت دوراً كبيراً في شعبيتها المتزايدة. مشددةً على أنّها "ليست مشروباً سحرياً لخسارة الوزن أبداً".
في لبنان، قد لا تكون الماتشا متوافرة دائماً، فهل يمكننا الحصول على فوائد مماثلة من بدائل أرخص ومتاحة بسهولة أكبر؟ تجيب نصر: "السبيرولينا" والمورينغا، منتجان يحملان تقريباً نفس الفوائد الصحية التي تُنسب إلى الماتشا، وربما بتكلفة أقل، من دون أن ننسى أنّ للشاي الأخضر المحلي أيضاً فوائد ممتازة".
وتختم حديثها ناصحةً "بالتعامل بوعي مع هذه "الموضة، لأنّ الافراط بشرب الماتشا يسبب قلقاً، ألماً في الرأس ومشاكل في النوم..."، مضيفةً: "فلنتذكر دائماً أن الصحة ليست مجرد اتباع "تريند"، بل هي خيارات واعية ومستدامة تناسب احتياجاتنا وظروفنا".
جنى جبّور - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|