تشريح عقلية ترامب.. كيف يفكر الرئيس الأميركي؟
في مشهد استثنائي داخل أروقة البيت الأبيض، جلس الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تحت أضواء الكاميرات الكاشفة، إلى جانب نائبه جيه دي فانس، وأمامهما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث لم تدم المجاملات البروتوكولية طويلاً، وسرعان ما انقلب اللقاء إلى ساحة مكشوفة من الإحراج والضغوط؛ حين بادر القائدان الأميركيان بأسلوبهما الصادم، إلى انتقاد زيلينسكي على العلن، متجاهلين الأعراف الدبلوماسية، ومطلقين وابلاً من التعليقات الحادة التي أربكت الضيف وأدهشت الحضور، في سابقة مثيرة من نوعها.
كانت تلك اللحظة واحدة من العلامات المبكرة على أن ترامب في ولايته الثانية، مستمر في سياسة المواجهة المباشرة التي لا تخشى كسر التقاليد، وجعل الخصوم والحلفاء على حد سواء في موقع الدفاع.
هذا المشهد يعكس بوضوح جانباً محورياً في شخصية ترامب القيادية، لجهة أسلوب الإحراج العلني والمواجهة المفتوحة، واستخدام "الصدمة" كأداة لإعادة صياغة موازين القوى.
ومع مرور 100 يوم على بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي، تعود شخصيته إلى واجهة التحليل من زوايا متعددة؛ سواء من خلال السياسات والقرارات المزلزلة التي اتخذها، وكذلك لجهة فلسفته في إدارتها والتعامل مع تبعاتها، كما حدث مع قرارات الرسوم الجمركية في "يوم التحرير" مطلع أبريل/نيسان الماضي، أو من خلال أدواته الخاصة للتأثير داخل المجتمع والبيئة السياسية.
على مدار الأيام الـ 100 يوم الماضية، وبينما انشغل العالم بتحليل القرارات الصادمة واستشراف انعكاساتها على العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي، ظلت شخصية ترامب نفسها مصدراً للجدل، وموضوعاً للقراءات المختلفة التي تجاوزت الأطر السياسية التقليدية نحو ميادين علم النفس السياسي والسلوك الجماعي، في وقت بدا فيه واضحاً أن دراسة شخصية ترامب تقتضي فهماً لعلاقته المعقدة بالعاطفة الجماعية، وكيفية استخدامه لمشاعر الجماهير كأداة حاسمة في تحقيق أهدافه السياسية.
وعلى امتداد هذه المرحلة المئوية، ظلّت شخصية ترامب مثيرة للعديد من علامات الاستفهام حول منطقه السياسي والاقتصادي وفلسفته الإدارية، حيث بدا أن قراراته الصادمة -ـ التي غالباً ما تتعارض مع الأسس الراسخة قبله -ـ تعكس نهجاً مدروساً في صناعة الغموض السياسي، وتعزيز حالة اللايقين سواء في الداخل الأميركي أو على الساحة الدولية.
يقدم ترامب نموذجاً مختلفاً لرجل السلطة، لجهة قيادة تقوم على الغريزة أكثر من الحسابات، وعلى التأثير الوجداني أكثر من الحجج المنطقية.. وفي هذا الإطار، تستعرض CNBC عربية عبر مناقشات خاصة مع مجموعة من المختصين قراءة تحليلية لأسلوب ترامب القيادي من منظور علم النفس السياسي.
الغضب تجاه الديمقراطيين
في البداية، وعلى صعيد إدارة السياسات الداخلية للرئيس ترامب، فإن فلسفة التعبئة العاطفية (بتوظيف مشاعر الخوف والغضب وحتى الكبرياء) كأداة للقيادة السياسية، تظل مسوغاً رئيسياً في المبادئ التي يبني عليها سياساته. وفي هذا السياق، يقول عالم السياسة الأميركي، الاستاذ في جامعة كولومبيا، المتخصص في القيادة السياسية والسياسات الاجتماعية، روبرت شابيرو، لـ CNBC عربية، إن ذلك يعتمد بشكل كبير على "الغضب تجاه الديمقراطيين ومواقفهم السياسية، والآن تجاههم في المعارضة".
وذلك في إشارة لنجاح ترامب في توظيف مشاعر "الغضب" تجاه الإدارة الديمقراطية السابقة وسياساتها. فيما يشير شابيرو في الوقت نفسه إلى أنه "كان هناك أداء ضعيف حقيقي يستحق انتقاده في إدارة بايدن، لذا لم يكن الأمر كله عاطفياً فحسب.. لكن الآن، لا توجد سياسات ديمقراطية تستحق انتقادها".
ويتفق شابيرو مع أن سلوك ترامب في ولايته الثانية يتفق مع النموذج الأوسع "للقيادة العاطفية" المحدد في علم النفس السياسي، موضحاً أن الرئيس الأميركي "يحاول تكرار نفس النهج، وسيفعل ذلك بشكل أكبر مع اقتراب انتخابات 2026". ويضيف: "ترامب فريد من نوعه، وقد برز لأسباب خاصة بالولايات المتحدة، بدءًا من ظهور حزب الشاي في الولايات المتحدة".
يعني ذلك صعود ترامب لم يكن ظاهرة عابرة أو قابلة للاستنساخ في بيئات سياسية أخرى بنفس مسوغاتها، بل جاء نتيجة ظروف داخلية خاصة بالولايات المتحدة؛ عندما مهد ظهور "حزب الشاي" وهو تيار شعبي محافظ ظهر بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 الطريق لتحولات سياسية عميقة، أبرزها التشكيك في النخب التقليدية وتصاعد الخطاب القومي والاعتراض على التوسع الحكومي. خلقت هذه البيئة المشحونة فراغاً في القيادة استغله ترامب، بصفته شخصية غير تقليدية تتقن مخاطبة الغضب الشعبي، مما جعله يمثل تحولًا جذريًا في المشهد السياسي الأميركي.
الترهيب السياسي
من الولايات المتحدة، تقول عالمة النفس السياسي، الدكتورة رينيه كار، في حديثها مع CNBC عربية، إن "العاطفة الأساسية التي يستغلها الرئيس ترامب هي الخوف.. وتحديداً، يستخدم التهديد بفقدان السلطة أو المنصب السياسي لإجبار السياسيين الآخرين على فعل ما يطلبه منهم، حتى لو كان ذلك يعني التنازل عما أعلنوه سابقاً من قيم أو وعود انتخابية".
في تقدير كار، فإن الرئيس الأميركي "يعتمد على الترهيب السياسي والاقتصادي لإجبار الأفراد ذوي العقول الضعيفة على فعل ما يريده منهم.. ومع ذلك، عندما يتحلى الأفراد بالشجاعة ولا يخافون من تهديداته، فإنه يحاول استخدام شعور الإحراج".
ولأنه يركز بشدة على المظاهر والسمعة، فإنه يستخدم التهديدات لترهيب سمعة الآخرين كأسلوب آخر لـ "لتلاعب العاطفي"؛ على سبيل المثال، غالباً ما يبدأ محادثة بتصريح يعكس عدم تقديره أو احترامه لشخص آخر؛ فقد يصف شخصاً ما بالغباء أو يدلي بتعليق سلبي ح كوسيلة لنزع سلاح أي شخص يعتقد بأنه قد يشكل تهديداً له أو أي شخص يبدو أقوى من محاولات ترهيبه.
لكنها في الوقت نفسه لا تتفق مع الرأي القائل بأن ترامب يشكل نموذجاً لـ "القيادة العاطفية"، موضحة أن "القيادة العاطفية مرتبطة بدراسة الذكاء العاطفي.. وهو مستوى أعلى من القيادة يتطلب وعياً ذاتياً وقدرة على تطبيق فهم العواطف لتعزيز الإنتاجية وجودة الحياة في مكان العمل.. وهذا يتناقض مع استخدام الرئيس ترامب للتلاعب بالعواطف".
وتوضح عالمة النفس السياسي ذلك بقولها: "لا يستخدم ترامب العواطف للإلهام، إلا فقط لإلهام من حوله للقيام بأعمال تعود عليه بالنفع".
تسخير العاطفة
"وبالنظر إلى فترة رئاسته الأولى (2017-2021) وحتى أول 100 يوم في ولايته الثانية، فإن أبرز ما يميز ترامب ليس سياساته المحددة، بل قدرته المذهلة على تسخير العاطفة كوقود سياسي"، طبقاً لاستاذ ورئيس قسم القيادة التنظيمية في جامعة يوتا بالولايات المتحدة، جوناثان ويستوفر، في حديثه مع CNBC عربية.
يُحلل ويستوفر شخصية ترامب وأساليبه في القيادة، موضحاً أن ما وصفه بـ "عبقرية ترامب -إن صح التعبير- تكمن في إدراكه أن السياسة لا تقتصر على الحجج والأدلة؛ بل تتعلق بمشاعر الناخبين".
استغلّ الرئيس الأميركي التيارات العاطفية العميقة المتدفقة تحت المجتمع، فبينما كان السياسيون التقليديون يتحدثون عن تفاصيل السياسة، كان ترامب يتحدث مباشرةً عن المخاوف، بما في ذلك الهجرة والتدهور الاقتصادي، ومكانة أميركا في العالم، وكان يُعلن "الحلم الأميركي قد مات"، قبل أن يعد بأنه وحده القادر على إحيائه.
لم يكن هذا النهج العاطفي مصادفةً؛ فقد أدرك ترامب بديهةً ما درسه علماء النفس السياسي منذ زمن طويل أن الخوف والغضب مُحفّزان قويان، وفق ويستوفر.
وفي أبحاث أجرتها عالمة النفسي السياسي، ديانا موتز، وجدت أن عديداً من ناخبي ترامب كانوا مدفوعين بتهديدات مُتصوّرة لمكانتهم الاجتماعية، وليس بمخاوف اقتصادية بحتة.
وبالتالي فإن ما يجعل الرئيس الأميركي مُلفتاً من منظور نفسي هو كيفية تجسيده لما يُطلق عليه الباحثون "القيادة العاطفية"، فعلى عكس الرؤساء الذين ركّزوا على المداولات الهادئة، احتفى ترامب بالكثافة العاطفية.
ووفق استاذ ورئيس قسم القيادة التنظيمية في جامعة يوتا بالولايات المتحدة، فإن "ترامب خلق ما يُمكن تسميته تياراً عاطفياً مُستمراً بينه وبين مُؤيديه.. وفي التجمعات الانتخابية، أصبح هذا التيار عاطفياً بشكل شبه غريزي، فيما وصف بأنه تجربة عاطفية مُشتركة رسّخت الولاء السياسي بما يتجاوز الجدل العقلاني".
تحوّلات بـ "علم النفس السياسي الأميركي"!
وقد دفع هذا التأثير الترامبي إلى ما يُمكن وصفه بـ "تحولات عميقة في علم النفس السياسي الأميركي" وهو التعبير الذي استخدمه ويستوفر لدى حديثه مع CNBC عربية، مفسراً ذلك بقوله: "أصبحت السياسة (في أميركا) أقل تركيزاً على الإقناع وأكثر تركيزاً على الانتماء القبلي... لم يعد السؤال مُجرّد (ما رأيك؟)، بل (مع من أنت؟).
ساعد هذا التحوّل في تفسير سبب تآكل المعايير السياسية التقليدية؛ فعندما تُصبح السياسة هوية عاطفية، يُصبح التنازل بمثابة خيانة.
ورداً على سؤال هل كان ترامب فريداً في التاريخ الأميركي في هذا الأسلوب؟ يجيب ويستوفر بالإيجاب، موضحاً أن الولايات المتحدة شهدت من قبلُ شعبويين عاطفيين، من هيوي لونغ إلى جورج والاس. لكن ترامب عمل في بيئة إعلامية غير مسبوقة. تجاوز حسابه على السوشيال ميديا البوابات التقليدية، مُنشئاً روابط عاطفية مباشرة مع ملايين الأشخاص، بينما لم يتواصل أي رئيس سابق بهذه السرعة والشخصية، وبمثل هذه القسوة العاطفية.
تيار عالمي
وبالرغم من ذلك، فقد عكس ترامب أيضاً تيارات عالمية. من الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو، وفيكتور أوربان في المجر، شهدنا ظهور قادة مماثلين حول العالم، جميعهم يستغلون المخاوف بشأن التغيير الثقافي، وجميعهم يعدون بقيادة قوية في مواجهة التهديدات المُتصوَّرة، وجميعهم يتقنون الخطاب العاطفي بدلًا من العقلاني.
ويعتقد ويستوفر بأن إرث قيادة ترامب العاطفية لا يزال يُعيد تشكيل السياسة الأميركية، فحتى أولئك الذين عارضوه يعملون الآن في مشهد سياسي غالباً ما تتغلب فيه الشدة العاطفية على جوهر السياسة.
وفي ختام تحليله لقيادة ترامب، يشير استاذ ورئيس قسم القيادة التنظيمية في جامعة يوتا بالولايات المتحدة، إلى أن "ترامب كشف عن أمرٍ مُقلق بشأن السياسة الديمقراطية نفسها، وهي أن المؤسسات الأميركية العقلانية ترتكز على أسس عاطفية، بمجرد تحريكها، يُمكنها أن تُزعزع كل ما بُني عليها".
تصرفات ترامب السياسية
يستهل الدكتور ديفيد شولتز، وهو أستاذ في العلوم السياسية والفلسفة والقانون بجامعة هاملين، تحليله الذي خص به CNBC عربية، حول كيفية فهم تصرفات ترامب السياسية من خلال النظريات الفلسفية الحديثة للسلطة والشرعية، بالإشارة إلى أن "ترامب نتاجٌ لأكثر من قرنين من تطور المعايير الديمقراطية الأميركية، وهو في الوقت نفسه انحرافٌ عنها".
ويفسر ذلك بقوله: يُفترض أن يكون النظام السياسي الأميركي جمهوريةً اتحاديةً دستوريةً قائمةً على الضوابط والتوازنات، وفصل السلطات، والحكومة المحدودة. وكما هو مُصممٌ في الأصل، كان من المُتصور أن تكون الرئاسة فرعًا أضعف مقارنةً بالكونغرس.
ومع مرور الوقت، وخاصةً منذ رئاسة فرانكلين روزفلت، فوّض الكونغرس أو تنازل عن المزيد من السلطات للرئاسة. وقبل خمسين عامًا، خشي المؤرخ آرثر شليزنجر الابن من "رئاسةٍ إمبراطورية".
ديمقراطية شعبوية
ويقول إن ترامب يُحوّل الولايات المتحدة إلى ديمقراطية شعبوية أو ديمقراطية غير ليبرالية مرةً أخرى، منبهاً إلى أن الولايات المتحدة استغرقت أكثر من 200 عام لتتطور إلى ديمقراطية دستورية يحكمها الأغلبية مع احترام حقوق الأقليات.
"تمتزج شعبويته بالعنصرية وكراهية الأجانب، مما يحول الولايات المتحدة إلى شكل أكثر استبدادية من المجتمع حيث تفعل الجماعات الشعبوية ما تريد. يعتقد ترامب وأنصاره أنهم ذوو سيادة، لكنهم ليسوا كذلك. السيادة في الديمقراطية أوسع من مجرد التعددية الشعبوية".
ويستطرد: "من الواضح أنه (ترامب) يرفض مفهوم الديمقراطية التعددية الليبرالية لصالح نسخة أكثر شعبوية من الديمقراطية لا ترى احترامًا لحقوق الأقليات. كما أنه يرفض مفاهيم مثل سيادة القانون، وفصل السلطات، والضوابط والتوازنات، والحكومة المحدودة. وهو يقع في كثير من النواحي خارج التيار الرئيسي للتقاليد السياسية الأميركية كما تطورت خاصة بعد الحرب العالمية الثانية".
cnbc
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|