الدروز على خطوط التماس... وجنبلاط بين الشرع والجولاني
صباح الثامن من كانون الأول 2024 كانت جرمانا، في ريف دمشق الغربي، جزءاً من المشهد السوري المبتهج برحيل النظام. فحطّم أهلها تمثال حافظ الأسد، وأطلقوا على ساحة المدينة اسم الشهيد كمال جنبلاط، معلنين تحطيم السجن الكبير الذي استمر لعقود والعبور نحو سوريا الجديدة.
لا تشبه الأحداث الدموية على أطراف المدينة، منذ ليل الاثنين الثلاثاء، والتي انتقلت إلى أشرفية صحنايا ومناطق في السويداء، المشهد السوري الجامع عشية سقوط حكم آل الأسد. لتتقدّم النزعات الطائفية والمشاريع التقسيمية، وتكرار مظاهر سفك الدماء التي فرّ منها ملايين السوريين وتحوّلوا إلى مهجّرين في بلاد الشتات.
قلق الدروز
تعكس اشتباكات جرمانا وأشرفية صحنايا بين مجموعات محسوبة على وزارة الدفاع ومسلحين دروز، العلاقة القلقة بين دروز سوريا والإدارة الجديدة، بعدما كانا قد اجتمعا في غرفة العمليات المشتركة في الأسبوع الأخير من عمر النظام. إلا أن خلافات كبيرة في مقاربة المرحلة الانتقالية تركت ذيولها على خط جبل العرب - دمشق. فالدروز الذين عاشوا بشبه إدارة ذاتية منذ عامين تقريباً، لم يسلكوا طريق الأكراد باتجاه الانضمام إلى الدولة وإداراتها، وتمسّكوا بسلاحهم خصوصاً بعد أحداث الساحل.
استغلّت إسرائيل هذا القلق بشكل علني، مدّعيةً حماية الدروز، في محاولة واضحة لتأجيج فتنة بين الدروز ومحيطهم السنّي، بهدف تعزيز النزعة الانفصالية في المناطق الدرزية، وتكريس منطقة عازلة تفصلهم عن الحكم الجديد برئاسة أحمد الشرع في دمشق.
تسجيل مفبرك وحماية مزعومة
بدأ اللعب الإسرائيلي على خط دروز سوريا يأخذ أبعاداً خطيرة، والتسجيل المفبرك المنسوب لشيخ درزي يسيء للنبي محمد الذي أشعل فتنة جرمانا، والذي أثبتت وزارة الداخلية السورية زيفه، يثير تساؤلات كبيرة حول الجهات المستفيدة من خلق توترات أمنية مماثلة تضع الدروز في عزلة عن محيطهم. وتحوّلهم إلى وقود لفتنة طائفية تنتهي بمشاريع تقسيم وانفصال خدمة لأطماع إسرائيل.
وكان أوعز رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في الأول من أذار الماضي، إلى الجيش الإسرائيلي الاستعداد من أجل الدفاع عن مدينة جرمانا، على خلفية سقوط قتلى وجرحى بعد اشتباكات شهدتها المنطقة آنذاك.
وقال حينها نتنياهو ان "إسرائيل لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف بإلحاق الأذى بالدروز. وإذا ألحق بهم الأذى فسوف يتعرض للأذى من قبلنا". ليعود نتنياهو ويتدخّل بعد الأحداث الأخيرة، معلناً الأربعاء أن "الجيش الإسرائيلي نفذ ضربة تحذيرية استهدفت متطرفين يستعدون لمهاجمة الدروز في سوريا"، مؤكدا أن "إسرائيل تؤكد التزامها العميق بحماية الدروز في سوريا".
في الوقت نفسه، كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن إسرائيل وجّهت تحذيرًا شديدًا للنظام السوري وطالبته بمنع الاعتداءات على الدروز.
تحذير جنبلاط
في لبنان، رفع الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الصوت باكراً، محذّراً دروز سوريا من الإنجرار إلى هذا المشروع، داعياً إياهم للالتحاق بالدولة السورية الجديدة التي "تحاول ترميم نفسها بنفسها"، على حدّ تعبيره، إدراكاً منه أن الدروز هم مواطنون سوريون ولا مكان لهم إلا في دولتهم، لا أن يكونوا جنوداً في لعبة الأمم الكبرى.
ومرة جديدة استنفر جنبلاط لوقف حمّام الدم بعد أحداث جرمانا، محذّراً، في كلمةٍ ألقاها عقب الاجتماع الاستثنائيّ للمجلس المذهبي الدرزيّ بحضور شيخ العقل سامي أبي المنى، من "التدخّل الإسرائيليّ"، مشدداً على أنّه "نرفض استخدام دروز سوريا من قِبل إسرائيل، وحفظ الإخوان يكون بإسكات بعض الأصوات الداخليّة التي بدأت تستنجد بإسرائيل".
زائر دمشق الأول
وبعدما كان جنبلاط من بين أوائل الزائرين لدمشق عقب رحيل الأسد ولقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، في مشهد أراد من خلاله نوجيه رسالة واضحة بضرورة إعطاء الحكم الجديد فرصة لالتقاط أنفاسه وبناء الدولة، وتوجيه دعوة غير مباشرة للدروز بأن يكونوا جزءا من هذه الدولة. عاد وأعلن من جديد "أنني على استعداد لأن أذهب إلى دمشق مجدّداً، وأن أتحاور معهم، لوضع أسس لمطالب الدروز الذين هم جزء من الشعب السوري"، داعيًا إلى التهدئة والحوار في ضوء التطوّرات الأخيرة. كما طالب السلطاتِ السورية بإجراء تحقيقٍ شفاف في أحداث جرمانا، محذّرًا من محاولات تل أبيب استغلال الطائفة الدرزيّة لإشعال فتنةٍ داخليّة. كذلك دعا إلى تشكيل لجنةٍ للتواصل مع جميع الأطراف بغية العمل على حلّ الأزمة السورية.
إعلان جنبلاط سيكون بانتظار تحديد موعد جديد له في قصر الشعب. وكان سبق له وقال في الثاني من أذار الماضي أنه سيطلب موعداً من الشرع وسيزور دمشق مجددًا ليقول للجميع إنّ الشام هي عاصمة سوريا.
"لا نحتاج حماية إسرائيل"
موقف جنبلاط كان سبقه سلسلة اتصالات مكثفة على مدى الساعات الماضية، وكشف أمين سرّ كتلة اللقاء الديمقراطي النائب هادي أبو الحسن، في حديث لجريدة المدن الإلكترونية، أنه "منذ صباح الثلاثاء، أجرى جنبلاط حركة اتصالات مكثفة داخلية وخارجية، طالت كل من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والأردن بهدف التعاون لضبط الأمور والتهدئة وتصويب مسار التفاوض بين الفعاليات الروحية والمدنية في جرمانا وفي جبل العرب مع الحكومة السورية، من خلال المحافظين وممثلي وزارة الداخلية السورية. وهذه الاتصالات كانت قد أثمرت الثلاثاء في جرمانا الى أن توسّعت الأمور الأربعاء لتشمل أشرفية صحنايا".
وأضاف أبو الحسن: "تمت معاودة الاتصالات، وقام الأصدقاء الخارجيون بسعيهم بالتنسيق مع الإدارة السورية وتوجّه وفد من المشايخ والتقوا بالفعاليات من خلال ممثلي وزارة الداخلية مجدداً في جرمانا وفي ريف دمشق"، مؤكداً أن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح وتتجه نحو التهدئة. وهنا دعوة إلى الجميع للهدوء والتعقّل والتروّي وعدم الانجرار إلى الانفعال على الإطلاق، فالانفعال يؤدي إلى التوتر، والتوتر يؤدي الى نتائج غير محسوبة".
وتابع أبو الحسن: "نعبّر عن أشد عبارات الاستنكار للاساءة التي وجّهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، خصوصاً أن هناك مندساً مشبوهاً حاول أن ينتحل صفة أحد أبناء طائفة الموحدين المسلمين الدروز، وقام بتوجيه الإساءات لرسول الله. هذا أمر مستنكر وعمل مريب ومشبوه الهدف منه إثارة النعرات وإشعال فتيل الفتنة، وما يقوم به جنبلاط وشيخ العقل هو وأد الفتنة ودفنها في مهدها".
وشدّد أبو الحسن على انه "يبقى الأساس أن طائفة الموحدين الدروز لا تحتاج حماية أحد، هم جزء أساسي ومكوّن أساسي من النسيج السوري، يركنون الى الدولة السورية ولا نحتاج حمايةً لا من إسرائيل ولا من غيرها. مَن يحمي الدروز هو وعيهم وحكمتهم ودولتهم السورية".
غليان في الشارع
يأتي الاستنفار الدرزي بعد غليان في الشارع على أثر الأخبار الواردة من سوريا، وكان بعض الشبان قد عمدوا إلى قطع الطريق العام في عاليه احتجاجًا على الأحداث التي تشهدها مدينة جرمانا، ما دفع مشيخة العقل والمشايخ الدروز إلى إصدار حرم ديني يمنع هذه المظاهر بشكل قاطع، أو التعرّض للسوريين في لبنان بأي شكل من الأشكال.
وكان رجال الدين قد تداعوا إلى اجتماع في مقام الأمير السيّد عبد الله التنوخي في عبيه، حضرته المرجعيات الروحية وشيخ العقل سامي أبي المنى، الذي دعا للهدوء وحذّر من "مخطّطات لضرب أبناء الوطن الواحد في سوريا"، داعيًا إلى "الحكمة والتبصّر بعواقب الأمور ولملمة الوضع الحاصل وجمع الشمل". وأشار إلى أنّه على تواصلٍ دائم مع القيادات السياسيّة، بما فيها وليد جنبلاط والأمير طلال أرسلان، ومع المسؤولين السوريين وغيرهم من المرجعيّات الدينيّة في المنطقة، محمّلًا الجميع مسؤوليّة تدارك الفتنة.
من جهته، اعتبر أرسلان أن "حماية الدروز وسائر الأقليات في سوريا هي من صميم مسؤوليات الدولة وسلطاتها الرسمية، وأيّ تعدٍّ أو تهديد يطال سلامتهم أو حياتهم من قِبل عناصر أمنية أو عسكرية أو فصائل تابعة لها، يُعدّ كارثة كبرى. وعلى دول العالم، ولا سيّما الدول العربية، التحرّك فوراً لردع أي اعتداءات تستهدف الدروز وضمان حمايتهم، أسوةً بسائر الأقليات".
تجربة دروز إدلب
استحضرت أحداث جرمانا ما سبق أن تعرّض له الدروز في منطقة إدلب، ومجرزة بلدة قلب لوزة التي راح ضحيتها العشرات في العام 2015. استذكر جنبلاط هذه الأحداث، مؤكداً استعداده لتكرار ما فعله حينها من أجل حماية الدروز، رغم تعرّضه آنذاك لانتقادات بسبب تواصله مع أبو محمد الجولاني، الرئيس الشرع اليوم، فالتواصل والحوار مع القيادة السورية الجديدة هو الطريق الوحيد، وإلا سيكون الدروز أمام خيارات أخرى ستورّط كل الدروز ولن يسلم منها دروز لبنان أيضاً.
الدروز في سوريا على خطوط تماس خطيرة وفالق تحوّلات عابر للحدود، وعلى مسافة مفخخة بين تل أبيب ودمشق، وصولاً إلى أنقرة. وفيما يواجهون أصعب الخيارات بتحديد بوصلة مستقبلهم، هل تنجح دمشق بطمأنتهم قبل خطفهم إلى مكان لا يشبههم؟
نادر حجاز - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|