طائفة بلديّة بيروت!
في عاصمة الجمهورية اللبنانيّة جدل هستيريّ لا يمتّ بصلة إلى واقع المدينة، وهويّتها، وطبيعة مشاكلها وهموم أهلها. جوّ طائفي مشحون، عنوانه "المناصفة" بين المسلمين والمسيحيين في المجلس البلدي، وصلاحيّات المجلس المنتخب التي يسيطر عليها المحافظ المعيّن من قبل الحكومة اللبنانيّة. بدل أن يتمحور النقاش حول حال الطرقات، والمساحات العامة، والكهرباء، والنقل العام، والتفلت الأمني، والإنارة (واللائحة هنا لا تنتهي)، غرقنا جميعاً غصباً عنا في متاهة سياسيّة - قانونيّة مرتبطة بالتوازنات الطائفيّة. الأزمة مفتعلة بطبيعة الحال، إذ لا يوجد خطر فعليّ على المناصفة من عموم الناس، كما لا يوجد ما هو أكثر فعاليّة من الخلافات القبليّة والغرائزيّة لحرف النقاش عن مكانه الطبيعي، وفرض "ضمانات" (مراجعة مثلاً كلام الرئيس برّي عن كونه ضامناً للمناصفة) تطغى على إرادة الناس بانتخاب ممثليهم.
في الثامن عشر من الشهر الحالي سينتخب البيارتة مجلساً بلدياً جديداً ضمن معطيات الأمر الواقع. لكن من واجب القوى الفاعلة في المدينة الانتقال الجديّ والسريع إلى البحث في صيغة جديدة لحكم بيروت إنمائياً (كما اقترح النائب الصديق وضاح الصادق)، ضمن معادلة تلغي كل الشواذ الطاغي حالياً على آلية إدارة العاصمة.
الأول هو التحالفات السياسية والانتخابية المفروضة لضمان المناصفة، والتي تجبر قوى مختلفة عن بعضها البعض جذرياً على التحالف، ما ينتج بطبيعة الحال مجلساً بلدياً تحاصصياً ومتناقضاً لا يعمل بشكل طبيعي ولا بشكل فعّال.
الشواذ الثاني هو الصلاحيات المعطاة لمحافظ بيروت، والتي هي في أساسها صلاحيات مخالفة للحق الديمقراطي لأهالي بيروت بانتخاب من سيحكمهم إنمائياً ويدير شؤون مدينتهم، أسوة ببقيّة المناطق اللبنانيّة. كما إن صلاحيات المحافظ تخلق ديناميّة معطّلة للمحاسبة أشبه بحكومات "الوحدة الوطنية" ونظريات "ما خلّونا"، لأن كل مجلس بلدي فاشل سيلوم "صلاحيات المحافظ" على فشله، ولو أن الفشل لا علاقة له بالمحافظ لا من قريب ولا من بعيد (المحافظ السابق مثلاً "عطّل" صفقات عديدة فاسدة كان المجلس البلدي قد وافق عليها، لم يطلع رئيس البلديّة الرأي العام البيروتي يوماً ما على مشروع عظيم "عطّله" المحافظ).
الشواذ الثالث وربما الأهم، هو إتاحة الفرضة لأحزاب فاسدة وفاشلة بتجاربها السياسية والإنمائية لاستعمال عناوين طائفيّة "وجوديّة" لحشد أصوات الناخبين، من دون حتى الاضطرار إلى الحد الأدنى من النقاش في البرنامج الانتخابي. إذاً الأساس هو نزع هذه الورقة من يد "تجار الطائفيّة" (de-sectarianization of issues) لإجبار الجميع على التنافس على ما هو أفضل للمدينة. الملفت هنا هو أن المجالس البلديّة التي حكمت في العقدين الأخيرين فشلت تجاه الشق الغربي من المدينة ذات الأغلبية الإسلاميّة أكثر مما فشلت تجاه شقّها الشرقي (الأشرفيّة أحسن حالاً جزئياً بحكم المبادرات المحليّة الاستثنائيّة لأهلها)، لكن الحساسيّات الطائفيّة تطغى على أي نقاش علمي وموضوعي بهذا الخصوص.
أما الشواذ الرابع فهو ظاهرة "التشطيب" المتخلّفة، والتي بعض النظر عن بعدها الطائفي من عدمه، لم تعد موجودة في أي دولة في العالم منذ نهاية الستينات. في المدن الكبرى في العالم عادة ما يصوّت الناخبون لشخص رئيس البلديّة على حدة، ولشخص يمثّل جزءاً من المدينة على حدة.
بغضّ النظر عن تقنيات الانتخاب، والقدرة على الاستفادة من التجارب الانتخابية البلديّة العديدة في العالم، الأهم بيروتياً هو الاتفاق على الأسس المبدئيّة التي يتم النقاش العملي على أساسها. وكذلك الاعتراف بأن التركيبات التشاركية يجب أن تأخذ بالاعتبار الواقع السياسي القائم، وليس واقعاً سياسياً مثالياً متخيّلاً، مثل أن تكون هناك أغلبيّة إسلامية ومسيحية تدعم جهة سياسيّة واحدة أو متحالفة (مجتمع مدني مثلاً). أولاً، هناك إشكاليّة طائفيّة في المدينة: 65 % من الناخبين من المسلمين، أما المسيحيون فـ 35 %. وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة هو إما عمل طائفي مقنّع، وإما نتيجة سذاجة عقائديّة. وفي الحالتين المفعول يأتي عكسياً، بزيادة نسبة التوتّر الطائفي ومشروعيّة التقسيم على أسس طائفيّة. الثاني هو أن المناصفة بحد ذاتها (حتى المقرّة قانوناً) لا تعالج الهواجس المطروحة، فيمكن بكل سهولة لتحالف إسلامي عريض أن يختار اثني عشر عضواً مسيحياً للمجلس البلدي، لا يكون أي منهم ممثلاً حقيقياً (authentic representative) للمناطق ذات الأغلبية المسيحية. وهذا نقاش سبق أن خيض بخصوص الانتخابات النيابيّة وقانونها، بحيث كان المسلمون ينتخبون ثلث النواب المسيحيين. وقد أدى الإصرار الإسلامي على الاحتفاظ بنواب مسيحيين لا يمثلون طائفتهم إلى توحّد المسيحيين على المطالبة بقانون الانتخاب الحالي، والذي يقسّم بيروت إلى شطرين. إذاً لا فائدة أبداً هنا من استبدال "قهر" إسلامي من صلاحيات المحافظ بـ "قهر" مسيحي من مجلس بلدي لا يمثّلهم. وحينها، تحت شعار "السلم الأهلي"، يبقى الوضع بكل بساطة على ما هو عليه. أخيراً، لا شرعية لكل كلام "بعثي" الطابع عن "وحدة بيروت" (مدينة واحدة ذات رسالة خالدة!)، إن كان هذا الكلام يمنع البحث بصيغ ذكيّة ومرنة بخصوص آلية انتخاب أعضاء المجلس البلدي، مثل كون بيروت عبارة عن مجموعة متعدّدة من الدوائر (مثل الكثير من عواصم العالم) يجتمع من ينتخب فيها في هيكلية موحّدة.
لبيروت العاصمة خصوصيّة في رمزيتها، نظراً إلى التاريخ الأسود الذي كان قد قسّمها إلى شطرين، "الغربية والشرقيّة". لذلك تستحق كل جهد للحفاظ بالحد الأدنى على وحدتها، ولكن ليس بالغصب أو القهر (اللذين لا يدومان أصلاً) بل بالتفاهم والرضى. وعندها يمكن الالتفات حقاً إلى الأولويات التي تهم الناس بدل التلهّي بجنس الملائكة الطائفيين. تخرّج كبرى عواصم العالم رؤساء جمهورية، يذهبون مباشرة من رئاسة بلديّة العاصمة إلى رئاسة الدولة: أردوغان في اسطنبول (المدينة الأهم وليست العاصمة)، أحمدي نجاد في طهران، جاك شيراك في باريس. وما زلنا نحن في بيروت غارقين في نقاش لا علاقة له بالحداثة. فكيف إن كان ذلك على أبواب إقرار الحكومة قانون اللامركزية الإداريّة؟ عسى أن نكون في العام 2031 نناقش، كمواطنين بيارتة، مشاريع استعمال المجلس البلدي للذكاء الاصطناعي، بدل الخلاف حول سلّة قوانين تغضب المسيحيين والمسلمين معاً، ولا تفيد مواطناً أقصى طموحه إشارة سير على تقاطع الصنائع تعمل بشكل طبيعي.
صالح المشنوق -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|