السجون تغلي: اكتظاظ وظلم قضائي وتجاهل للمادة 108 يهدد آلاف السجناء
في زاوية منسية من الجغرافيا اللبنانية، حيث تتحول الزنازين إلى توابيت مؤقتة، وحيث الهواء يُقاس بميزان الخوف، شقّ صراخ السجناء أمس طريقه عبر جدران الإسمنت إلى البرلمان الأصمّ، الذي اعتاد دفن الملفات في مقابر اللجان. هناك، في رومية، لا يُشعل الاحتجاج فتيل التمرد فحسب، بل يوقظ الضمير الميت على وقع الحبال المعلّقة كرمز احتجاجي لا كوسيلة انتحار، في رسالة أخيرة من أجساد أرهقها الانتظار.
في بلد تُختزل فيه العدالة بمقايضات سياسية وطائفية، يصبح العفو العام ورقة مساومة لاحقاً إنسانياً. وبين موقوفين بلا محاكمة، وقوانين معلقة على شماعات الطوائف، تزدحم السجون بثلاثة أضعاف قدرتها، بينما تنوء الدولة بعجز أخلاقي لا إداري فقط. فمشروع القانون الذي كان كفيلاً بكسر الحلقة الجهنمية أُحيل مجددا إلى مستودع التجميد اي اللجان النيابية، حيث تموت القوانين ببطء.
التلكؤ "يُفوّل" الاصلاحيات
في ضوء ما تقدم، تؤكد المحامية ماريانا برو لـ "الديار" أن "تقاعس القضاة في تطبيق القانون وعدم احترامهم للنصوص القانونية، إضافة إلى استهتارهم بمصير الناس، يؤدي إلى اكتظاظ السجون، وصولاً إلى حالات وفيات لا تُعرف أسبابها، ولكنها بلا شك نتيجة لشدة الظلم، والإهمال الصحي والطبي، وتأخر البت في المحاكمات. فسابقاً، عندما كان الوزير بسام المولوي وزيراً للداخلية، عقد المحامون مؤتمراً، وطرحت عليه أسئلة بشأن ثلاث وفيات لمساجين، وقال حينها إنه سيفتح تحقيقاً في هذه القضية، ولكن لم يحصل شيء في هذا الموضوع".
إهمال وتقصير!
وتكشف: "لقد سمعنا منذ فترة عن وفاة سجين في سجن رومية، وأنا هنا أطرح سؤالاً: هل القضاة على بينة بهذه التفاصيل؟ هل يستطيع هؤلاء تحمل تبعات ظلم أشخاص نتيجة تأخر محاكماتهم؟ مع العلم أن بعضهم تثبت براءتهم بعد مرور سنتين وثلاث سنوات، وبالتالي يتدمر مستقبل هؤلاء وتتشتت عائلاتهم، بالإضافة إلى خسارتهم لوظائفهم. وتشير إلى أن الجميع يعرف متى يُتهم فرد ما بأنه مجرم، لكن لا أحد يعلم متى يخرج بريئاً. لذلك، إذا طبق القضاة القانون، ومن ضمنه المادة 108 التي تنص بالتفصيل على أن مدة التوقيف الاحتياطي في الجنحة هي شهران، وتمدد لأسباب ضرورية جداً وهامة لفترة مماثلة، أي شهرين إضافيين، لكن بعد ذلك، فإن الإفراج عن الموقوف يصبح واجباً بعد انقضاء هذه الفترة. أما في الجناية، فتبلغ مدة التوقيف ستة أشهر، وتمدد إلى ستة أشهر أخرى بشرط وجود تعليل وأسباب خطيرة، باستثناء بعض الحالات المحددة حصراً كجرائم القتل والمخدرات. وتسأل برو: هل يطبق القضاة نص المادة 108 وأصول المحاكمات الجزائية؟ وتجيب: بالطبع لا".
تبديد التشريعات "مقصود"
وتضيف: "هناك نزلاء يعد اخلاء سبيلهم حقاً لا يجوز التباطؤ في تنفيذه حتى من دون كفالة، وفقاً للقانون، إذا امضوا فترة أربعة أشهر مثلاً ضمن الجنحة، أي أنهم انهوا المدة التي نص عليها القانون، ومع ذلك لا يزالون موقوفين، في ما يرفض القضاة الإفراج عنهم. فما الأسباب؟ ولماذا يصرّ القضاة على مخالفة القانون، وهم على دراية باكتظاظ الزنازين ويعلمون أن الكثير من هؤلاء المصفدين قسراً هم أبرياء".
وتشدد على انه "حتى وإن كان الفرد مذنباً ومرتكباً لأي جرم، ينبغي تطبيق القانون بحقه. إضافة إلى ذلك، الإنسان الذي يدخل إلى أي من سجون لبنان، يعد كل يوم يقضيه داخل الحبس بمثابة سنة. لذلك، أتوجه إلى السلطة القضائية بالسؤال: هل هناك قضاة يزورون السجون ويعاينون الجو البائس الذي يقبع فيه المحتجزون؟ فالغرفة التي تسع لخمسة تحتوي على خمسمئة! وهل يدرك هؤلاء بموت أشخاص بسبب المرض والقهر والحزن؟ أحمّل بصراحة القضاة مسؤولية هذا الاكتظاظ. وتُحل هذه الازمة من جذورها عندما يطبق القضاة القانون ويعدلون ويتعاملون مع هذه المسألة بضمير. وانا لا أُجْمِل جميع القضاة، إذ لكل قاعدة استثناء، وكما يوجد قضاة فاسدون، هناك قضاة عادلون وبعضهم رائعون، يقرؤون ملفاتهم بدقة ويطبقون القانون بشكل منصف. لكن، تبدي الغالبية من هذه الطبقة استعلاء في الاطلاع على الملفات، بل يعتبرون أنه لا دخل لهم، فيحيلونها إلى قاضٍ آخر، وبالتالي لا أحد منهم يريد القيام بواجبه بشكل صحيح".
الإنسانية "مُنتهكة"
وتتابع: "أين حقوق هؤلاء من الأوضاع المزرية في الحجرات المغلقة، حيث لا نظافة ولا أدنى مقومات الحياة التي تليق بالإنسان، في ظل غياب الأطباء والعلاج والأدوية؟ ناهيكم عن شظف اهل السجين وعدم قدرتهم على تلبية احتياجاته الغذائية، وقد رأينا وفق تقرير إعلامي وجود الجرذان والصراصير في الطعام".
وتشير لـ"الديار": "تبين لي من خلال سؤال طرحته على إحدى صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي عن القضاة الذين يزورون السجون، علمت أن هناك قاضياً اسمه محمد سلام كان يقوم بذلك. كما أعلم أن القاضية جويل أبي حيدر، في ما يتعلق بالقاصرين، كانت تذهب للاطمئنان عليهم، فوجع السجون لا يشعر به إلا من يتألم. فالبريء يبقى مأسوراً لسنتين وأكثر، فهل هذه هي العدالة؟ وهل المذنب لا يستحق فرصة ثانية، ليُعاقب بالسجن أكثر من مدة محكوميته فيتحول الشخص أكثر شراسة وإجراماً؟ فالسجون وجدت للإصلاح، إلا أنها في لبنان تحول الإنسان الطبيعي إلى فرد غير سوي".
وتشدّد على "وجوب زيادة عدد القضاة وتحليتهم بمقومات تليق بهم، ونطالب بتأمين كافة حقوقهم، بشرط أن يعدل هؤلاء ليوفقهم الله في عملهم، لأن كل شيء "كارما" في الحياة، وكل ما يُزرع يُحصد".
القصّار "بخطر"
وفي موضوع القاصرين، تقول:" الحديث عنهم يطول، إذ إن حقوقهم مصادرة، وبعض مندوبي الأحداث يتعاملون وكأنهم خصوم للقاصر، ويفتقد قسم منهم إلى الثقافة والحس الإنساني، ويحتاج هؤلاء إلى علاج نفسي بصراحة. في المقابل، هناك مندوبون ممتازون ورائعون. كما أن قانون حماية الأحداث لا يُطبق في لبنان، بحيث يُعامل القاصر كأنه شخص بالغ ولا تُراعى السرية. فإذا ارتكب القاصر أي جرم، سواء وُجد دليل أو لم يُوجد، تُنشر صورته، وهذا يؤدي إلى التهجم الإلكتروني عليه إلى جانب التشهير به. فضلاً عن القضاة الذين يتركون القاصرين موقوفين سنة وسنتين، بينما إذا تمت محاكمتهم، قد تكون مدة الحكم أقل من مدة توقيفهم".
وتعتبر "ان لبنان بات مقبرة حقوق الإنسان، إذ لا عدالة ولا من يعدلون، ونتأمل خيراً في العهد الجديد لإصلاح جميع الثغرات القضائية، لأنه بلد لا قضاء فيه فلا عدل فيه، بلد يفتقد إلى الأمان والاستقرار".
الحلول مقترحة "مُجدية"
وتكشف لـ "الديار" أنه "تم اقتراح عدة حلول لاكتظاظ السجون، من بينها حضور المحامين جلسات في روميه، لكن هذا الحل، من وجهة نظري، فاشل، لأنه لا يضع الإصبع على الجرح. يكفي تطبيق القانون، والالتزام بنص المادة 108، وإنشاء سجون تليق بحقوق الإنسان. فمليارات الدولارات التي اهدرت، كان الأولى صرفها على تشييد سجون محترمة، وتأمين النظافة والدواء حتى تكون الزنازين على الطريق الصحيح. أما الحلول التي يتحدثون عنها، فهي تدور في حلقة مفرغة ولا تؤدي إلى النتائج المرجوة".
وتختم قائلة: "رسالتي إلى القضاة: طبّقوا القانون بحذافيره، ولا تتأثروا بالرأي العام السلبي، اعملوا وفق قناعاتكم، فلا عقوبة دون نص، ولا اتهام لإنسان دون دليل دامغ. لا تؤلفوا عقوبات على هواكم، ولا تجنحوا نحو اتهامات مفبركة. وفي بعض الحالات، قد يكون للرأي العام دور مهم، خصوصاً عند محاولة أي طرف نافذ طمس الحقائق".
الديار - ندى عبد الرزاق
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|