ترين سوريا وحصان لبنان
لا مهرب من المقارنة، ولو على حساب التفاؤل الحذر. ومن سخرية القدر أن نستذكر هنا المقولة الشهيرة للنظام البعثي عن الطبيعة "التكاملية" من "القطر اللبناني"، إذ كان يقول حافظ الأسد إن بين لبنان وسوريا "وحدة مسار ومصير". هذه المقولة المكروهة من الغالبيّة العظمى من اللبنانيين، بمعناها البعثي القمعي والعبثي، أضحت بعد اقتلاع نظام الأسد من سوريا وهزيمة "حزب الله" في لبنان تؤسس لسؤال جوهري يدور في بال كل من يراقب المشهد الإقليمي: لماذا تبدو سوريا تنطلق بسرعة قطار ياباني باتّجاه النمو والحداثة والشراكات الإقليمية الاستراتيجيّة، بينما لبنان يبدو مترنحاً،سائراً في الاتجاه الصحيح ولكن على ظهر حصان؟
الفرق بين البلدين يكمن حتماً في درجة الحسم على مستوى الخيارات الاستراتيجية التأسيسية للمستقبل، وذلك على ثلاثة مستويات: الخروج النهائي والحاسم من المحور الإيراني، الشراكة التكاملية الشاملة مع التكتلات الاقتصادية الناشئة في الإقليم، والقرار التاريخي بإنهاء حالة الصراع مع إسرائيل. استلم الشرع بلداً منهاراً ومفككاً، يعاني من ثلاث معضلات اثنيّة الطابع (علوي، كردي، درزي)، كما أنّ هيكليّته العسكرية والأمنية التي انطلق منها من إدلب لتحرير دمشق من الحكم الأسدي كانت تعاني من آفة "الجولانيين الصغار"، أي بقايا التنظيمات الأصولية المتشدّدة.
أدار الشرع سلسلة التحديات التي واجهته بشجاعة ووعي استثنائيين،مقدماً مجموعة التزامات حاسمة بخصوص كافة الملفات الأساسية. خاطب العرب والغرب بلغة المصالح الحديثة للدول الوطنية، مبتعداً عن لغة الأيديولوجيا والقومية البائدة، واعتمد منطق الشراكة والاستثمارات، مبتعداً عن عقليّة "الشحادة" القائمة على المعونات، التي لم يعد لها أي صدى يذكر في العقل الجديد للقيادة في الخليج العربي. فَهِم محوريّة الدور السعودي ولو على حساب التكامل شبه العقائدي مع راعي حالته الأساسيّة أي تركيا، فوازن بدقّة بين الشراكتين. استوعب بحكمة التصرّفات الإسرائيلية شبه الهيستيرية في الداخل السوري، وانتقل سريعاً إلى الإقرار بمبدأ إنهاء الصراع عبر المضي بمفاوضات سياسيّة برعاية أميركية وغطاء عربي.لا خجل ولا حذر ولا تمسّك بأي من مخلّفات الماضي الفكرية. كما أنه أرسل إشارات جديّة على قدرته على استيعاب المسائل الإشكالية الأقلويّة، وقد برز أخيراً إنشاء نشرة إخبارية باللغة الكردية على التلفزيون السوري الرسمي.
"باكيدج" أولي متكامل سمح للدول الراعية بتجاوز عقدة "البيضة والدجاجة"، والمضي قدماً بمجموعة استثمارات كبرى في سوريا، برز منها عقد مع قطر بسبعة مليارات دولار للاستثمار في قطاع الطاقة الغازية والشمسيّة في خمس محافظات سورية، إضافة إلى مذكّرة تفاهم مع شركة "موانئ دبي العالمية" بقيمة 800 مليون دولار لتطوير البنية التحتية للموانئ والخدمات اللوجستية في سوريا، بدءاً بميناء طرطوس. "الحبل على الجرار"، كما يقول المثل، إذ أعلن وزير الاقتصاد السوري محمد نضال الشعار خلال ندوة منتدى الإعلام العربي في دبي أن سوريا غير معنيّة بتعبير "إعادة الإعمار"، الذي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، بل هي معنيّة ببناء سوريا الجديدة، التي قد تحتاج إلى ما يزيد عن تريليون دولار من الاستثمارات في العقود المقبلة.
أما لبنان فمسار مشابه بنيّاته، ولكنه مختلف جذرياً بخطواته. الخطر في ذلك يكمن في أن "القطار قد يفوتنا"، كما يقول المثل الشعبي، أو أن يتحوّل لبنان "من دولة مأزومة إلى دولة منسيّة"، على حدّ وصف الصديق الألمعي والمقدام نديم قطيش. حينها سيبقى لبنان يعتاش على "الفتات"، أي الفوائد الاقتصادية والمالية وربما المصرفيّة لـ "العجيبة السورية" المنتظرة. لا استثمارات استراتيجيّة ولا شراكات بنيويّة، بل بضعة سياح من هنا وهناك، هذا إن أتوا.
هنا لا بد من لفت النظر إلى المقال "القاسي" للكاتب السعودي طارق الحميّد في صحيفة الشرق الأوسط السعودية تحت عنوان "نعم...قارن لبنان بسوريا"، والذي انهاه بالقول (نيابة عن دول الخليج؟) إن "لا أحد يريد إضاعة وقته، وجهده، وماله، لإنقاذ من لا يريد إنقاذ نفسه". وهذه التعابير (على قسوتها) تعبّر بشكل من الأشكال عن "ملل" الدول الإقليميّة من ما يعتبرونه "دلعاً" لبنانياً في مقاربته للعناوين الاستراتيجية الكبرى، ويحمل في طيّاته أيضاً تراكمات العقد الأخير من التجربة اللبنانيّة – المافيا والميليشيا بنسختها الإيرانية - التي أسّست لعقم دفين في العلاقات يصعب تجاوزه بأنصاف الحلول والزيارات البروتوكولية.
لا شك هنا أن الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام يملكان "النيّة" المبدئية في نقل لبنان من مكان إلى آخر. وقد بدا ذلك جلياً في حديث الرئيس سلام عن "انتهاء عصر تصدير الثورة الإيرانيّة" وإشارته إلى أننا "طلاب السلام"، كما في خطاب القسم لرئيس الجمهورية، إضاقة إلى زيارة كل من الرئيسين إلى دول الخليج بصفتهما جزءاً لا يتجزأ من الرؤية الاستراتيجيّة المستقبلية (المبدئيّة، غير المكتملة) لموقع لبنان في المنطقة. ولا شك أيضاً أن حالة "الحاكم الأوحد" أحمد الشرع في سوريا - والآتي بدفع إسقاط نظام الأسد بالقوة العسكرية - تساعد على المضي قدماً بسرعة وفعالية يصعب على لبنان استنساخها بالكامل. لكن كل ذلك لا يبرّر عدم القدرة على المضي قدماً كما يجب على وقع "القطار" السوري.
لا مكان في الشرق الأوسط الحديث لأنصاف الحلول، وبقايا الأيديولوجيات، و"الطوائف المجروحة"، و"شمال و جنوب الليطاني"، و"الحوار" من دون أفق زمني وخريطة طريق واضحة المعالم، ونظريات "آخر من يوقّع سلام مع إسرائيل" (والأطماع الإسرائيلية في لبنان!)، وإبقاء لبنان رهينة "القضيّة الفلسطينية"، و"خطر الحرب الأهليّة" (في سوريا خطرها أكبر وأعمق)، والتباطؤ في المضي قدماً بمحاربة الفساد والرؤية الاقتصادية المتكاملة والحديثة وعمادها القطاع الخاص والشراكات الإقليمية العميقة والمنتجة. لا مكان للشفقة أو التعاطف من قبل أي أحد مع لبنان لأن "الجبل قريب من البحر". ولا مكان في لبنان للتأجيل، أو التردّد، أو المراوغة في أي من المواضيع، وعلى رأسها موضوع سلاح "حزب الله"، كل السلاح، في كلّ بقعة من لبنان، فوق الأرض وتحتها.
حان وقت الخيار: القطار أو الحصان، نكون شركاء أو لا نكون.
صالح المشنوق -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|