الصحافة

يجمعهما "أعداء مشتركون"...إسرائيل وسوريا وآفاق السلام المنتظر

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تشهد المنطقة تحوّلات جيوسياسية كبرى تحدث عادة مرّة كلّ قرن. هذه التغييرات العميقة والمستمرّة تُعيد صياغة المشهد السياسي والدبلوماسي بشكل جذريّ. سوريا إحدى الساحات الأساسية التي ما زالت تختبر "العبور" منذ انهيار نظام الأسد في 8 كانون الأوّل 2024.

تتمتّع سوريا بموقع إقليميّ جيوستراتيجي مهمّ للغاية، فهي تعتبر "بوابة المشرق"، وجذبت أنظار "الكبار" بنسفها "الهلال الشيعي" الذي كان يربط طهران ببيروت، بعدما نجح القائد السوري أحمد الشرع ورجاله، برعاية أنقرة، بإطاحة بشار الأسد وطيّ صفحة "البعث". ورغم موجات الضربات الإسرائيلية المكثّفة التي دمّرت مواقع عسكرية وبنى تحتية استراتيجية في سوريا بعد سقوط النظام السابق، وتوسيع الجيش الإسرائيلي نطاق سيطرته داخل الأراضي السورية، إلّا أن العلاقات الإسرائيلية - السورية قد تتكلّل بمحطّات مفصلية لم يكن يتوقّعها أكثر المتفائلين.

تواجه سوريا تحدّيات داخلية وخارجية متشعّبة ومتقاطعة في أحيان كثيرة، إلّا أنّ العقبات تتذلّل أمامها حتى الساعة بمساعدة حلفائها، وعلى رأسهم دول الخليج العربية وتركيا. تنفّست دمشق الصعداء بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات المنهكة عنها، بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في وقت تبعث فيه القيادة السورية برسائل تخطّت مستوى الطمأنة لإسرائيل وتوّجَت بلقاءات غير مباشرة وحتى مباشرة، وفق بعض التقارير، لفتح قناة تواصل بينهما وبحث الترتيبات الأمنية اللازمة لإعادة إحياء اتفاق "فض الاشتباك" لعام 1974 والعمل لاحقاً على اتفاق "عدم اعتداء"، ما قد يُعبّد الطريق أمام انضمام سوريا إلى نادي دول "اتفاقات أبراهام" متى دقّت "ساعة السلام".

حصلت لقاءات سرّية بين مسؤولين سوريين وقادة من الحركة الصهيونية قبل عام 1948. كما نظّمت محادثات إسرائيلية - سورية على مستويات سياسية وأمنية وعسكرية متفاوتة وفي أماكن مختلفة، قبل حكم "البعث" وخلاله وبعده.

لكن ما يُميّز اللقاءات الأخيرة المتنقلة من أوروبا إلى أذربيجان وصولاً إلى الجنوب السوري، أنها تأتي في سياق تغييرات جوهرية تمسّ أسس النظام الإقليمي قيد التشكيل، ما يرفع من فرص نجاحها وتسجيل "خروقات تاريخية" على صعيد العلاقات الثنائية في إطار "المشهد الإقليمي الأوسع". قنوات التواصل بين الفريقين غدت مفتوحة على مصراعيها وبرعاية أكثر من طرف إقليمي. ورغم تضارب الخلفيات والأيديولوجيات، بيد أنّ "لدى سوريا وإسرائيل أعداءً مشتركين" ويمكن لهما "لعب دور رئيسي في الأمن الإقليمي"، كما نقل الكاتب ورجل الأعمال الأميركي جوناثان باس عن الرئيس السوري أحمد الشرع الذي استقبله في دمشق أخيراً.

يتعاطى الشرع، الذي خاض غمار "الحياة الجهادية" من العراق إلى سوريا وخضع لدورات "إعادة تأهيل" غربية أوصلته لمصافحة ترامب في الرياض، بلغة "المصالح المشتركة" لا بمنطلقات عقائدية جامدة مع العالم الخارجي، بصرف النظر عن الواقع السوري الداخلي وفرض النظام الوليد نموذجاً إسلامياً متزمّتاً على المجتمع. ومن الواضح أن الشرع شديد الحرص على انتقاء كلماته وتعابيره حين يتوجّه إلى الخارج. لكن ماذا تريد "سوريا الشرع" من إسرائيل؟

بكلّ بساطة، تجهد دمشق لتمتين دعائم نظامها الجديد وانتشال البلاد من كبوتها بجذب استثمارات ومشاريع ضخمة هي بأمسّ الحاجة إليها لبناء "سوريا الجديدة". ولن يكتب النجاح لهذه الطموحات الاقتصادية والتنموية من دون علاقات هادئة ومستقرّة مع الغرب ودول الجوار، ولا سيّما إسرائيل.

لهذا تعمد دمشق على "ترطيب الأجواء" مع تل أبيب، على أمل وقف "الحملات الجوّية"، التي انخفضت وتيرتها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، ولما لذلك من انعكاسات إيجابية على الجنوب السوري كما في كافة أنحاء البلاد، في ما يتصل بمسألة الأقليات، التي تحتاج أصلاً إلى "حلول لامركزية" تعترف بالواقع التعدّدي وتحترمه. نالت سوريا "الجائزة الأولى" بقرار رفع العقوبات الأميركية تحديداً والغربية عموماً، إضافة إلى تطبيع علاقاتها مع واشنطن.

تراهن دمشق على "العم سام" للانتقال إلى مستوى جديد في المحادثات مع تل أبيب. وفي هذا الإطار بالذات، أطلق المبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك من دمشق أواخر الشهر الماضي، دعوته لسوريا وإسرائيل إلى البدء باتفاق "عدم اعتداء" بينهما والحديث عن الحدود، مؤكداً أنه يرى إمكانية لتحقيق السلام بين البلدَين.

في المقابل، يُخطئ من يعتقد أن المقاربة الأمنية الإسرائيلية التي استحالت "هجومية - استباقية" بعدما كانت "دفاعية - ردعية" قبل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، هي تكتية أو مرحلية أو خاصة بحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. إسرائيل بعد "طوفان الأقصى" لم تعد كما كانت قبله، خصوصاً في مواجهتها التهديدات الداهمة أو المحتملة. ما زالت تل أبيب تعيد بلورة "عقيدتها الأمنية" بناء على تجاربها واختباراتها على الجبهات المتعدّدة التي خاضت وتخوض فيها صولاتها وجولاتها.

لا تثق إسرائيل بأي سلطة أو مجموعة منبثقة عن تيارات إسلامية، فكيف الحال إن كانت جهادية، ولو مهما بلغت من براغماتية. تبذل الدولة العبرية كلّ جهد ممكن وتتصرّف بحرّية شبه مطلقة لضمان عدم تعرّضها لهجوم مباغت شبيه لما حصل في غلاف غزة، من أي "جبهة محتملة". لذلك، وسّعت رقعة سيطرتها في الجنوب السوري وعكفت على منع أي تموضع عسكري تعتبره خطراً على أمنها القومي.

كلّ هذا يُعطينا صورة أكثر من واضحة عمّا تريده إسرائيل من سوريا. ورغم صعوبة القبول بالشروط الإسرائيلية القاسية وتحدّي اقتناع تل أبيب بضرورة التعاون مع "دمشق الإسلامية"، إلّا أنّ هذه العوائق لم تمنع الدولتين من إجراء حوار لتهدئة التوتّر، الأمر الذي قد يؤدّي إلى اتخاذ خطوات صعبة متبادلة تحاكي هواجس الطرفين، وتعالج المخاوف الأمنية لتل أبيب ضمن ترتيبات معيّنة بضمانات إقليمية ودولية صلبة، وتؤمّن لدمشق بيئة مؤاتية جاذبة للاستثمارات الخارجية، بيد أنّ قضية مرتفعات الجولان التي سبق لأميركا أن اعترفت بسيادة إسرائيل عليها، تبقى معقدة وشائكة إلى حدّ كبير.

الخطوات الأولى انطلقت بالفعل مع فتح قنوات تواصل بينهما، لتتبعها تعهّدات متوقّعة، إن سارت الأمور على ما يرام، بالالتزام المتبادل باتفاق "فض الاشتباك"، وتتطوّر لاحقاً إلى توقيع اتفاقات حدودية وغير حدودية أكثر شمولاً، وصولاً ربّما إلى تطبيع كامل للعلاقات والسماح باستثمارات إسرائيلية داخل سوريا، إذا سنحت الظروف بالدفع قدماً نحو تحقيق ذلك مستقبلاً.

استطاعت إسرائيل تقطيع أوصال "الأخطبوط الإيراني" وإعطاب أذرعه في الشرق الأوسط، وهو ما شرّع الأبواب عملياً لكلّ هذه التغييرات التاريخية، ولا سيّما في سوريا. تبحث "سوريا الجديدة" المنبعثة من "نكبة جسيمة" عن شركاء جدد لمجابهة التحدّيات العظيمة والمتنوّعة، وهذا ما يحتّم عليها، بحكم "الواقعية السياسية"، التعاطي مع القوى الإقليمية والدولية وفق "المصالح المشتركة".

إن عداء البلدَين المشترك لـ "محور الممانعة" بقيادة طهران وما يطرحه من تهديدات على الطرفين، فضلاً عن "الطلاق السوري" مع "المقاربات المؤدلجة" السابقة، إضافة إلى ما تفرضه متطلّبات المرحلة الحالية وأولوياتها المرتبطة بالاستثمار والبناء والتعافي... كلّ هذه النقاط وغيرها تجعل التقارب بين سوريا وإسرائيل أمراً واقعياً. التطبيع بين دمشق وتل أبيب ليس قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لكنه أصبح أقرب من أي وقت مضى، فيما تبقى كلّ الاحتمالات واردة في عصر التطوّرات المتسارعة والانعطافات المفاجئة.

جوزيف حبيب -نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا