الصحافة

شطبان لا يلتقيان: الودائع ومسؤوليّة الدّولة..

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

حملت الأسابيع القليلة الماضية تطوّرين إيجابيَّين في ملفّ الودائع، أحدهما من حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، والآخر من صندوق النقد الدولي إثر زيارة بعثة الصندوق للبنان التي أسقطت الكثير من المواقف التي أُلصقت به. إذ إنّها كانت واضحة في إعطاء الأولويّة لـ”حماية الودائع إلى أقصى حدّ ممكن” و”استعادة قدرة القطاع المصرفي على العمل” و”البدء مجدّداً بإقراض القطاع الخاصّ”.

عاكس هذا الموقف ما يروّج له اللوبي الذي يخوض معركة تخصّه مع بعض البنوك، من أنّ “الأزمة ليست نظاميّة”، وأنّه ينبغي عدم تحميل الدولة أيّة التزامات لحلّها. ولطالما استند هذا اللوبي إلى مقولة إنّ صندوق النقد لن يقبل بأيّة خطّة لا تكفل استدامة الماليّة العامّة والعدالة بين الأجيال، قافزاً إلى استنتاج أنّ تحييد الماليّة العامّة عن أعباء الأزمة يتقدّم في الأولويّات على حماية الودائع.

أتى بيان صندوق النقد في ختام مهمّة بعثته ليكسر هذا الاستنتاج (المتعسّف)، إذ إنّه قدّم ستّة مجالات للإصلاح تناولتها المباحثات الأوّليّة التي أجرتها بعثته في لبنان، وهي:

1-استعادة قدرة القطاع المصرفي على العمل وحماية المودعين إلى أقصى حدّ ممكن.

2- تحقيق الاستدامة الماليّة واستدامة الدين، مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وإعادة بناء القدرات المؤسّساتية.

3- إرساء أطر موثوقة للسياسات النقدية وسعر الصرف.

4- تعزيز الحوكمة والشفافيّة.

5- تعزيز نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

6- إصلاح المؤسّسات المملوكة للدولة.

ما يختلف في هذه الأولويّات عن مقاربة “كلّنا إرادة” تحديداً، أنّ هذه الأخيرة تذهب بعيداً في تفسير مبدأ “هرميّة المطالبات”، وهو مبدأ لا خلاف عليه أصلاً، بأنّ الخسائر (ويقصد بها غالباً الودائع) تُحمّل إلى مساهمي البنوك أوّلاً، وما لا تتمّ تغطيته منها يُحال على صندوق استرداد الودائع، لكن مع تأكيد أن لا يشكّل ذلك التزاماً إضافيّاً على الدولة.

أيّة معالجة لأزمة الودائع من دون تحمّل الدولة لمسؤوليّاتها تبقى وهماً. فإمّا أن يُشطب “شطب الودائع”، وإمّا أن تُشطب فكرة تحييد الدولة عن المسؤوليّة
أين التزامات الدّولة؟

لمّا كانت أموال المصارف الخاصّة لا تغطّي أكثر من 10% من الودائع، يصبح واضحاً مصيرُ ما بقي منها أمام الإصرار على عدم إنشاء أيّة التزامات جديدة على الدولة.

تبدو هذه المقاربة الدفتريّة وكأنّها تميل إلى تصفية البنوك، مقابل مقاربة أخرى تعطي الأولويّة لإعادة تأهيل القطاع المصرفي ليلعب دور الوساطة الماليّة في الاقتصاد، مع كلّ ما يقتضيه من إعادة إطلاق عجلة الإقراض للقطاع الخاصّ، لتمويل النشاط الاقتصادي.

من الواضح أنّ الفكر السائد في الحكومة ومصرف لبنان يميل إلى المقاربة الثانية، من باب أنّ تحريك النشاط الاقتصادي كفيل بإعادة تكوين رأس المال واستعادة الثقة، وما من سبيل آخر غير هذا السبيل لإعادة الودائع، مع تأكيد المسؤوليّة التي لا مفرّ لأصحاب البنوك من تحمّلها في إعادة رسملة مصارفهم وضخّ أموال طازجة فيها، ستكون في الغالب من الأرباح التي جنوها بأرقام فلكية نتيجة الفوائد غير الطبيعية التي دفعها لهم رياض سلامة عبر الهندسات الماليّة السيّئة الذكر.

كان التطوّر الآخر الإيجابي، الذي سبق زيارة بعثة صندوق النقد الدولي، في إعلان حاكم مصرف لبنان خلال اجتماعه مع جمعيّة المصارف عن محدّدات مبدئيّة لمعالجة الأزمة المصرفيّة، أهمّها التأكيد أنّ المطلوبات على مصرف لبنان تجاه المصارف (تبلغ نحو 84.7 مليار دولار وفق آخر البيانات) هي التزامات تجارية، كما هي التزامات المصارف تجاه المودعين. ولذا تتمّ معالجتها في إطار إعادة هيكلة يتمّ التفاوض عليها، وربّما تشمل شطب الفوائد الجائرة وإعادة بناء سلّم الالتزامات لدى مصرف لبنان والمصارف.

تفكيك ألغام “لازارد”..

يفكّك هذا المبدأ ألغاماً عديدة تهدّد أيّة خطّة لمعالجة الأزمة المصرفية:

1- أكبر تلك الألغام هو الذي زرعته خطّة “لازارد” في عهد حكومة حسّان دياب، بنصّها على شطب معظم التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف، ووضع سقف لمساهمة الدولة في إطفاء خسائره لا يتجاوز إصدار سندات بـ2.5 مليار دولار. وتلك كانت وصفة جاهزة لإفلاس البنوك وشطب الودائع.

2- اللغم الآخر هو الخلط بين الذمّة الماليّة للدولة والذمّة المالية لـ”مصرف لبنان”. وهذا الخلط هو الذي يدفع بعض أصحاب الأفكار “التأميميّة” إلى تأييدهم شطب توظيفات البنوك لدى مصرف لبنان، كما لو أنّها مكسب مشروع للمال العامّ من البورجوازية المصرفيّة (!)، متجاهلين حقيقة أنّ شطبها يعني شطب الودائع.

لكنّ هذين التطوّرين لا ينفيان حقيقة أنّ الفجوة الكبيرة التي تحول دون إعادة الودائع ما زالت قائمة، وهي ناجمة عن ثلاث ضربات تلقّتها قاعدة موجودات البنوك:

1- ضربة لمحفظة القروض للقطاع الخاصّ نجمت عن تسديد القروض على سعر الصرف القديم (1500) وتجارة الشيكات، بتواطؤ وسمسرة من البنوك ومديري فروعها.

2- ضربة لمحفظة “اليوروبوندز” الحكومية نتيجة توقّف الدولة عن السداد.

3- ضربة لمحفظة التوظيفات لدى مصرف لبنان بعدما توقّف عن السداد نتيجة الفجوة الكبيرة في ميزانيّته.

يوفّر كلام سعَيد الأرضيّة القانونية والعمليّة لمعالجة الضربة الأخيرة فقط، لكنّه لا يقلّل من الحاجة إلى المعالجة الشاملة عبر قانون الفجوة الماليّة الذي لا يزال في مراحل مبكرة من التبلور. ولا يقلّل أيضاً من مسؤولية الدولة عن المساهمة في معالجة خسائر مصرف لبنان، ليس فقط لأنّ قانون النقد والتسليف ينصّ على ذلك، بل لأنّه تقع مسؤوليّة سياسية وماليّة وأخلاقية على الدولة في كلّ ما جرى.

نتائج انهيار اللّيرة

يكفي أنّ 34% من قاعدة موجودات مصرف لبنان (بعد استثناء خسائر فروق إعادة التقويم) موظّفة لدى الدولة، إمّا عبر محفظة “اليوروبوندز” (قيمتها الاسمية 6 مليارات دولار فيما لا تتجاوز قيمتها السوقية 900 مليون دولار)، وإمّا عبر السندات بالليرة والقروض المسحوبة على المكشوف، ومجموعها نحو 16.6 مليار دولار. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الضرر الكبير الذي وقع على ميزانيّة مصرف لبنان نتيجة انهيار سعر صرف الليرة منذ عام 2019، إذ إنّه ذوّب 98% من قيمة حيازاته من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، التي كانت تزيد على 30 مليار دولار قبل الأزمة ولم يبقَ من قيمتها شيء يذكر.

لذلك أيّة معالجة لأزمة الودائع من دون تحمّل الدولة لمسؤوليّاتها تبقى وهماً. فإمّا أن يُشطب “شطب الودائع”، وإمّا أن تُشطب فكرة تحييد الدولة عن المسؤوليّة. ولا يمكن الجمع بين الشطبَين.

عبادة اللدن - اساس ميديا

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا